حين سألت الروائية الشابة شيماء سامي عن رأيها في قصة قصيرة كنت قد كتبتها منذ شهور، لاحظت حينها أني أضع في الاعتبار وقع قراءة القصة على من يقرأها، لذلك نصحتني أن أتحرر تمامًا من أي قيد، وأن أنسى كل الاعتبارات عند الكتابة في الأدب «في الأدب انسى خالص كل الاعتبارات، ما تخافش من حكم أي حد، وعيش الموقف بمشاعره واكتب الشخصية بصدق».
وهذا ما فعلته بالظبط في كتابتها لروايتها البديعة «شيء من حياة» التي انتهت من كتابتها في عام 2018، راصدة فيها من خلال بطلتها «حياة» انهزام جيل بأكمله، ذاق حلاوة الحب والثورة وحلم العيش بحرية في مجتمع يطغى عليه احترام الإنسان والعدالة الإجتماعية، قبل أن يُخذل ويتذوق مرارة الهزيمة ومرارة ضياع الأحلام.
حياة هي فتاة ثلاثينية، من أسرة متوسطة الحال، كانت تحلم بأن تكون محامية لكي تدافع عن المقهورين، ولكن حلمها تحطم على صخرة الواقع، فاضطرت أن تعمل في أي وظيفة أخرى حتى تخفف من أعباء أسرتها المعيشية بإعالة نفسها، في ظل غضب أفراد أسرتها الصامت - لرفضها المتكرر بأن تتزوج زواجًا تقليديًا (زواج صالونات)- والذي كان يترجم إلى مشادات كلامية مع والدتها المتطبعة بطباع المجتمع - أو قل إن شئت المغلوبة على أمرها- والتي كانت دائمًا ما تصل إلى تهديد حياة لها بأن تغادر المنزل «زيدي فضائح هذا ما ينقصني فعلاً !! زيدي يا بنت الحج سليمان! تعيشي لوحدك، نعم صحيح ما المانع، عانس قرابة الأربعين».
وحين ظهر «سيف» الشاب الموسيقي الذي يعمل عازفًا للكمان في أحد المقاهي الصغيرة، وقعت حياة في غرامه منذ اللحظة الأولى، إلا أن سعادتها لم تدم، فبعد خِطبتها منه اختفى قسريًا لعدة أيام، قبل أن يظهر من جديد وهو في حالة يرثى لها، بعد دخوله في مشادة كلامية مع ضابط شرطة في أحد الكمائن، وكأنه أراد أن يُدَّفعه ثمن مشاركته في الثورة بالتفنن في التنكيل به بشكل غير قانوني، ويُدَّفع حبيبته هي الأخرى ثمن مشاركتها في الثورة بحرمانها من حبيبها، ليس بشكل مؤقت وحسب بل كان حرمانًا أبدي.
بالطبع ألقت تجربة الاعتقال التي تعرض إليها سيف بظلالها على علاقته بحياة، بل علاقته بالوطن الذي لم يعد يحتمل البقاء فيه «ما عاد وطني.. اكتفيت، وأنتِ كنتِ جزءًا منه كما قلتِ وما زلتِ، وأنا لم أعد أشعر بأي شيء نحوه هو وما منه كما قلت لكِ. آسف. حقًا آسف."
من خلال سيف وحياة رصدت الكاتبة تصفية الحسابات التي حدثت مؤخرًا مع الكثير من شباب ثورة يناير، فكما دفعا ثمن مشاركتهما في ثورة يناير، دفع العديد من الشباب والشابات على أرض الواقع ثمن مشاركتهم و إيمانهم بمبادئها، إما بالنفي مثلما حدث مع العديد من شباب الثورة الذين كان المرحوم محمد أبو الغيط واحدًا منهم، أو بالزج بهم في غياهب السجون مثلما حدث مع علاء عبد الفتاح ومحمد الباقر ومروة عرفة ومحمد أكسجين، بل للكاتبة نفسها التي سُجنت في وقت من الأوقات.
على أثر الصدمة التي تعرضت لها حياة، دخلت في نوبة اكتئاب حادة كادت أن تودي بحياتها، وقتلت جانبًا كبيرًا من روحها المتمردة، التي أجهز على ما تبقى منها «وائل نور» المحام الأفاق الُمدعي الذي اغتصبها قبل أن يختفي فجأة من حياتها كما ظهر فجأة.
حين ستقرأ ما تعرضت له حياة على يد وائل ستتذكر، مثلما تذكرت الناجيات على أرض الواقع من حوادث مُشابهة، تمكنت الكاتبة أيضًا من رصد معانات صاحباتها بشكل دقيق، بدايةً من خذلانهن من شخصيات وضعن الثقة فيهم، نهايةً بخوفهن من الإفصاح عما تعرضن له خشية من مغبة ذلك، لاسيما إذا كان الجاني من الشخصيات العامة التي تتوارى وراء الشهرة والمبادئ الرنانة التي يتشدقون بها طيلة الوقت.
وبالرغم من الواقع الكابوسي الذي لا يخفى على أحد، والذي رصدته الكاتبة في روايتها ببراعة، حلمت الكاتبة عبر بطلة روايتها بأن تحيا في مجتمع الرأي والرأي الآخر، مجتمع يلفظ العفن المتمثل في الكذب والازدواجية والنفاق والمحسوبية، مجتمع يحترم المرأة ولا يختزل شرفها في غشاء بكارتها، مجتمع يسود فيه القانون لا الهوى وحكم الفرد، مجتمع يحترم الإنسان ولا يهينه، تحمي فيه شرطة الآداب الزانية من الضرب المبرح في الشوارع، ويلعن أفراده حاجب السلطان والسلطان دون محاكمة، كما قال خالد الذكر طيب الآثر محمود درويش.