لا تنقلوا العاصمة ولكن انقلوا السكان!

المقدر بالفعل أن مساحة القاهرة الحالية هي ربع المساحة التي تناسب تعدادها حسب المعدلات التخطيطية المقبولة، تلك المدينة التي بدأت مع محمد علي ربع مليون نسمة وصلت الآن إلى 20 مليون نسمة، يقدر متوسط كثافة القاهرة بأكثر من 600 نسمة في الفدان، يصل إلي 1200 في باب الشعرية مثلًأ. مساحة القاهرة 1% من مساحة المعمورة علي الأكثر، ولكنها تستقطب 20-25% من السكان. هذا كله يعبر ببلاغة عن مدى تكاثف البناء في القاهرة وازدحام الشوارع، بينما تكاد تختفي المساحات الخضراء والحدائق رئات المدن، بعدما كانت القاهرة في أوائل القرن الماضي تتخللها الحقول والقرى والبساتين، والأرض الزراعية كانت تحيط بها سواء غربًا في الجيزة كقرى الدقي وإمبابة وميت عقبة وبولاق الدكرور، أو شمالًا في أبعاديات شبرا. ولعل رقعة القاهرة قد نمت في القرن السابق أكثر مما نمت طوال الألف عام منذ نشأتها العربية، فقد انساحت من المقطم إلى الهرم ومن حلوان إلى شبرا.

ومن المحقق أن القاهرة نمت بالقطاعي ولصقت أجزائها بالتقسيط وبلا إطار عام، وهذا سبب القول بإن القاهرة من المدن التي يصعب التعرف علي أجزائها والحركة فيها.

مشكلة المواصلات في العاصمة مشكلة مزمنة حتى يأست تمامًا من الحلول السطحية – أعني الطرق البرية – فلجأت إلى الحلول تحت الأرضية كما تمثل في فكرة مترو الأنفاق، أو الحلول فوق الأرضية متمثلة في الكباري العلوية، حتي لم يسلم قبر العميد طه حسين من أحد تلك الكباري!

إلا أن جذور المشكلة تكمن في أكثر من قضية، بينها الفارق الحضاري، فشوارع المدينة خُططت في عصر – ولعصر – ما قبل السيارة وما قبل الصناعة، في بدايات القرن الماضي مثلًا كانت عربات تجرها الخيول والترام، بعد ذلك وسيلة النقل، لكن لم تكن تعرف التوكتوك والموتوسيكل وهي تعج بملايين من هذه الماكينات التي تسيء إلى تاريخ المدينة وتشوه المنظر الحضاري، خاصة أنها تنتشر في المناطق العتيقة، ولذا يجب إيقاف استيراد مثل هذه النوعيات من وسائل المواصلات الرخيصة القبيحة.

كما أصبح سكنى المقابر نمطًا عاديًا في حياة العاصمة – هل نقول ألهاكم التكاثر حتي سكنتم المقابر؟- فمنذ الأربعينيات أخذت الأحياء السكنية تختلط بالـ«قرافات» شرق القاهرة، حتى باتت مدن الأحياء تتداخل في مدن الموتى.

مشكلة سكان القاهرة في التركيب الاجتماعي، فبدون مبالغة أكثر من 80% من السكان المقيمين في القاهرة الآن ليسوا في الأصل من مواليد القاهرة، وما تاريخ القاهرة إلا مجموعة من الهجرات، وكما يصف حمدان «إن كان النيل يصب في المتوسط فإن مصر كلها تصب في القاهرة»، ولأغلب سكان القاهرة أقارب وعائلات وفروع أصولها في الريف، لذلك لهجة أهل القاهرة ولكنتها وعاداتهم في نمط الحياة والسلوك خليط ما بين الترييف والتمدن، لاسيما في المناطق الشعبية في قلب المدينة.

ولكن حان الوقت لغلق المدينة أمام الهجرة الداخلية، لأنها لا تستوعب أكثر من ذلك، والسبب في هذا ببساطة أن هناك سكانًا أكثر من وسائل النقل، ووسائل نقل أكثر من طاقة الطرق، ومما يضاعف من هذا التزاحم الرهيب بين المباني والمواصلات غياب التنسيق في التخطيط بين مواقع السكن والعمل، فنسبة كبيرة جدًا من سكان القاهرة يعملون حيث يسكن الآخرون، ويسكنون حيث يعمل الآخرون!

وقد جاء إنشاء الضواحي الجديدة والصناعات على أطراف المدينة ليضيف إلى المشكلة أبعادًا خطيرة، فمثلًا أنشأت مدينة نصر لخلخلة قلب القاهرة، إلا أن سكانها ظلوا يعملون في هذا القلب، في حين يعمل بها سكان أحياء متفرقة من العاصمة.

ومن الخطأ إداريًا أن يكون هناك ثلاث محافظات متداخلة بهذه الطريقة، يجب أن يكون هناك فاصل قاطع تتخلله مساحات خضراء، ووضع قانون حاسم لإيقاف أي بناء في قلب القاهرة، وهذا القلب يضم الجيزة وشبرا، وعند حصول الدولة على مساحة يجب أن تترك خالية بلا مشاريع إسكان، القاهرة تختنق وبدلًا من بناء عمارات سكنية تخل بالنسيج المعماري في تلك المناطق العتيقة من باب أولى تشجير هذه المناطق، وهذا لم يحدث في بولاق أبو العلا المنطقة التي تقع خلف ماسبيرو، وكذلك الآن مخطط في مناطق أول ونهاية شارع المعز، بإقامة فنادق، وهذا قرار خاطئ جدًا، كذلك في منطقة الأزبكية هناك مشروع لإقامة مجموعة فنادق!

يجب أن تتوقف أيضًا نغمة المدن الجديدة حول العاصمة وتبتعد عن العاصمة 60 كم على الأقل، لأن تلك المدن بدأت كمدن منفصلة ثم نمت واتصلت تلك المدن الجديدة وأصبحت ضواحي أو توابع ضخمة على أطراف المجمع العاصمي، فسببت الكارثة أننا الآن لا نعرف أين بداية ونهاية العاصمة حتى انفجرت على نفسها  من الداخل!

ما الحل إذن؟ هل عاصمة سياسية جديدة؟

إن الخطأ في القاهرة ليس في موقعها كعاصمة، وإنما الخطأ أنها تجاوزت السقف الأعلى لحجمها الأنسب، أنك مهما وضعت في القاهرة من مشاريع إسكان ومواصلات وتخطيط ..إلخ، فلن تحل مشكلتها، وأما الحل الجذري للقاهرة فهو القسمة على اثنين، أن تبعد نصف سكان القاهرة منها، بذلك تصح القاهرة وتصح مصر ذاتها.

ليس من المستحيل نقل نصف سكان القاهرة في دولة ديكتاتورية عاتية المركزية والبيروقراطية كمصر، سبق أن تم تهجير اهالي النوبة في بلدين عند بناء السد إلى منطقة أبعد عن النهر، من المعلوم أن القاهري من الصعب ترك مدينته حتى إن كان يعيش في عشة صفيح، فخروج السكان من القاهرة أصعب من خروج الاحتلال الانكليزي منها، ولكن على من يأتي الاختيار للخروج؟

الفقراء أم الأغنياء؟!

إذا نقلنا الأغنياء لم ننقل النصف ولا الثلث ولا الربع فالفقراء أكثر بكثير، فالمقدر أن 50% من دخل القاهرة أي النصف يذهب إلى 5% فقط من سكانها، بينما يعيش 95% منهم على النصف الآخر. إن فقراء القاهرة هم ضحايا أغنيائها، وعلى أية حال الأثرياء لا يعيشون في المناطق المزدحمة، هم يعيشون الآن في أطراف المدينة ويستعدون للانتقال إلي العاصمة الجديدة، ولكن نريد أن ينتقل نصف فقراء القاهرة إلى مناطق شعبية في تلك العاصمة الجديدة حتى تصبح مدينة بها روح وحركة وعمل، ومن يخدم مصالح الأغنياء ومشاريعهم سوى هؤلاء الفقراء!

وماذا بعد هل القاهرة انتهت كعاصمة؟

القاهرة لم تترك بسهولة وظيفتها السياسية لمدينة صحراوية ناشئة، ستحاربها وترفضها بكبرياء الأصل وبثقل التاريخ المجيد، وستظل العاصمة المتروبوليتانية الاقتصادية والبشرية الحقيقية للبلد، فمصر دولة قديمة جدًا، أقدم دولة في العالم، وعاصمتها عاصمة طبيعية، وهي بهذا ليست دولة حديثة العهد ولهذا لا تصلح لها «عاصمة اصطناعية».

ولكن لطالما بنيت العاصمة وتكلفت تكلفة باهظة، يمكن أن تكون تلك عاصمة ملحقة للقاهرة، الأصل في العاصمة أن تتوسط قلب الدولة وأهم منها أن تعيش الإدارة مع الناس وبين الشعب، وليس في مصر مكان تحكم وتدار منه مصر أصلح من موقع القاهرة ، أما المشروع فيخلق انفصالًا فيزيقيًا ووظيفيًا بين الإدارة والجمهور وبين الحكومة والشعب، يترك كليهما في فراغ وظيفي تام لا يملؤه أي من وسائل الاتصال الحديثة، ولا حتى القطار الكهربائي، إن مشروع العاصمة الجديدة إنما هو مشروع «الإدارة بالبريد».

إن الحل الحقيقي إنما هو أن تصبح القاهرة عاصمة مصر السياسية فقط وأساسًا، لا عاصمتها السكانية والصناعية والتجارية والإدارية، ومن الغريب أن تصبح القاهرة كل هذا وتجردها من وظيفتها الأصلية منذ ألف سنة، وهي الوظيفة السياسية، والتناقض هنا أنك تريد أن تنقل الوظيفة الصواب من المكان الصواب إلى المكان الخطأ.

الحل الوسط والأمثل نقل نصف السكان إلى العاصمة الجديدة، والإبقاء على نصف الحكومة في العاصمة القديمة.

إذا كان هناك عشرون وزارة ننقل عشرة منها إلى العاصمة الجديدة، وإن كان هناك مجلس شعب ومبنى لمجلس الشيوخ نترك مبنى في كل عاصمة، وهكذا، لكن لا يمكن تغيير اسم عاصمة مصر من القاهرة إطلاقًا. وهذا يساهم في تحقيق اللامركزية نوعًا ما في الإدارة، وإن استطاعت الدولة نقل مقام الحسين والسيدة إلى العاصمة الجديدة لكان أفضل لطالما من الصعب نقل واحد من الأهرامات الثلاثة!

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة