العبور الجندري ما بين سياسات الإفقار والتمييز الاقتصادي

عقب اندلاع ثورة 25 يناير في 2011، وبسبب النقص الحاد في الموارد والعملات الأجنبية، وتوتر عجلة الإنتاج نتيجة الاضطرابات الأمنية والسياسية التي استمرت لشهور، دخلت مصر في منحدر اقتصادي تستقر خلاله تارة وتنجرف معه تارة أخرى، واستمر الوضع كذلك حتى عام 2016 عندما حدث التعويم الأول للجنية، ليصل سعر الدولار إلى 14 جنية مصري.

دخلت مصر بعد ذلك مرحلة استقرار اقتصادي، بسبب الدعم التي تلقته من بعض الدول العربية وقروض بنك النقد الدولي، لكن سنوات الاستقرار لم تستمر طويلًا نظرًا لسياسات الإنفاق العام للدولة وارتفاع قيمة الدين الخارجي لمصر بسبب فوائد القروض التي تخطت 158 مليار دولار، وفقًا لتصريحات وزير المالية المصري، لتضرب الأزمة الاقتصادية البلاد من جديد في مطلع العام الماضي، ويرتفع سعر الدولار مجددًا أمام الجنية المصري بشكل طفيف، ويستمر هذا الارتفاع ليصل اليوم إلى ما يقارب 30 جنيهًا، مع الارتفاع الجنوني لأسعار السلع الأساسية، في ظل تضخم اقتصادي تعاني منه جميع فئات المجتمع المصري، لكن تظل الفئات الأكثر عرضة للعنف، والتي كانت تعاني بالفعل أثناء سنوات الاستقرار الاقتصادي من انتهاك الحقوق وعدم التمكين، كالنساء واللاجئين/ات والطبقات الأكثر فقرًا والأقليات الجنسية والجندرية، والتي أصبحت جميعها اليوم تعاني بشكل مضاعف.

التمييز الاقتصادي وسياسات الإفقار

يصنع المجتمع المصري سلم اعتباري للنوع الاجتماعي، يحدد خلاله مواقع الأفراد وأدوارهم الجندرية، وبالتالي امتيازاتهم، وإذا تخيلنا هذا السلم بشكل مادي فسيتمركز الرجال على القمة، ثم النساء، ثم الرجال العابرين جندريًا، وأخيرًا وفي قاع السلم تأتي مواقع النساء العابرات. تقسم كل طبقة داخل ذلك السلم إلى طبقات أخرى يقاس عليها شكل الامتيازات التي تتمتع بها و/أو التمييز الممارس ضدها، ويتم التقسيم وفقًا للطبقة الاجتماعية أو الدين أو الميل الجنسي إلخ، وبناء على مواقعنا في ذلك السلم يعاني العابرين/ات جندريًا أشكال متقاطعة من العنف والتمييز، تبدأ من الأسرة مرورًا بالمجتمع ومؤسسات الدولة وحتى القانون.

وطبقًا لهذا العداء التشاركي ما بين المجتمع والسلطة السياسية تطبق مؤسسات الدولة سياسات إفقار متعمدة ضد العابرين/ات جندريًا متمثلة في عدم توفير أي فرص عمل عادلة لهم/ن، وخلق سياق عام مليء بالكراهية والرفض تجاههم، يجعل مؤسسات القطاعين العام والخاص تخشى الوصم المجتمعي و/أو التضييق الأمني إذا ما وظفت أشخاصًا تختلف هيئتهم الاجتماعية عن جنسهم المقيد في أوراقهم الثبوتية، والذي قد يظل على حاله لمدد طويلة تتجاوز في بعض الأحيان الـ 8 سنوات – نظرًا لبيرقراطية الدولة وبروتوكول العبور الجندري في مصر غير المنظم-  يعيش خلالها العابرون/ات جندريًا أوضاعًا سيئة، من دون دخل يسمح لهم بتغطية نفقاتهم الأساسية، كالسكن والطعام والعلاج، ويأتي ذلك في سياق هم الأكثر عرضه فيه للعنف الأسري والتشرد، ليصبحوا أمام خيارين كلاهما أسوأ، فإما أن تقبل العنف والاستمرار في التعرض له، أو الهروب منه والتعرض لخطر التشرد والجوع.

العبء الاقتصادي والمنظومة الطبية


أماعن أهم أشكال التمييز تلك هو التمييز الاقتصادي ضد العابرين/ات جندريًا. والتمييز الاقتصادي هو عدم توفير فرص متساوية للعمل، وعدم وجود تمويل كافي في الشركات والمؤسسات لعمالة الأقليات، وتفاوت الأجور حيث يأخذ أفراد الفئة المميز ضدها أجورًا أقل لنفس العمل الذي يقوم به الأخرون بأجر أكبر، أو وضع ضغوط مالية على فئة بعينها في هيئة عدم دعم لسلع أساسية تستخدمها تلك الفئة باعتبارها رفاهية، في ظل التفاوت في الرواتب وحصول تلك الفئة على أجور أقل، على سبيل المثال الفوط الصحية للنساء وتكلفتها المالية في الوقت الذي تتفاوت فيه الرواتب وتحصل فيه النساء على الحد الأدني للأجور.

كما يتمثل العبء في عدم تغطية الدولة لاحتياجات العابرين/ات جندريًا من العلاج الهرموني الذي يستهلكونه طيلة حياتهم تقريبًا، لا سيما في ظل الإجراءات الطبية المعقدة وبروتوكول تصحيح الجنس غير المنظم في مصر، والذي أنشأ على خلفية قرار وزاري بتشكيل لجنة للإشراف على جراحات تصحيح الجنس عام 2003، وهنا تكمن الإشكالية، حيث أن إنشاء هذه اللجنة جاء بقرار وزاري، بدلًا من قانون يحدد للعابرين/ات جندريًا مدة محددة للبت في طلباتهم، كما يحرمهم حق استئناف قرارات الرفض أو الحصول على قرار كتابي والمطالبة بتشكيل لجنة أخرى من أطباء مختلفين لإعادة النظر في طلباتهم، إلى جانب حرمانهم من الإبلاغ والمسائلة إذا ما واجهت أي تقصير من اللجنة، كتوقفها عام 2013 لمدة 6 سنوات تقريبًا، توقفت خلالها حياة العابرين/ات جندريًا في مصر، حيث أنه من دون موافقة نقابية لن يُسمح لهم بإجراء الجراحات، وبالتالي استحالة تغيير الأوراق الرسمية.

حلول باهظة الثمن

ونظرًا لضعف وعشوائية بروتوكول العبور الجندري في مصر، ومن ثم توقفه، لجأ العابرين/ات جندريًا محاولين البدء في حياتهم إلى إجراء جراحاتهم – المكلفة للغاية – على نفقتهم الكاملة في مستشفيات خاصة، من دون أي تمكين اقتصادي يسمح لهم بتغطية نفقاتهم الأساسية والادخار لإجراء جراحاتهم وتحمل نفقات علاج ما بعد الجراحة، رغم ذلك قرر العابرين/ات جندريًا في مصر اللجوء لكل السبل التي قد تساعدهم على الوصول إلى ذواتهم الحقيقة، أملًا في بدء حياة جديدة أكثر رحمة وعدالة.

لكن ذلك السيناريو لم يسر جيدًا، حيث أن تلك الجراحات أصبحت بجانب التكلفة الضخمة والعبء الاقتصادي شديدة الخطورة على حيواتهم، فتواترت شهادات العابرين/ات جندريًا عن الإهمال الطبي من الجراحين اللذين لجأوا لهم، وما تسبب فيه ذلك من تشوهات وإعاقات وصلت في بعض الحالات إلى الوفاة.

وفي أغسطس 2021 توفى شاب عابر جندريًا معروف باسم «أحمد فارس» و شهرته «عز» عقب إجرائه إحدى جراحات تصحيح الجنس في واحدة من المستشفيات الخاصة، حيث توفى عز بعد أسبوع تقريبًا من الجراحة، بعد أن تم إجباره على الخروج من المستشفى اليوم التالي لها، وقبل مدة التئام الجرح، وبسبب ذلك تعرض لمضاعفات صحية أودت بحياته.

منزل فقير في حي راقي

يجعلنا ذلك السرد عن العنف المجتمعي والتمييز المؤسسي والاستهداف الأمني نتيقن أن تواجد العابرين/ات جندريًا في الأحياء الشعبية و/أو الفقيرة قد يكلفهم حياتهم، حيث أن للمجتمع المصري تاريخ طويل من العنف ضد العابرين/ات جندريًا والاعتداء عليهم في الأماكن العامة و/أو طردهم من منازلهم، يختلف الحال قليلًا عندما ننتقل إلى الأحياء الراقية، التي يكون معظم قاطنيها والمترددين عليها من الأجانب أو الأفراد من الطبقات الثرية، حيث أنه – وفي الأغلب -لا يركز سكان المنطقة والمترددين عليها مع السكان الآخرين. إلا أن ذلك الأمان الذي يعد من الحقوق الأساسية للمواطنين يعتبر في حد ذاته امتيازًا، والحصول على امتياز في سياق عدم التمكين الاقتصادي يعني تخلي عن امتياز آخر، فعلى سبيل المثال منذ عدة أعوام كنت في زيارة لصديقة لي عابرة جندريًا تسكن في أحد الأحياء الراقية، التي شُيدت فيها العمارات على طراز المعمار الإيطالي، وتحاوطها الكثير من الأشجار لتبدو كلوحة شديدة الجمال والجابية، حتى دخلنا إلى شقتها ليتحول المشهد إلى اللون الرمادي: جدران منقشعة ومساحة خاوية تحتوي على غلاية للماء و«بوتاجاز» مسطح ومرتبة صغيرة للنوم. سألتها متعجبة: «إيه يا بنتي مبتمليش البيت ليه؟»، فردت: «يا أملى البيت يا أسكن هنا!”.

كل أشكال العنف والتمييز تلك عاشها العابرين/ات جندريًا في مصر أثناء أعوام الاستقرار الاقتصادي، في حين تحولت أوضاعهم اليوم إلى ما يفوق ذلك بمراحل، وأصبحت حلول كتقبل العنف أفضل من الهروب منه، وتحمل واقع التشرد والجوع والمرض والسجن، وأصبح قرار عبورهم الجندري كأمنية «ميداس»، حيث يمكنهم أخيرًا الحصول على أمنيتهم لكن مع خسارة كل شيء آخر.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة