معاذ الشرقاوي
كنا قد تحدثنا في المقالة السابقة عن بوادر ودوافع حركة الإصلاح الديني في أوروبا في القرن السادس عشر الميلادي، كنتيجة من أهم نواتج عصر النهضة الأوروبية؛ وتحدثنا أن تلك الحركة الإصلاحية كانت قد أخذت اتجاهين، اتجاه يرى إصلاح مفاسد الكنيسة من داخلها وعلى يد رجالها، واتجاه يرى ضرورة القيام بإصلاح الكنيسة البابوية على يد رجال من خارجها، وكان هذا الاتجاه يتزعمه رجل الدين الألماني مارتن لوثر.
ولد مارتن لوثر سنة 1483م في بلدة ايزليبن في مقاطعة سكسونيا، من أبوين يعملان بالفلاحة، أتم تعليمه في جامعة أرفورت، وفي سنة 1505م دخل دير تابع لطائفة القديس أوغسطين، وفي سنة 1511م زار روما وصدم عندما رأى الانهيار الخلقي يعمها، وفي سنة 1512 تم تعيينه أستاذًا للاهوت في جامعة وتنبرج، ونجح في مجال التدريس والوعظ وحقق جماهيرية بين الطلاب والشعب في وتنبرج.
بدأت بوادر أفكاره الإصلاحية سنه 1517م، حيث كان قد هبط إلى وتنبرج راهب يدعى حنا تتزل من الدومينكان ليبيع صكوك الغفران للأهالي، وكان يروج لبضاعته في وسط الفلاحين والعامة السذج، بأنهم إذا قاموا بشراء تلك الصكوك ستتحول تلال مدينتهم إلى تلال من الفضة، وأن من يسمع رنين نقوده وهي تقع في الصندوق تكون روحه في طريقها للجنة، وأكثر من ذلك أن ذهب هذا الراعي إلى درجة عالية من الخطيئة عندما أعلن أن هذه الصكوك تغفر أفحش الذنوب، حتى ولو كان هذا الذنب هو ارتكاب الخطيئة مع العذراء المباركة مريم عليها السلام.
كانت صكوك الغفران التي ابتدعها البابوات مؤداها أن الإنسان حينما يرتكب إثمًا ثم يندم عليه ويعلن الاعتراف به أمام القسيس، فإن ذلك الإنسان لا يدخل الجنة مباشرة، بل يظل فترة من الزمن في المطهر ينال فيه قسطًا من العذاب حتى يتطهر تمامًا من ذنوبه، ثم يدخل الجنة، وأعلن البابوات أنه يمكن للإنسان أن يخفف العذاب عن نفسه في المطهر، هذا عن طريق الحج إلى كنائس معينة، ثم أجازوا مسألة شراء صكوك الغفران بدلًا من مشقة الحج إلى روما، وبدأوا يرسلون مندوبيهم إلى أرجاء أوروبا لبيع تلك الصكوك، وأقبل الناس على شرائها، وحقق البابوات أموالًا هائلة عن طريقها.
أثار مارتن لوثر ما شاهده من عملية بيع الصكوك، وبدأت حركته، حيث انتهز فرصة تجمع أهالي وتنبرج بمناسبة عيد الشهداء 21 أكتوبر 1517م، وعلق على باب كنيسة وتنبرج احتجاجًا اشتمل على خمسة وتسعون فقرة، هاجم فيها الكنيسة الكاثوليكية، وتجارتها في صكوك الغفران، وقرر في جرأة مثالية أن البابا نفسه لا يستطيع غفران الذنوب، وأن الله هو الذي يغفر الذنوب، وأصر على ضرورة اتخاذ الكتاب المقدس وحده دستورًا لتفسير جميع المسائل الدينية، وهكذا لم يطالب لوثر بإصلاح نظام الكنيسة وحسب؛ بل طالب بإصلاح العقيدة الكاثوليكية ذاتها.
بدا هذا الحادث أول الأمر قليل الأهمية، ولم يتوقع أحد أن حركة مارتن لوثر ستتطور إلى حركة دينية ثورية تسبب تصدع في الجبهة المسيحية في دول غرب أوروبا وشمالها، وانقسم العالم المسيحي إلى معسكرين متصارعين مدة قرنين من الزمن، حاولت روما إلقاء القبض على لوثر لكن حاكم سكسونيا رفض أن يحاكم أحد رعاياه في روما، فرأت البابوية أن تسلك طريق آخر فأرسلوا الكاردينال كاجيتان لإقناع لوثر العدول عن مهاجمة بابوية روما، لكنه أعلن أنه على استعداد كامل للمناظرة بينه وبين أي مندوب تراه البابوية، وأن تحكم بينهم إحدى الجامعات الكبرى.
وفي عام 1519م نظمت مناظرة بين مارتن لوثر وبين أحد كبار رجال الكنيسة الكاثوليكية يدعى حنا ايك، وجرت المناظرة حول نقطتين أساسيتين وهما: رئاسة البابا لكنيسة روما، ومدى وصول سلطات البابا الروحية والدينية على العالم المسيحي، وأعلن لوثر أن صكوك الغفران والبابوية كلها بدع مستحدثة، وأن المجامع الكنسية ليست معصومة من الخطأ.
زادت أعداد المعجبين بلوثر وأفكاره، وبات واضحًا أن الانفصال عن بابوية روما أصبح أمر لا مفر منه، فقام البابا من جانبه بإصدار قرار حرمان كنسي ضد مارتن لوثر، وأرسل إلى الإمبراطور الألماني لينفذ القرار، فدعا الإمبراطور مارتن لوثر للمثول أمامه، وأرسل له أمانًا شخصيًا يتيح له الذهاب والعودة من دون أن يتعرض لسوء، واستجاب لوثر لتلك الدعوة.
وفي 10 ديسمبر 1520م أقيم حفلًا كبيرًا في أحد الأسواق العامة في مدينة وتنبرج، وشهد الحفل طلبة الجامعة والعامة، وأمام ذلك الحشد قام لوثر بإحراق قرار الحرمان الكنسي الصادر ضده من البابا، كما أحرق عددًا من المراسيم والقوانين الكنسية، ورتل الحاضرون ترانيم الشكر لله، وتحولت حركة مارتن لوثر إلى حركة دينية قومية تقف في وجه بابوية روما الأجنبية، وأصبح لوثر زعيمًا ثوريًا، وانتشرت أفكاره في كل ربوع أوروبا، وأصبح لها المؤيدون الذين عرفوا بلفظ "المحتجون/ Les Protestants"، ومن هنا بدأت تتشكل معالم العقيدة البروتستانتية التي انتشرت بعد ذلك كعقيدة مغايرة للكاثوليكية التي كانت العقيدة الكنسية الوحيدة طيلة العصور الوسطى.