دليل قانوني للعاملين في السينما.. التعبير الفني بين الرقابة وحقوق الملكية الفكرية

أصدر مركز «الذاكرة والمعرفة للدراسات» دليلاً قانونياً للعاملين في المجال السينمائي بعنوان «التعبير الفني بين الرقابة وحقوق الملكية الفكرية». ويهدف هذا الدليل إلى حماية المبدعين من التعرض للمسائلة أو الملاحقة القانونية، الناجمة عن إغفال الإجراءات التي تفرضها تلك القوانين والقرارات.

كما يسعى المركز من خلال الدليل إلى توضيح العوائق والقيود الناتجة عن هذه القوانين والقرارات، وأهمية تعديلها بما يتوافق مع حماية وتعزيز حرية اﻹبداع الفني.

وفي هذا اﻹطار يركز الدليل في القسم اﻷول منه على دور جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، والقوانين والقرارات المعنية بتنظيم إجراءات التعامل مع الجهاز. وفي القسم الثاني تناول بالشرح قانون الملكية الفكرية المصرية، والحقوق والواجبات التي تتوافق مع بنوده فيما يتعلق بالعمل السينمائي، أما القسم الثالث فيتناول أهم الشروط التي يجب توافرها في عقود العاملين في مجال العمل السينمائي، وأخيرًا تناول القسم الرابع من الدليل النقابات الفنية المعنية ودورها.

كما تضمن الدليل تعريفاً للإبداع وفقاً لما قالته المحكمة الدستورية العليا، إذ عرف على أنه: «عمل ذهني وجهد خلاق – ليس الإبداع إلا موقفاً حراً واعياً يتناول ألواناً من الفنون والعلوم تتعدد أشكالها وطرائق التعبير عنها – الإبداع في حياة الأمم إثراء لها وهو أداة ارتقائها – الإبداع في العلوم والفنون ليس تسليماً بما هو قائم من ملامحها بل تغييراً فيها وتطويراً لها – الإبداع محل تقدير الأمم وتعمل على تيسير الطريق إليه – الإبداع اتصال بما هو قائم إعمالاً لمحتواه – الإبداع نهج متواصل ونهر متجدد ومتدفق دون انقطاع».

كذلك أقر الدستور المصري في المادة 67 منه على أن: «حرية الإبداع الفني والأدبي مكفولة، وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك. ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية، أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بسبب علانية المنتج الفني أو الأدبي أو الفكري، أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو التمييز بين المواطنين أو الطعن في أعراض الأفراد، فيحدد القانون عقوباتها. وللمحكمة في هذه الأحوال إلزام المحكوم عليه بتعويض جزائي للمضرور من الجريمة، إضافة إلى التعويضات الأصلية المستحقة له عما لحقه من أضرار منها، وذلك كله وفقاً للقانون».

ورصد الدليل أشكال الرقابة التي فرضتها الدولة على المجال السينمائي في مصر منذ القدم، وكان الهدف منها هو السيطرة على ذلك الوسيط الذي تحول من مجرد اختراع علمي قائم على خدعة بصرية إلى أحد أهم وسائل التعبير، فضلًا عن أن حيوية السينما سهلت وصولها إلى جمهور أوسع بكثير من جمهور اﻷدب والمسرح إلخ.

وبسبب انتشار تلك الوسيلة باتت اﻷشد خطرًا من وجهة نظر السلطات، سواء كان الخطر يتعلق بالسياسة وممارستها، أو بالقيم الاجتماعية والأخلاقية، أو بثوابت المعتقدات الدينية، أو بالجنس بوصفه «تابو»، أو حتى الجنس كثقافة وتحديداً التعامل معه أو معالجته من خلال الصور- وفقاً لما رصده الدليل.

وهو أمر ظهر بوضوح في المذكرة الإيضاحية لمقترح قانون من شأنه تنظيم الرقابة على المصنفات الفنية، والمعروف اﻵن بالقانون رقم 430 لسنة 1955، والذي أعدته وزارة الإرشاد القومي التي كان يتولاها في ذلك الوقت الصاغ صلاح سالم (الفترة من 1953 وحتى 1958)، حيث حددت المذكرة الغرض من الرقابة واﻷسباب التي دعت الوزارة إلى إعداد هذا المقترح، وهي: «المحافظة على اﻷمن والنظام العام وحماية اﻵداب العامة ومصالح الدولة العليا»؛ ثلاث مسائل أساسية خُلق القانون بهدف حمايتها.

لكن الدليل أوضح أن القانون لم يوضح ما المقصود بكل من المسائل الثلاث المستهدفة بالحماية، وبالتالي غاب التعريف القانوني باعتباره المعيار الذي يلتزم به القائمون على تنفيذ القانون، وبهدف تجنب أي تعسف منهم، وبذلك قد يمثل قيدًا يؤثر على حرية التعبير الفني، فالتعبيرات غير المنضبطة والتي تتسم بالغموض تشكل خطورة في ظل غياب المعايير الواضحة.

وعرض الدليل مثالاً يوضح خطورة تلك الصياغة التي تتسم بالغموض، ويعود المثال إلى تاريخ 1 نوفمبر 1982، عندما وافقت الرقابة على المصنفات الفنية، على الترخيص بالمعالجة السينمائية لموضوع فيلم «خمسة باب»، وفي 14 نوفمبر 1982، أجازت الرقابة على المصنفات الفنية السيناريو الخاص بالفيلم والتصوير وفقًا له، وبتاريخ 19 يوليو 1983 وافقت الرقابة ورخصت عرض الفيلم، وتم عرضه بالفعل بدور العرض اعتبارًا من 8 مارس 1983.

لكن بتاريخ 23 أغسطس 1983 أصدرت الرقابة قرارًا بسحب الترخيص، حيث استبان للرقابة العامة على المصنفات استياء جمهور المشاهدين من هذا الفيلم، لما انطوى عليه من تشويه لتاريخ مصر وإساءة لسمعتها في الداخل والخارج، وما قد يؤدي إليه ذلك من انهيار للحياء الخلقي للمواطنين والمساس بمشاعرهم، وهذا هو ما أوردته مذكرة الدفاع عن وزارة الثقافة وجهاز الرقابة، أن:  «كلاَ من وزارة الثقافة وإدارة الرقابة، قد فوجئتا بموجة سخط واستهجان من هذا الفيلم، من مختلف فئات المواطنين والشخصيات العامة والمفكرين، والمصريين العاملين بالخارج، لما لمسوه من انحدار بالقيم الأخلاقية والمتاجرة بالعرض، بصورة تشوه وجه المجتمع المصري في الداخل والخارج».

واعتبرت جهة الرقابة الظروف الجديدة التي طرأت بعد الترخيص بالعرض، تقتضي السحب عملًا بنص المادة 9 من القانون رقم 430 لسنة 1955 المشار إليه؛ فأصدرت قرارها بسحبه للانطباع السيء الذي تولد لدى الجماهير، وللمحافظة على الآداب العامة ومصالح الدولة العليا؛ وقد أيدت محكمة القضاء اﻹداري في حكمها قرار السحب، ونوّهت بأن الحق في الإبداع ليس متروكاً للفرد إلا في الحدود، وبالضوابط التي تضعها الدولة مستلهمة في ذلك نبض الجماهير وإيقاع الرأي العام.

ووفقاً للمثال المطروح، أوضح الدليل أن اﻹطار العام أو الفلسفة التي يتبناها المشرع المصري، تقوم في اﻷساس على الخوف من التأثير الكبير للمصنف الفني، لذا يرى وجوب إزالة الشوائب منه قبل عرضه على الجمهور، تجنباً لأي تفاعل قد يؤثر على الحماية الواردة بالنص؛ لذا استخدم المشرع مصطلحات غامضة وفضفاضة، تسمح للرقباء بتطبيق معايير شخصية، ما يؤدي إلى التعسف في استخدام الصلاحيات الممنوحة وفقاً للقانون.

وأشار الدليل إلى واقعة أخرى تعود إلى عام 1977، عندما تم إحالة 15 رقيبة ورقيب، من بينهم الأستاذة اعتدال ممتاز، مديرة الرقابة على المصنفات الفنية حينها، إلى المحكمة التأديبية لسماحهم بعرض فيلم «المذنبون» للمخرج سعيد مرزوق.

ورغم فوز الفيلم بجائزة وزارة الثقافة كأحسن فيلم مصري عرض عام 1976، أحالة وزارة الثقافة الرقباء إلى النيابة اﻹدارية المختصة بمحاكمة العاملين، والتي أصدرت حكمها بإدانة الرقباء جميعاً في القضية رقم 35 لسنة 1977، وكان الاتهام الموجه إليهم وفقاً لنص القرار: «وافقوا كلاً في حدود اختصاصه على الترخيص بعرض فيلم “المذنبون” عرضاً عاماً في الداخل، رغم ما انطوى عليه من مخالفات صارخة، تمس اﻵداب العامة والقطاع العام، وتنال من قيم المجتمع الدينية والروحية، بما تحمله في طياتها من دعوة سافرة لنشر الفساد والحض على الرزيلة، فضلاً عن عدم احترام الدين بما له من قدسية واحترام، اﻷمر الذي من شأنه اﻹساءة إلى المجتمع والحط من قدره وإظهاره في صورة مشبوهة، وتصويره على أنه مجتمع استشرت فيه كل مظاهر الانحلال».

وكانت تلك أول مرة في تاريخ الرقابة على المصنفات الفنية التي يتعرض فيها مدير للرقابة وعشرة من موظفيها، للمحاكمة التأديبية بسبب إجازة عرض فيلم. وارتبطت هذه الواقعة باسم «جمال العطيفي»، وهو وزير الثقافة الذي اتخذ هذا القرار في ذلك الوقت، والذي أصدر في أبريل 1976 قراراً برقم 220، بشأن القواعد اﻷساسية للرقابة على المصنفات.

واعتبر الدليل أن القرار يعد في جوهره – بل وفي نصوصه أيضًا- عودة إلى تعليمات سنة 1947 التي تحد وتقيد حرية التعبير، والتي وصفها علي أبو شادي بالفاشية.

وذكر صلاح عيسى حوار دار بينه وبين العطيفي حول هذا القرار: «لقد قابلت جمال العطيفي عند صدور القرار 220 لسنة 1976 قلت له: لماذا أصدرتم هذا القرار؟ قال: شيوخ المساجد أقلقونا وأحدثوا لنا ضجة فقلنا نصدر لهم هذا القرار لنسكتهم وفعلاً امتدحوه بعد ظهوره».

وقد أصدرت جماعة السينما الجديدة بياناً يعلن رفض قرار وزير الثقافة، لما يشكله من خطر بالغ على حرية التعبير وانتهاك صارخ للحريات الديمقراطية، كما رأت الجماعة أن القانون يتعارض مع مبادئ الدستور الدائم وسيادة القانون؛ لكن لم تنجح محاولة منع القرار الذي أصبح سارياً منذ صدوره حتى الآن.

وينظم القانون رقم 430 لسنة 1955، المعدل بالقانون رقم 38 لسنة 1992، الرقابة على الأعمال السمعية والسمعية البصرية، وتشمل الرقابة وفقاً لهذا القانون كل ما يتعلق بالتصوير والتسجيل والنسخ والتوزيع والأداء العلني والإذاعة، والبيع والعرض لأي عمل فني خاضع لأحكام هذا القانون، الذي يضع الرقابة تحت سلطة وزارة الثقافة، ويخولها منح أو منع الترخيص إلى عمل من الأعمال السابقة كشرط لمشروعية هذا العمل، وعدم مخالفته للقانون.

تناول الدليل أيضاً آليات الرقابة المسبقة واللاحقة التي يضعها القانون في مواجهة الأعمال الفنية، وكذلك إجراءات التظلم أمام الجهات المعنية بمنح التراخيص، فقد منح القانون هذه الإدارة الحق في منح تراخيص تصوير المصنفات الفنية، كما حظر تسجيل أو تصوير الأعمال الفنية السمعية والسمعية البصرية، وكذلك عرضها أو أدائها أو إذاعتها في مكان عام أو توزيعها دون ترخيص من جهاز الرقابة التابع لوزارة الثقافة.

كما أوضح الدليل أنه يطلق على هذا النوع من الرقابة «الرقابة المسبقة»، وتعني أن سلطة الرقابة تفحص العمل الفني قبل خروجه للجمهور لتقّر أو ترفض الترخيص بنشره، كما أن المشرع قد سلك طريق الرقابة اللاحقة على الأعمال الفنية من خلال إلزام المبدعين بالرجوع إلى الجهة التي تمنح التراخيص بعد انتهاء مدته للحصول على ترخيص جديد، وهو ما يجعل العمل الفني تحت سلطة الرقابة طوال الوقت.

واستعرض الدليل شروط وإجراءات الجهة المختصة بإصدار التراخيص ومدة سريانها، والجهات التي يُعمل فيها بالتراخيص، والدول التي تسري فيها.

يذكر أن مركز «الذاكرة والمعرفة للدراسات» هو شركة مسجلة وفقًا للقانون المصري، أنشئت عام 2021، وهي  مختصة بدراسة تاريخ منظومة العدالة الرسمية في مصر، بشقيها التشريعي والقضائي.

لقراءة التقرير كاملاً:https://mksegypt.org/wp-content/uploads/2023/04/CinemaGuide_27_4_2023.pdf

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة