أيام الغضب والحب

خرج الفقراء والمساكين من أكواخهم إلى الميادين بلا تدبير، اندفعوا وراء مشاعرهم القلقة الدفينة، وفي تجمع لا مثيل له وجدوا أنفسهم عملاقًا لا حدود له، يجأر بالاحتجاج والخوف من المستقبل، تُبودلت أنات الشكوى فى هيئة همسات مبحوحة، ثم غلظت واحتدمت بالمرارة، ثم تلاطمت كالصخور. وبسبب من القوة المتجسدة المخلوقة من عدم تأجج الغضب شعروا بأنهم سد منيع بتكتلهم، وأنهم طوفان إذا اندفع واندفعت الجموع كأنها سيل ينصب من فوق قمة جبل تبعث فى الجو هديرًا.

هكذا تنباً أديبنا العالمي الراحل نجيب محفوظ، الحاصل على جائزة نوبل في الآداب، والذي طالما عاش أدبه بيننا،  وإبداعاته وخيالاته مستمرة معنا حتى في يوم جمعة الغضب 28 يناير 2011، في روايته «ليالي ألف ليلة».

فما حدث في هذا اليوم يفوق كل إبداعات الفنانين وتجليات الكتاب والأدباء، وتجاوز أحلام الثائرين أنفسهم، فلم يكن أحدهم ليحلم بمثل تلك الملحمة الواقعية الحادثة أمام أعينهم، فخلال عدة ساعات حدث ما لم يتوقعه أو يحلم به حالم، سقط الجبروت، وسقطت المنظومة الأمنية العملاقة المتمترسة في وجه البسطاء العزل. كل هذا يتحقق على أيدي المصريين، وأصبح بينهم وبين تحقيق الأحلام خطوة.

لقد استطاعوا أن يُجهزوا على تلك المنظومة الجاسمة على صدورهم لأكثر من ستين عامًا، فقبل أن يهزموا ويُسقطوا هذه المنظومة قد هزموا خوفهم ورعبهم وعبروا وبكل حرية عن حبهم لوطنهم. بالفعل كان المحرك الرئيسي والأساسي هو الحب، حب الذات والكرامة والحرية وقبلهم حب الوطن.

الحب كان له تأثير السحر في ثورة 25 يناير بشكل عام، وخاصة يوم جمعة الغضب في 28 يناير. والحب هنا له ثلاثة محاور وأطر رئيسية، أولها كان حب الوطن الذي كان مصدر ومنبع حكاية كل ثائر وكل مصري شارك في الثورة الخالدة، والذي يسكن في أعماق قلوب المصريين، ويعلو فوق رؤوسهم كأنه تاج، فهم يعشقونها عشق الأبناء لأمهم التي ترعاهم وتحنو عليم، فيشتاقون إليها في كل وقت وحين.

وكان هناك نوعًا آخر من الحب وهو حب الذات، بكل جوانبه من حب للحياة والحرية والتعبير عن المشاعر المكبوتة والدفينة، وحب النجاح وتحقيق الذات والجدارة، وأخيرًا حب الغير وتقديم المساعدة والعون وعلاقة التآخي والفداء، والتي تجلت في أحداث يوم 28 يناير، أثناء الاشتباكات وسقوط الجرحى والمصابين والشهداء، فشهداء ثورة يناير هم مثال بارز وخالد في حب الوطن والذات والغير، فما أغلى من تقديم الروح فداءً للحب؟! فكان ذلك ترجمة حرفية لرائعة نزار قباني «قارئة الفنجان» حين قال: «يا ولدي قد مات شهيدًا من مات فداءً للمحبوب».

وبعد مرور اثنتي عشرة سنة  على ثورة 25 يناير التي أسقطت الرئيس الأسبق حسني مبارك، هناك من يرى أن هذه الثورة كانت تحمل أهدافًا نبيلة وبريئة ونقية، لكن من قاموا بها لم يتمكنوا من تحقيق أهدافها، وهناك آخرين يروا أنها كانت مجرد مؤامرة لنشر الفوضى في مصر، وقطاع آخر مقتنع بأنها كانت ضرورية في ظل تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلاد في ذلك التوقيت، ولكنها سُرقت من الثوار، وأصبحت سببًا إضافيًا للتدهور السياسي والاقتصادي بعدها، كما أن هناك من يرى أن الجيش قد أنقذ مصر من الفوضى ومن حكم الإسلاميين «جماعة الإخوان وأنصارهم».

وبالتدقيق في تلك التحليلات نجد أن ورائها محرك واحد فقط، سواء كان المحرك للفعل وللعمل أو للتحليل والرؤية، وهو الحب، فكل ما حدث وتم في الـ 18 يوم العظام كان بدافع الحب، ولا شيء غير الحب، فقد علمتنا ثورة يناير وأيامها المنقوشة في قلوبنا مشاعر الحب المجرد، الحب من أجل الحب، فكل من يُطلق عليهم «الينايرجية» أو «ثوار يناير» أو «شباب الميدان» أو أي ألقاب أخرى، قد مسهم الحب ونمى بغير علم بداخلهم، فمشاركتهم في تلك الليالي كانت حائرة بين الغضب والحب، وهذا يسري أيضًا على جانبهم الإنساني، فكل ثائر محب، فمن رحم الميدان ولدت الكثير من قصص الحب، نجحت بعضها، وفشلت أخرى مثلما حدث مع أهداف ثورتنا.

وأصبحت التواريخ عناوين لحياتنا، فأيام مثل 25 و28 يناير، و1 و11 فبراير، وهي المحطات الرئيسية للثورة، حُفرت في عقول كل الثوار، وتنفجر بداخلنا في تلك الأيام طاقات حب جديدة يوجهها كل منا في اتجاه خاص في حياته، فمنهم من تزوج أو ارتبط في ذكرى هذه التواريخ، ومنهم من يكتب تلك الكلمات، ومنهم من يحتفل مع أسرته أو يسافر في رحلة للاستمتاع ليكافىء نفسه، ومنهم ومن يزور الميدان لتخليد ذكرى الحب.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة