أبناء القلق

الإنسان منتصب القامة يقدر عمره على الأرض بحوالي ٦٠٠ ألف سنة، والإنسان المفكر يقدر عمره بحوالي ٣٠٠ ألف سنة، أما الإنسان الحالي الذي يعيش في ظل مجتمعات تحكمها دول وقوانين فوجوده مرتبط بوجود الحضارة.

وعند البحث عن الحضارة ونظريات نشأتها نجد أن هناك ثلاثة آراء أساسية، الأول أن الحضارة نشأت باكتشاف الإنسان للزراعة، والرأي الثاني يرى أن الحضارة نشأت بتطوير الإنسان لأدواته، أما أنا فأميل إلى الرأي الثالث الذي يجمع بين الرأيين، وهو أن اكتشاف الإنسان للزراعة حفزه إلى تطوير أدواته، وكانا معًا سببًا في زيادة الإنتاج ووفرة الموارد، ومن هنا نشأت الحضارة، ونشأة الحضارة حديثة حيث تقدر من ١٠ آلاف سنة إلى ١٥ ألف سنة.

ومع نشأة الحضارات ظهرت طبقات اجتماعية قادرة على الاستغناء عن القلق لعدم تعرضها للخطر نتيجة للرفاهة الناتجة عن الحضارة، وهو ما يتناقض مع الطبيعة البشرية الممتدة على مر ٣٣٥ ألف سنة على الأقل قبل نشأة الحضارة، حيث حاجة البشر الأساسية إلى قلق من أجل البقاء، مما ربط القلق بالغريزة، فإن لم تشعر بالقلق لن تهرب لتنجو من الافتراس أو تواجه المفترس لتفتك به قبل أن يفتك هو بك، وهؤلاء الذين لا يشعرون بالقلق تتخلص منهم الطبيعة بشكل تلقائي لعدم قدرتهم على النجاة بلا قلق وفقًا للانتخاب الطبيعي.

وكلما زادت الحضارة والرفاهة قل استخدام القلق، ولكنه يظل مخزنًا داخل الجينوم البشري، ويظل مرتبطًا بغريزته الأساسية وهي البقاء. ووفقًا لرؤية ابن خلدون لدورة الحياة بأن «الأيام الصعبة تخرج رجال أقوياء

والرجال الأقوياء يصنعون الرخاء والترف

والرخاء والترف يخرج رجال ضعفاء

والرجال الضعفاء يصنعون أيام صعبة»

نحن الآن على مستوى الوضع العالمي في أيام صعاب صنعها رجال ضعفاء هم أبناء الرخاء الذي صنعه رجال أقوياء بعد خروجهم من أيام صعاب في فترة الحرب العالمية، وهذه الأيام تستدعي بداخلنا القلق الغريزي، فلا داعي أن نقلق حيال قلقنا ونشخص أنفسنا بشكل متسرع بالقلق المرضي ونهرع إلى أدوية مكافحة القلق (Anxiety)، بالعكس من لا يشعر بالقلق الآن هو من يحتاج إلى علاج نفسي وإلى مراجعة نفسه بسرعة قبل أن تلتهمه الأحداث.

ولذا نحن نحتاج إلى من يحدثنا عن قلقنا النابع من أعماق تاريخنا الإنساني، نحن نحتاج إلى الشريك الذي حين نسأله عن المستقبل يعدنا بالقتال حتى النهاية وأيًا كانت الظروف، لا إلى من يعدنا أن نبقى حتى تنطفئ النجوم وتفنى الكواكب.

نحن نحتاج إلى مرشح الرئاسة الذي نسأله عن مستقبل البلاد فيخبرنا أن لديه خطة للنجاة يتمنى نجاحها تستوجب التكاتف والتعاضد فلا وقت للصراعات. لا يسعنا نحن أبناء القلق الثقة بهؤلاء الموهومين الواعدين بالمستقبل الباهر والغد المشرق، لأننا نعي أننا لا نملك إلا الاجتهاد والعمل، فنحن أبناء الأوقات الصعاب وعصر القلق.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة