تجديد انتاج السلطة

ما الذي أراده، بالضبط، ثوار 25 يناير؟ وما الذي تريده، وحتّى الآن، كل تلك الاتجاهات والفرق والأحزاب والجماعات والتيارات؟ عدة إجابات من الممكن تقديمها، ولكنها، فى معظمها، لا تنتمي إلا إلى المثالية المرهفة الحالمة! فالثوار (محامون، أطباء، مهندسون، معلمون، شيوخ، قساوسة، رجال، نساء، شباب، أطفال، اشتراكيون، ليبراليون، متأسلمون، جهاديون، عُمّال، حِرفيون، بل وحتّى رعاع المدن… إلخ)، فى ميدان التحرير، وجميع ميادين الثورة في البلاد، لا يريدون سوى مجموعة من المطالب المشروعة جدًّا؛ فهم يطالبون باحترامهم كمواطنين شرفاء من قِبل مؤسّسة الشرطة، وأعضاء النيابات، ودوائر القضاء. وهم يطالبون بتوفير فرص العمل، ورفع الحد الأدنى للأجور. هم يطالبون بحياةٍ كريمة. هم يطالبون بالقضاء على الفساد والتزوير والتربُّح والاختلاس والرشوة والمحسوبية. هم يطالبون بإعمال مبدأ سيادة القانون، مع بسط الرقابة القضائية الحقيقية على أعمال الإدارة… إلى آخر تلك المطالب التي يريد المتظاهرون من خلال تطبيقها إعادة تشكيل الخريطة السياسية، وإعادة توزيع الثروة الاجتماعية، وفى المرحلة الأخيرة قرر المتظاهرون، في 25 يناير، رفع سقف المطالب، إلى حد مطالبة مستميتة بتنحية رئيس الجمهورية، مع تحميله جميع مآسى الماضي، اختزالًا للمسألة برمتها، وحينئذ ثمة تناول حماسى جدًّا (سطحى جدًّا)، يتولى تقديم الملخّص فى هذا الشأن، هذا التناول إنما يرى الأزمة قد انفرجت بتنحي الرئيس عن منصبه (ابتهاجًا بكلمة خلعه) ولا يتبقى الآن أمامنا كمصريين شرفاء إلا تنظيف ميدان التحرير، وعدم مخالفة إشارة المرور، وعدم التحرُّش بالبنات، والكف عن إعطاء الإكراميات “الرشاوي”… إلخ، الثورة هنا نجحت (فى رأي جُل ثوار 25 يناير) لأنها أسقطت نظام عميل (إمبريالي) في رأي، و(طاغوتي) في رأي آخر. بيد أن هذا التناول جاء دون لمس المشكلة الأساسيّة التي قادت إلى تفجُّر الثورة ذاتها، وهى مشكلة (نمط الإنتاج المهيمن) والذي أفضى إلى الافقار الشامل وإزدياد الجماهير تحت خط الفقر من جهة، والبطالة والجوع والمرض من الجهة الأخرى. إن وضع اليد على المشكلة المركزيّة يجعلنا ندرك بوضوح أين نحن من الثورة كفكرة، وإلى أين نتجه بها، فإن الوعي لازم بأن النظام لم يسقط، فعليًّا، إذ الذي سقط مظاهر وجوده وبعض رموزه، فقط بعض الأسماء وبعض المؤسّسات، مع بقاء وجوده الهيكلي على الصعيد الاجتماعي والسياسي، وهو يستمد وجوده الهيكلي هذا من نمط الإنتاج المهيمن والذي نمى النظام في ركابه. فالنظام الاقتصادي الذي تحكم فى مُجمل أداء النظام عبر سنوات من قهر الشعب وسحله، لم يزل موجودًا بوجود شركاته ومشروعاته ومؤسساته وأسهمه وسنداته، ولم تزل مرتزقة النظام تتمتع بكامل وجودها الاجتماعي والسياسي! إن (التوقف) عند خلع رئيس الدولة، ووزارته الفاسدة، إنما هو (سقوط) للثورة وليس للنظام، فإن طريق الثورة لم يزل طويلًا، فالثورة الحقيقية ليست ضد نظام حكم فاسد، وإنما هي ضد النظام الاقتصادي المهيمن والذي يتحكم في هذا النظام الفاسد، إنه النظام المقدِس للرأسمال، والساجد للسوق الواحد الأحد. إن هذا التحديد إنما يُمثل لحظة تنبيه في تاريخنا الثوري الواعي بأن الثورة الحقيقية لا تؤدي مطلقًا إلى إعادة إنتاج السلطة، وإنما تقود نحو مشروع حضاري لمستقبل آمن لا ترسم محدداته وملامحه النُخب الانتهازية وبرلمانات الذهب والدم، وسلطة القمع. بل الجماهير الغفيرة التي كادت أن تزحف على بطنها من الجوع والفقر والمرض. إن هذا التحديد إنما يحذرنا باستمرار من هؤلاء الانتهازيين الحالمين بركوب الثورة وتوجيهها إلى حيث يريدون. إنه التحديد الذي يعلنها ثورة لا هوادة فيها ضد نظام استرق أرواحنا على ظهر كوكب ينتحر بعد أن قاد المخبولون العميان.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة