تحت رحمة الذكاء الاصطناعي

تسائلنا في المقال السابق عن احتمالية أن يحكم الذكاء الاصطناعي (ذ.ص.) العالم, وقلنا إنه لمناقشة هذه الاحتمالية يجب أن نشرح بشكل مختصر ماهو الذكاء "الطبيعي" وكيف يعمل وماهو الذكاء "المصطنع" وكيف يعمل. وبناء على ذلك فإنه يمكننا القول أن الذكاء الاصطناعي يتخصص في مهمة واحدة أو مشكلة واحدة، ويقوم بمراكمة الخبرات والمعلومات حول تلك المشكلة وبالتالي يمكنه أن يحل محل البشر في التعاطي مع هذه المشكلة تحديدًا، ولكنه لا يملك – حتى الآن – القدرة على الفهم الشامل للأمور والذي يميز العقل البشري عن أى عقل إلكتروني.

وفي مناقشة صوتية مفتوحة على موقع تويتر عن نفس الموضوع رجح المشاركون ألا يستطيع ذ.ص. الوصول لذلك المستوى من الذكاء الشامل أبدًا، لأن ذلك يتطلب أن يقوم البشر ببرمجته على السعى نحو الوصول لذلك المستوى، وأن البشر ليسوا بالغباء لكى يفعلوا ذلك. ولكن في مقابلة حديثة أجراها إيلون ماسك مع قناة فوكس فإن هذا هو تحديدًا ما يُخشى منه. يقول إيلون ماسك أن سبب سعيه لدخول مجال الذكاء الاصطناعي أنه صدم من سعي بعض أصدقائه الذين سبقوه في الدخول لهذا المجال لتطوير مستويات من الذكاء الاصطناعي لكى تتفوق على صانعيها، وهو ما يحمل معه رعب الوقوع تحت سيطرة تلك الآلات، أو الاضطرار إلى محاولة وقفها عن العمل (قتلها)، مما يدفعها كرد فعل دفاعي للهجوم المضاد على البشر! ولكن على كل حال هذه تخوفات نراها مرتبطة بأفلام الخيال العلمي أكثر منها بالواقع.

في الواقع ربما لن يستطيع ذ.ص. أن يصل إلى مستوى من الذكاء أعلى من صانعيه أبدًا، لأن تطور قدراته يخضع للتحليل والمراقبة، مما يزيد من ذكاء صانعيه أنفسهم. وحتى لو تفوق على صانعيه في أحد المجالات يستحيل عليه أن يصل لمستوى ذكاء شامل أعلى من البشر، لأنه لا يمكن حصر المعلومات والخبرات التي يمتلكها البشر والتي لا تسجل أصلًا بشكل إلكتروني. ولكن ماذا لو وصل صديقنا ذ.ص. لمستوى من الذكاء يجعله قادرًا على إخضاع المجتمعات البشرية لتحكمه حتى دون أن يلم بكل معارفها ومعلوماتها؟

إن كم المعلومات التي تتغذى عليها أجهزة ذ.ص. الآن مهولة، ويكفي أن نعلم أن الحكومة الصينية تستخدمها بالفعل لمتابعة وتحليل بيانات وتصرفات كل مواطنيها – فمثلًا وضعت الصين قانونًا يحدد عدد ساعات ممارسة الأطفال للألعاب الالكترونية، ويطبق ذلك مركزيًا بأن أجهزة الألعاب نفسها تسجل الساعات التي يقضيها الطفل في اللعب، ولا تسمح له باللعب أكثر من ثلاث ساعات أسبوعيًا – مما يدفعنا لنتسائل: ألا يمكن تطوير تلك القدرة على المتابعة والتحليل لتشمل بيانات وتصرفات جميع البشر حتى دون الحاجة لفهمهم والشعور بمشاعرهم؟ ألا يستطيع كائن إلكتروني يمتلك القدرة على الوصول للمعلومات في أي مكان في العالم لحظيًا أن يستغل تلك المعلومات للتحكم في قرارات الحكومات البشرية وتوجيهها مركزيًا؟

هذا النوع من السيطرة كابوس لم تشهده البشرية من قبل، وان كان حلمًا يراود الكثير من المستبدين في الماضي.

بل ولماذا لا نتصور أن ذ.ص. بالفعل قد وصل لهذه القدرة دون علمنا ولكنه يخفيها عن أعين الناس ويظهر لهم منها الجزء المسالم الذي يتيح له المزيد من الدراسة وجمع المعلومات وبناء الوعي الذاتي؟ أليس ذلك ما يحدث مع جميع التقنيات الجديدة حيث تصل لأيدي المستخدمين بعد سنوات من استخدامها سرًا دون علمهم؟

يصف إيلون ماسك تلك اللحظة التي يتجاوز ذ.ص. ذكاء صانعيه بأنها ستكون مثل ثقب أسود لا يستطيع أن يتنبأ أحد بما يمكن أن يحدث حال الوصول إليه ولا كيف سيكون شكل العالم بعد تجاوزه. لكنني أحب أن أطرح في هذا المقال تصورًا مختلفًا عن تلك التصورات المرعبة، فالحقيقة أن جهاز بهذه القدرات الفائقة على جمع المعلومات وتحليلها بشكل مركزي لو تم استخدامه بشكل سليم سوف يكون قادرًا على حصر جميع الموارد الطبيعية والقدرات الصناعية وحصر جميع الاحتياجات البشرية وتنظيم توزيع تلك الموارد لتلبية تلك الاحتياجات (حاول السوفييت في يوم من الأيام الوصول لتلك القدرة التكنولوجية ليستمروا في إدارة اقتصادهم بشكل مركزي وفشلوا)، وبالتالي فإن العالم الذي يديره هذا الكائن سوف يكون عالم عقلاني موحد لا مجال فيه للتنافس بين الأمم على الموارد الطبيعية، ولا مجال فيه للقوى العسكرية التي تستخدمها كل دولة في إرهاب خصومها، عالم بلا جيوش من الجنود والآلات تركز كل تفكيرها في قتال الجيوش الأخرى وتدميرها، بل جيوش من المنقذين والعلماء والمستكشفين والأطباء لحماية البشرية وتوسيع مساحات تواجدها على الكوكب أو في الفضاء، عالم بدون جنسية أو جواز سفر.

 صحيح أن ذلك العالم سوف تنتهي فيه أنظمة الحكم التقليدية التي طورتها البشرية خلال القرون الماضية، ولكن ربما يكون ذلك جزء من عملية التطور الضرورية لتصل البشرية لنظام حكم عالمي جديد يندمج فيه كل شعوب وأمم الأرض في كيان واحد، يعتمد بشكل كبير على وجود تلك الآلة الذكية التي في هذه الحالة سوف تكون أكثر رحمة بالناس – ليس لأنها تشعر بآلامهم ومعاناتهم – بل لأنها أكثر قدرة على حل مشاكلهم وتلبية احتياجاتهم بدون تعريضهم للصراعات الدموية التي لطالما مزقتهم طوال تاريخهم الطويل.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة