قطعا يمكن لروسيا أن تنتصر.
ويبدو للناظر نحو مدينة باخموت أن الأمور تسير في الاتجاه الصحيح، فبعد نحو ستة اشهر من القتال الشرس، يبدو ان المدينة على وشك السقوط في يد الروس لتحقيق انتصار انتظروه طويلا. ولكن عندما يتراجع الناظر إلى الوراء قليلا، ليلقي نظرة أشمل على الخريطة، قد يجد أن الأمور مختلفة إلى حد ما عما يوحي به هذا الانتصار الصغير، ودعنا نذكر هنا بعض الحقائق والأرقام.
فرغم أن أعداد الاصابات في صفوف الجنود الروس تتراوح بين المائة ألف وفقا للنيويورك تايمز ، والمائة وثمانين ألف وفقا لتقديرات وزارة الدفاع الأوكرانية، لم يكن ذلك العدد ليشكل مشكلة كبيرة مع استخدام نزلاء السجون التي تجندهم فاجنر - بل ربما يعني ان الروس يتخلصون من عبء الاحتفاظ بأعداد كبيرة من المساجين - إلا أن اللجوء بعد ذلك لأعداد كبيرة من المجندين محدودي الخبرة القتالية، للتعويض عن الخسائر البشرية، يؤدي لخفض القدرة القتالية للجيش كله على المدى القريب
وعند الحديث عن الخسائر في المعدات العسكرية، فإن الأمر يختلف عن أرواح الجنود، حيث يمكن بناء غيرها لاحقا، ومع ذلك فإن خسائر روسيا في المعدات، خاصة في أعداد الدبابات التي تتراوح ما بين 1900 دبابة – موثقة بالأدلة - وما بين 3600 - حسب وزارة الدفاع الأوكرانية - حتى أن روسيا لجأت لإخراج آلاف الدبابات القديمة من المخازن ، وأعادت تجهيزها لتشارك في المعارك، مع العلم أن بعضها يعود إلى ستينات القرن الماضي ولا يتوافق مع الأنظمة الحديثة للرؤية الليلية وغيرها، مما يضعف قوة روسيا الدفاعية، لأن تعويض كل تلك الاعداد من الأسلحة والمعدات يحتاج لنفقات هائلة، بجانب كميات ضخمة من الموارد والوقت لصناعتها. إلا أنه أيضا يظهر صورة سيئة عن قدرات السلاح الروسي، مما يؤثر على مبيعاتها من الأسلحة التي انخفضت بالفعل بنسبة 26% في عام 2022 وفقا لوزارة الدفاع الروسية .
من أهم ما تواجهه روسيا في هذه الحرب هو العقوبات التي فرضتها 45 دولة من أكبر دول العالم اقتصاديا، مما أدى لتراجع النمو الروسي بنسبة 4% ، كما أدت العقوبات لمنع المكونات الحديثة للأجهزة الالكترونية من الوصول إلى روسيا، لكى لا تستخدم في صناعة الصواريخ، مما يؤثر بشكل تراكمي على تطور الصناعة والانتاج داخلها، وأدى لمحاولات التحايل على ذلك بإستبدالها بقطع من المستخدمة في صناعة الأجهزة المنزلية.
وقد كانت احدى نقاط قوة روسيا بوتين - والتي يبدو أنها كانت خادعة لروسيا نفسها - هى اعتماد أوروبا على روسيا في الطاقة، حيث أنه قبل الحرب مباشرة كان 40% من الغاز الأوروبي يستورد من روسيا، ونصف صادرات روسيا من البترول والفحم تذهب لأوروبا، بما يعادل حوالي 100 مليار دولار دخلت الخزينة الروسية في العام السابق للغزو مباشرة، وأدت الحرب إلى دفع أوروبا نحو تسريع توجه أوروبا نحو الطاقة البديلة لتحقيق الاستغناء عن الطاقة الروسية الآن وفي المستقبل أيضا.
وعلى الرغم من أن دول العالم لم تشارك كلها في العقوبات على روسيا، إلا أن أرقام الصادرات الروسية أنخفضت بشدة، خاصة بعد فرض الاتحاد الأوروبي حد أقصى لسعر البترول الصادر من روسيا برقم 60 دولار للبرميل، وتسببت العقوبات أيضا في رفض شركات التأمين البحري التأمين على سفن الشحن الروسية، مما جعل تصدير منتجاتها بحريا شبه ممنوع، حتى أن وزير خارجية روسيا أعترض على ذلك قائلا أنه رغم توقيع روسيا على اتفاقية تصدير الحبوب فإن العقوبات -غير القانونية على حد تعبيره - تمنع روسيا من تصدير حبوبها مما يهدد بأزمة غذاء عالمية.
لن نتحدث بعد كل ذلك عن الخسارة الدبلوماسية، التي منيت بها روسيا بعد وصم رئيسها بأنه مجرم حرب، مايضعه في سلة واحدة مع البشير والقذافي وميلوسوفيتش، ولكن يجب أن نتحدث بالتفصيل بعض الشئ - ربما في مقال آخر - عن الخسارة الاستراتيجية التي تمثلت في تحول موقف فنلندا للانضمام للناتو، بعد عقود من الحياد، وهو ما يعني أن حدودا طولها 1300 كيلو متر قد نشأت بين روسيا والناتو، ما يجبر روسيا على تخصيص قوات ضخمة على طول تلك الحدود لحمايتها، بجانب تحول بحر البلطيق لمنطقة خاضعة بالكامل للناتو وهو المنفذ الأساسي لخروج الغواصات النووية للمحيط الاطلنطي.
يبدو لي الأمر وكأنه محاولة لدولة كانت عظمى، للتعويض عن نفوذها المتلاشى باستخدام القوة العسكرية، ضد دول كانت تابعة لها وتريد الاستقلال عنها، ولا أراه يختلف كثيرا عن محاولة بريطانيا استعادة سيطرتها على قناة السويس في العدوان الثلاثي، وفشلها في ذلك.
السؤال الذي يجب أن يطرح، اذا كانت كل تلك التكلفة والخسائر المادية والبشرية والاقتصادية، نتجت عن مواجهة مع دولة ليست عضوا رسميا في الناتو، فماذا سيحدث لو امتدت المواجهة للناتو نفسه؟
هل يمكن لروسيا أن تنتصر في هذه الحرب؟
أترك الإجابة للقارئ.