الملكة الملهمة.. إياح حُتُب

كان لملكات مصر عبر التاريخ دورًا مميزًا ومرموقًا فى السياسة والحكم، بينهن الملكة «مرية بيت» من الأسرة الأولى، ثم الملكة «خنتا كاوس» من أواخر الأسرة الرابعة، وظهرت «تيتي شيري» فى الأسرة السابعة عشر، ومن ورائها ابنتها العظيمة «إياح حتب»، أم بطلي النضال التحرري «كامس» و«أحمس» وصاحبة الفضل الكبير فى نجاح حرب الاستقلال ضد الهكسوس وإعادة بعث وإشعال روح الوطنية فى شباب الدولة المصرية. كذلك وضعت «إياح حتب» البذرة الأولى لبناء السياسة التي سارت عليها البلاد، ثم خلفتها الملكة «أحمس نفرتارى» زوجة الملك «أحمس» بطل التحرير، ومن بعدها الملكة «حتشبسوت» ثم الملكة «تي» و«كيلوباترا»، وكل منهن كان لها دورها البارز في التاريخ.

وبينما كانت النساء في بلاد أخرى تُباع وتُشترى، وصلت نساء مصر إلى سدة الحكم وصنعت إنجازات لا مثيل لها، كما كان للمرأة المصرية مكانة كبيرة عبر التاريخ يحلم بها نساء اليوم، ويحق لهن أن يفخرن بجداتهن وما حققن من أمجاد محفورة على أحجار التاريخ العظيم في المعابد والصروح والمقابر لتظل خالدة وباقية تتحدى الزمن والأفكار الرجعية البالية.

بدأت قصة القائدة الملهمة «إياح حتب» في الوقت الذي كان فيه ملك الهكسوس «أبوفيس» يرهق الملك المصرى «سقنن رع» حاكم طيبة بمطالب كثيرة وضاغطة، وظل يتحداه محاولًا النيل من كرامته، ما تجلى عندما بعث رسوله يطلب من «سقنن رع» أن يُسكت أصوات أفراس النهر فى طيبة لأنها تُزعج «أبوفيس» داخل قصره فى «أواريس» على بعد أكثرمن 500 كم من طيبة. وكان ملك الهكسوس يخشى من خطر أمير طيبة على ملكه ونفوذه السياسي لثراء وسلطان ملك طيبة، وأدرك أنه إذا ثارت إمارة طيبة سيثور معها الصعيد كله، وبالفعل ثارت طيبة وقام المصريون يدفعون الأذى عن أنفسهم ويطلبون الحرية لحياتهم ويسعون لتخليص وطنهم من الذل والرق ويستردون لأنفسهم حق الحياة الحرة الكريمة في وطنهم، وقاد «سقنن رع» ثوار الحرية والنضال وجند جنود الصعيد لحرب الهكسوس بمشاركة زوجته الملكة «إياح حتب» شريكته فى الكفاح، حتى سقط في ساحة القتال.

من بعده حمل ابنه «كامس» راية الحرية ليواصل مسيرة النضال، وخرج بجيشه إلى الشمال حتى بلغ «نفروسي» شمال أسيوط وأخضعها، ثم واصل زحفه إلى الأقاليم الوسطى فخلصها من يد الغزاة حتى «منف»، وارتد الهكسوس إلى الشمال يحتمون بعاصمتهم في «أواريس» ولم يبق أمامه سوى أن يسوقهم وراء الحدود المصرية، إلى أن حمل الرسالة من بعده أخيه «أحمس» الذي كتب نهاية الهكسوس.

وأسهمت الملكة «إياح حتب» في كل هذا، فقد ناضلت مع زوجها ومن بعده أبنائها «كامس» و«أحمس»، فملكتنا أم الملوك تقف شامخة بين نساء الدنيا فهي أول وآخر امرأة تحصل على أعلى أوسمة عسكرية في التاريخ المصري والعالمي، والفضل يرجع لها في تحرير مصر من الهكسوس، فهي أول من أشعلت شعلة النضال المصري ضد الغزاة، وهي ابنة الملك «تاعا الأول» والملكة «تيتي شيري» وزوجة الملك «سقنن رع».

وعاشت «إياح» حياة طويلة ومؤثرة حيث قامت بإدارة شئون الدولة كوصية على ابنها «كامس» بعد وفاة زوجها وهو يحارب الهكسوس، ومن بعد «كامس» ابنها «أحمس» في بداية حكمه، بالإضافة إلى أنها شاركت بالفعل وقادت حملات لقتال الهكسوس، ولذلك وجد بتابوتها أوسمة ونياشين عسكرية، بينها وسام الذبابة الذهبية التي تُمنح لتقديم خدمات عسكرية استثنائية، والفأس الذهبية. وقد عاشت «إياح حتب» حتى بلغت التسعين من العمر، وظلت طول عمرها تحارب وتناضل لتحرير مصر، وبعدما فقدت زوجها وابنها لم تيأس وقدمت كل غالي من أجل حرية بلدها، وهي أيضًا أول من فكر في استخدام العجلات الحربية لمحاربة الهكسوس.

واكتشف عالم المصريات الفرنسي أوجست ميريت – مؤسس المتحف المصري- تابوتها في منطقة القرنة عام 1859، وأرسله على باخرة خاصة إلى متحف بولاق، وكان يحتوي على مومياتها ومجوهراتها وأوسمتها، وأوقف مدير مديرية قنا وقتها الباخرة في قنا ونزع الأكفان عن المومياء وتحطمت عظام الملكة، وأرسل المجوهرات على سفينة إلى الوالي سعيد باشا، لكن «ميريت» تتبع السفينة حتى أدركها عند سمنود، واستعاد التابوت ومحتوياته وبعث بالمجوهرات لسعيد باشا الذي احتفظ بقلادة منها أهداها لإحدى زوجاته عبارة عن سلسلة ذهبية يتدلى منها جعران، ثم أعادها لتُحفظ في المتحف مع باقي المحتويات.

وعلى الرغم من تواري اسم الملكة البطلة «إياح حتب» بعد هذا الاكتشاف داخل صفحات التاريخ، وأنها لم تأخذ حقها نظرًا لأنها لم تترك معبدًا أو مقبرةً يُسجل فيهما تاريخها الحافل، يحتفل التاريخ الشعبي ويحتفي بملكتنا حتى اليوم، وكل عام نتذكر «إياح حتب» بعلم منا أو من دون علم عندما يهل علينا شهر رمضان المبارك ونسمع أغاني الأطفال الفرحة بقدومه «وحوي يا وحوي إياحه»، فأطفالنا اليوم – ونحن من قبلهم في طفولتنا- نستكمل مسيرة بدأها أجدادنا أهل «كيميت» منذ آلاف السنين، عندما كانوا يذهبون في كل عام إلى قصر الملك وهم يرددون: «واح واح إياح» بمعنى «تعيش تعيش إياح»، احتفالًا بانتصار المصريين على الهكسوس بقيادة الملك أحمس ووالدته البطلة «إياح حتب».

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة