منذ إطلاق دعوة الرئيس للحوار الوطني، نهاية أبريل الماضي، والمستهدف منها «الوصول إلى اتفاق حول أولويات العمل الوطني»، بحسب وصف الرئيس في كلمته خلال إفطار الأسرة المصرية. وهناك تناقض كبير بين مسارين يسيران بشكل متوازي، ولكن يؤثر كل منهما في الآخر بدرجة كبيرة، الأول؛ هو مسار الإعداد للحوار الوطني من قبل الأطراف المختلفة، جدول أعماله وقضايا ومحاور النقاش واستقبال الأفكار والرؤى من القوى السياسية والخبراء في كل محور، أما الثاني؛ فهو مسار الحكومة التنفيذية التي عملت بوتيرة متسارعة خلال الشهور الأخيرة على تمرير عدد من السياسات العامة بشكل سلطوي ومنفرد، ومن دون حوار حقيقي مع أصحاب المصلحة الرئيسيين لكل سياسة، ومن دون انتظار للحوار الوطني المزمع بدء جلساته قريب.
(١)
إذ أقرت الحكومة ما أطلقت عليه «سياسة تخارج الدولة»، والتي تستهدف بيع عدد من الأصول المملوكة للدولة بهدف توفير سيولة قدرها ٤٠ مليار دولار، من أجل تمويل خدمة وفوائد الديون الناتجة عن زيادة معدلات الاقتراض.
ورغم الأهمية الكبيرة التي تحملها تلك السياسة وتبعاتها الاقتصادية، ومدى نجاعتها في مواجهة أزمات الاقتصاد المصري، ورغم الملاحظات والتعليقات التي عبر عنها عدد معتبر من الخبراء الاقتصاديين، تجاهلت الحكومة كل تلك الأمور وقامت بتمرير السياسة.
(٢)
كما قرر البنك المركزي المصري مؤخرًا تحرير سعر الصرف، في استجابة جديدة لتوصيات صندوق النقد الدولي في إطار الموافقة على القرض الأخير، وذلك بهدف خلق مرونة في سعر الصرف، لمحاولة ضبط الأسواق والسيطرة على التضخم، وتنشيط الطلب وحركة رؤوس الأموال، وهو الثالوث الذي يصفه خبراء الاقتصاد العالميين بـ«الثالوث المستحيل».
أدى ذلك بالضرورة إلى نتائج عكسية، كان أهم آثارها إعلان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، الخميس الماضي، عن ارتفاع معدل التضخم في المدن، في شهر نوفمبر، بنسبة 18.7٪، مقابل 16.2٪ في شهر أكتوبر، بينما وصل معدل التضخم السنوي لإجمالي الجمهورية إلى ١٩.٢ ٪. ويأتي هذا الارتفاع التدريجي في نسب التضخم خلال الشهور الأخيرة بسبب زيادة أسعار عدد كبير من السلع الأساسية بنسب متفاوتة، مثل الجبن والألبان واللحوم والأسماك.
وبعد الموافقة على قرض الصندوق بقيمة 3 مليار دولار، تكون الدفعة الأولى منها ٣٤٧ مليون دولار، فيما تخضع باقي الدفعات لمراجعة دورية بين الصندوق والحكومة، للتأكد من مدى التزام الحكومة بالاتفاقات الإطارية مع الصندوق، المتعلقة بإصلاح الأوضاع الاقتصادية.
وفقًا لذلك تلتزم الحكومة المصرية بالتمادي في سياسة تحرير سعر الصرف، وتقرر تعويم الجنيه المصري، واستكمال خطة بيع الأصول المملوكة للدولة، فضلًا عن تخارج الدولة من الاقتصاد لصالح القطاع الخاص والاستثماري، ومراجعة الإنفاق الحكومي الموسع على المشروعات القومية، بالإضافة إلى مراجعة حزم الدعم المقدمة للمواطنين.
ربما يكون لالتزام الحكومة المصرية بتنفيذ كل تلك الإشتراطات مردود اقتصادي غير قابل للاحتمال، في ظل تدهور الأوضاع المعيشية والاقتصادية للمواطنين، ومع تزايد معدلات تضخم بشكل كبير وعدم القدرة في السيطرة عليها.
إن الحوار حول أولويات الدولة الاقتصادية، وأولويات الإنفاق الحكومي، والآليات الأكثر نجاعة في مواجهة أزمات الاقتصاد المصري، بدون تحميل الأكثر فقرًا تبعات الإصلاح الاقتصادي، ليس فقط أولوية على طاولة الحوار الوطني، ولكن يجب أن يكون الآلية الرسمية المتبعة عند إقرار أي سياسة.
(٣)
كما أصدرت الحكومة قانون الإجراءات الضريبية الموحد، وأطلقت وزارة المالية منظومة التسجيل الإلكتروني بهدف رقمنة عملية المحاسبة الضريبية، وهو ما يساعد في الحد من التهرب الضريبي، وزيادة مساهمة حصيلة الضرائب كنسبة من الناتج القومي، حيث لا تبلغ الضرائب على الدخل والأرباح التجارية والصناعية والمهنية والرأسمالية التي يتم تحصيلها من القطاع الخاص، الذي يمثل نحو 70% من الناتج المحلي الإجمالي، فإن إسهامه في الإيراد الضريبي للدولة لا يجاوز 15%، تشكل ضريبة الدخل على المهن الحرة نسبة 0.5% منها في أفضل التقديرات.
ورغم أهمية حوكمة الضرائب عن طريق إطلاق منظومة إلكترونية لرقمنة المحاسبة الضريبة وحوكمتها، بهدف حصر المعاملات والأنشطة التجارية والصناعية والمهنية، لا سيما وأن السوق المصري جزء كبير من أنشطته ما زالت غير رسمية ولا يدفع عنها ضرائب، تفجرت موجة واسعة من الاحتجاجات مع إقرار إجراءات التسجيل في منظومة الفاتورة/ الإيصال الإلكتروني، خاصة من قبل المهنيين، وكانت نقابة المحامين في القلب من قيادة تلك الاحتجاجات.
كما عبرت نقابات؛ الأطباء، المهندسين، أطباء الأسنان، الصيادلة والمهن التمثيلية عن رفضها لما اعتبرته «ضريبة إلكترونية جديدة» تستهدف تحميلهم أعباء إضافية، في ظل تدهور كبير في الأحوال المعيشية، مع ارتفاع معدلات التضخم وزيادة أسعار السلع وتدني الخدمات العامة، فضلًا عن عدم ثقة تلك الشرائح من المواطنين في رشادة الحكومة فيما يتعلق بأوجه الصرف والإنفاق الحكومي لعوائد الضرائب.
يمكن فهم احتجاجات المهنيين الرافضة للتسجيل بمنظومة الفاتورة/الإيصال الإلكتروني من منطلقين؛
الأول؛ منطلق غياب العدالة الضريبية بشكل عام عن منظومة الضرائب في مصر، فلم تشتمل تعديلات قانون الإجراءات الضريبية الموحد على تعديل لشرائح الضريبة لتكون تصاعدية، بحيث يتم توزيع الأعباء الضريبية بشكل عادل، كذلك لم تتضمن التعديلات رفع حد الإعفاء الضريبي لحماية الأكثر فقرًا بين تلك الشرائح.
أما المنطلق الثاني؛ فهو غياب الحوار المجتمعي الجاد مع القطاعات المستهدفة بالتنظيم، مثل النقابات المهنية والغرف التجارية ومؤسسات المجتمع المدني المعنية، واستطلاع آرائهم بشأن التعديلات، وكذلك إجراءات منظومة التسجيل الإلكتروني، وهو مربط الحديث في تقديري، لأنه يعبر عن مدى إيمان هذه السلطة بالحوار كأفضل آلية لخلق الرضا والتوافق الشعبي حول السياسات العامة للحكومة في المجالات المختلفة.
(٤)
في سياق منفصل متصل؛ تناقش لجنة القوى العاملة بالبرلمان، هذه الأيام، مشروع قانون العمل الجديد، الذي تقدمت به الحكومة مؤخرًا، وذلك قبل عرضه على الجلسة العامة للبرلمان لإقراره.
ورغم الأهمية الكبيرة والخطورة الشديدة التي يمثلها مثل هذا التشريع على استقرار علاقات وبيئة العمل، باعتبارها أهم مداخل الاستقرار الاجتماعي، إلا أن الحكومة والبرلمان، ومن قبلهم مجلس الشيوخ، تجاهلوا جميعًا الاستماع إلى أصوات أصحاب المصلحة الرئيسيين من العمال ومنظماتهم النقابية، أو إجراء حوار جاد حقيقي معهم حول ملاحظاتهم على القانون ونصوصه، والاكتفاء فقط بالاستماع إلى رجال الأعمال وجمعياتهم، وهو ما تسبب في موجة رفض واسعة لمشروع القانون.
لا يهم قانون العمل العمال فقط، بل يشمل فئات واسعة من المهندسين والمحامين والتجاريين والأطباء والصحفيين وغيرهم، الذين يعملون بأجر في مواقع العمل بمختلف القطاعات، وبذلك يشمل القانون كل القوى العاملة، والتي تشكل مع أسرها الأغلبية الساحقة من المجتمع.
إن إصرار الحكومة على عدم اعتماد الحوار باعتباره السبيل الوحيد لخلق التوافق والرضا حول السياسات العامة للحكومة، وخصوصًا التشريعات والقرارات التي يتسع نطاق آثارها لتشمل قطاعات عريضة من المواطنين، يتناقض مع الرغبة المتجددة للسلطة السياسية في إجراء حوار سياسي حول كافة القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بهدف الوصول إلى اتفاق حول أولويات العمل الوطني.
إن استمرار الحكومة في تمرير مثل تلك السياسات بشكل منفرد وفوقي، ومن دون انتظار للحوار الوطني وما قد يسفر عنه من مخرجات وتوصيات، من الممكن أن يتسبب في تفريغ الحوار الوطني من أي مضمون حقيقي، ويؤكد التشكيكات بعدم جدية السلطة في إجراء الحوار من الأصل، وإننا لسنا إلا أمام محاولات لخلق مجال سياسي آمن مصغر، تستطيع من خلاله القوى والأحزاب ممارسة المعارضة بشكل مظهري، و بهدف تسويق عملية الإصلاح السياسي «المدارة» تلك، ومن أجل تحقيق أغراض مختلفة عن الأسباب المعلنة للحوار. فهل يتم تفريغ الحوار الوطني من مضمونه؟!