طرقات الرحلة البعيدة

مجموعة أسئلة القلق المصاحبة للطرقات، أتسائل مع كل رمشة عين، ترى هل صحت وجهتي؟ هل ضللت الطريق؟ هل تحققت من خطة رحلتي؟ هل حملت المتاع الصحيح؟ نسيت شيئًا.. نسيت أمرًا..

«نسيت شخصًا أم كانت الرحلة فردية من البداية؟»

أوكد الحجز، نعم غرفة فردية.

نعم مقعد فردي في القطار.

نعم وجبة لشخص واحد.

اخترت كل شيء مسبقًا.

«هل اخترت الوحدة؟!»

أجلس أراجع خطواتي وخطتي وأرجو التيسير من الصاحب في الطريق، أفكر في المخاطر وأهون أشدها على نفسي. أعيد النظر للساعات وأحسب الوقت.

«هل حسبت الوقت؟ أم ضاعت مني الأيام كمياه تسربت من بين كفي صغير على شاطئ البحر يلهو؟»

في سنوات العمر الأولى كنت أفكر في كل شيء بشكل مثالي، قرأت عن يوتوبيا وظننت أني أستطيع أن أصنعها. تخيرت صديقتين بدقة، واقتربت لحبيب بعينين جميلتين. اخترت أسماء أولادي وحددت مهنتي، حملت أول كارنيه للصحافة ووزعت نسخًا من الجورنال الذي حمل اسمي للمرة الأولى.

لما تجاوزت العشرين تبعثرت خطتي، وفكرت في الترحال. لعلي أرى وأعرف. وارتحلت. تنقلت بين أماكن مختلفة.

وفي كل مرة أسند ظهري على أسرة مختلفة، وفي كل مرة أسمع دقات قلبي تسألني: «إلى متى تلك الوحدة؟!».

«بخفة أخبره: حينما يصل القطار محطته الأخيرة ويتوقف الترحال»

في سنوات عمري التالية تعلمت أن أرتب أولوياتي، أن أنظم جدول أعمالي وأحدد عليه بعض التوقعات بخيبات الأمل، ودومًا القدر يلاعبني ويسخر. يأتيني بخبر عن أن توقعي سيخيب، أفرح وأقول خاب ظني وانتصر أملي، لكن الخواتيم تأتي تأكيدًا، أن الأعمال على جدولي تمت، وأن خيبات أملي حلت.

يحل الليل في مدينتي مبكرًا دومًا، تضل بسرعة خطواتنا وتحيد عن الواقع، لا ننفك نعود لذكرى الثورة. بيان التغيير، كفاية ، ٦ إبريل، خالد سعيد، دعوات ٢٥ يناير، قتلى ٢٨ يناير، انسحاب الداخلية، ١٨ يوم ميدان، موقعة الجمل، خطاب التنحي..

المجلس العسكري، ١٩ مارس، نعم تزيد النعم، حمدين صباحي، وعبد المنعم أبو الفتوح، العباسية، محمد محمود، ماسبيرو جثث الشهداء، الاتحادية، ذكرى يناير الثانية، الثالثة، الرابعة… العاشرة!

مذابح.. جثث.. سجون.. تعذيب.. هزيمة.

أحيانا أسأل نفسي: «هل كانت حقيقة؟»، وتجيب علي نفسي: «حقيقة كما أنكِ حقيقية». فأعود لأسألها: «هل أنتِ حقيقية؟».

ما معنى الحقيقة؟ الأمور كلها نسبية. الحقائق كلها نسبية. الحقيقة تحمل أوجه مثلما يحمل القرآن أوجه، وكل منا يفهمها كما يبغي، يرتديها صليب أو يحملها صليب أو يُصلب عليها، وبعضنا يحملها سياط ويضرب لها الرقاب، بعضنا يحملها كلمة وسؤال وشك.

«ربي أرني كيف تحي الثورة».. ولكن أي ثورة؟

«ربي أرني كيف تحي الموتى».

كلنا موتى! وطني ما بقى منه يحتضر، أما أغلبه فجيفة تسد رائحة عفنها الأنوف، ويتأفف الغرباء منها. أما أهلها فألفوها حتى أنكروها.

أتوه بين طرقات أحمل خرائطها، أبحث بين الأعين عن جواب، طرقات يمحي نهاياتها الضباب.

أمضي فيها شجاعة أم حماقة؟ لا أدري لكني أمضي أفضل من الثبات. وأصل لنهايات تصاحبني حقيبة التساؤلات نفسها.

لماذا خرائط أوطاننا قادتنا لمتاهات؟

كيف ضاعت منا العلامات؟

لماذا رفيق الدرب مني تاه؟

كيف للسعادة أن تعود؟ مهما فعلت لا يبدو كافيًا. يبدو الصمت أثره كالكلمات. وتلك الحروب أدخلها أحارب طواحين الهواء بكلمات عرجاء لا يقرأها أحد. لكني لا أنفك أحاول. لا أنفك أقول.

ويبدو أن نصيبي وحظي من الدنيا وإرثي الذي أتركه من خلفي هو أسئلة الطرقات. وأمضي لأقص لمن خلفي كيف كانت الطرقات.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة