كريم فرحات
مع وفاة المفكر المصري سيد القمني، يمكن اعتبار أن هناك سيرة أخرى سوف تكشف عن فصولها دون تقف، تتمثل في الجدل من مواقع متباينة حول مؤلفاته، بينما تنفتح شهية كافة الأطراف (المؤيدة والمعارضة) للحديث والانخراط مع ميراث ذلك المثقف الإشكالي الذي نبش داخل العقل السلفي، وحاول البحث في “اللا مفكر فيه” بتعبير المفكر اللبناني جورج طرابيشي، وتحويل المسكوت عنه لمادة للنقد والمسائلة، ومن ثم، رفض التكرارية والكسل الذهني الذي لعبت التيارات الأصولية الدينية في تأبيد واقعه، بهدف فرض الجبرية الدينية التي ستضحى فيما بعد جبرية سياسية تحول دون معارضة أفكارهم وممارساتهم، النظرية والعملية.
القمني المولود عام 1947، امتدت حياته لنحو سبع عقود تقريباً. وتعد اللحظة التاريخية بشروطها التي شكلت وعيه وفرضت تأثيراتها النفسية والمعرفية عليه مفتاحاً لفهم طبيعة الدور الذي قام به، وكذا موقعه في الثقافة المصرية، إذ إنه من بين الكتاب والمفكرين الذين تعرضت بنيتهم النفسية والذهنية إلى صدمة هائلة ومدوية على خلفية هزيمة يونيو 1967، وقدشكلت فجواتها جيوباً لتسلل قوى الإسلام السياسيوالفاشية الدينية للصعود، وتحديداً بعدما حاولت تلك القوى، عبر دعم أطراف إقليمية ودولية ملء الفراغ،أو بالأحرى تقديم الإسلام المؤدلج كصيغة ناجزة وبديلة عن الفكر القومي العروبي.
انعكاسات الهزيمة العسكرية يمكن مقاربتها مع مفكرين آخرين من المجايلين للقمني، ومنهم نصر حامد أبو زيد (1943)، وفرج فودة (1945). فعرج القمني على التراث محاولاً الاصطفاف برؤية توفيقية مؤقتة مع المعتزلة لمواجهة السلفية. وبالتالي، قدم العقل على النقل، ورفض كل ما يتعارض مع الأول. كما رفع القمني، من خلال هذه الأداة الإجرائيةوالمنهجية، العصمة والقداسة عن كافة النصوص التي تتخذ موقعها المتعالي على النقد والمراجعة، وأعاد الاعتبار للتفكير النقدي بدلاً من الاجتراري،والعقل في مقابل “العنعنة”.
ويقول القمني في كتابه “الأسطورة والتراث”الصادر في نهاية التسعينات: “إهدار التراث القديممن دون بحثه، وبحث ظرفه الموضوعي، وإصدارأحكام قبلية عليه وعلى فلاسفتنا، ليس من العلميةفي شيء… ومن ثم يمكننا القول: إنه بالتزام كلشروط العلمية في البحث، يمكن أن نعثر في القديمعلى كثير مما يفيد قراءتنا لتراثنا وحاضرنا قراءةصحيحة”.
الحالة الإشكالية التي رافقت سيرة ومسيرة صاحب: “العرب قبل الإسلام”، فرضتها صداماته المتكررة مع الصحوة الإسلامية التي بلغت ذروتها في تسعينات القرن الماضي. تلك اللحظة التي نفذ فيها الناطقون بلسان السماء عنفهم المقدس تجاه المجتمع الذين اعتبروه يعيش تحت وطأة “الجاهلية”، ومنها عملية اغتيال مفكرين ومسؤولين، كما جرى مع المفكر المصري فرج فودة، والمحاولة الفاشلة لقتل نجيب محفوظ. وقد نجح الأصوليون في الهيمنة على المجتمع، فيما تمددت أفكارهم المغلقة وممارساتهمالراديكالية، وذلك من خلال الاعتداءات على الكنائس ودور السينما، ومنع الأنشطة الفنية والأدبية التي تقوم بها الحركة الطلابية بالجامعات، الأمر الذي عرف بظاهرة “المطاوي” و”الجنازير”.
فضلاً عن النمط الوعظي المتشنج تجاه المرأة لفرض الحجاب، والضغط بخطاب متشدد ووحشي آخر بخصوص الآخر، سواء المسيحي، أو حتى المسلم الذي يقف على النقيض من معتقداتهم. ولذلك، استخدم القمني منهجه المادي التاريخي لتعطيل بعث التراث في نموذج إكراهي لفرضه على المجتمع، الأمر الذي يؤدي إلى توسيع دائرة وآليات التكفيربحيث يكون الأداة السياسية أمام محاولات القفزالدؤوبة على السلطة، وتطبيق مبدأ الحكم الوحيد لديهم بتنفيذ فوري للشريعة.
ومع حضور فوضي الصحوة الاسلامية التبستالمعارضة بالتشدد الذي لم يقف عند حد معاداةالسلطة او المشايخ الرسميين, بل تجاوزه الي معاداةالمواطنين والمجتمع كله، حسبما يوضح القمني، ويردف: “ولم يكن مشايخ المعارضة الاسلاميةالمسلحة أوفر حظاً بالمبادئ والقيم المحترمة منمشايخ السلطان, فقتلونا، وحاكمونا، وكفرونا،وهددونا، ومزقوا الوطن، ودمروا السياحة بوحشيةفضحتنا أمام العالم. وقد فعلوا ما فعلوا بدورهمبادعاء الرسوخ فى العلم ومعرفتهم وحدهم بالمعانيالصحيحة للوحي الاسلامي, ليعودوا هم انفسهموليس غيرهم، ليكتشفوا أن رسوخهم الأول كانباطلاً, وأنهم قد اكتشفوا رسوخاً جديداً, ليكتبواسلسلة المراجعات التصحيحية التي تحولوا فيها عنالعمل المسلح الي خوض العمل السياسي السلمي.
ويصف المفكر المصري، علي مبروك، ذلك الواقع المتداعي بفعل سيطرة العقل السلفي، بأنه يعكس”غربة مزدوجة”، وقد عانى منه المجتمع تحت وطأة “الجاهلية المعاصرة”. ففي كتابه: “الحداثة العربيةبين العقل والقوة”، يقول مبروك: “يتجلى ذلك فيوقوف العربي والمسلم على هامش التاريخ عاجزاً عنالإسهام الفاعل فيه، وعن تراثه، كما تتجلى فيعجزه عن الإمساك بجوهره الأصيل”. ويتابع:”الأصل في تلك الغربة يكمن في عجزه عن إنتاجمعرفة حقه ومنضبطة بهما”.
وبنفس درجة صعود الإسلاميين، بوتيرة مخيفة، كان القمني يلاحقهم بجسارة، ويتعقب آثارهم ويرفع قبضتهم الثقيلة التي تفرض “أسلمة” دؤوبة في السياسة كما في الاقتصاد والأخيرة شهدت فضيحة الإسلاميين الذين نهبوا أموال المودعين في شركات توظيف الأموال. وقد عاود القمني الظهور، على نحو لافت، لفضح مخططات الإخوان بعد ثورة 25 يناير، كما خص بالهجوم يوسف القرضاوي. ووصف أعضاء الجماعة بـ”التلون حسب الظرف والحالة”،لافتاً إلى “التعارض بين ما يقوله الإخوان ومايفعلونه”. وقد أكد على أن الصحوة الإسلامية”خديعة، واجتراراً لفوضى سياسية، فطابع التنظيميغلب على عناصر الإخوان، لتعودهم على الطاعةالمطلقة”.
كما ألمح القمني، إلى أن صراع القيم والمفاهيمالدينية والأيديولوجية والحقائق المطلقة لن يتمكن منالوصول إلى تفاهم لأن كل فريق لديه يقينيات إيمانيةتصادر على الآخر، لأن كل فريق يتخذ من موانعهوسدوده متاريس يتمترس خلفها بحسبانها مقدساتتعطيه الحصانة لينال من عقائد الآخرين وقيمهم. ويضيف: “في حال كحالنا لا يتمكن أي فريق غيرالفريق السيد من الرد ولا يملك حق المناقشة في ظلإحكام سادتنا المشايخ قبضتهم على المساحاتالمتاحة للرأي والقول، بل وعلى دماغ الناس، لأنه غيرمسموح بوصول أي آخر لهذا الدماغ، وتمسىمحرماته وخطوطه هي الوحيدة القادرة على الوجودوعلى الفعل حتى أصبحت هي المعتاد الوحيد،لتضحي في نظر الناس مسلمات لا تقبل النقاش. وهو الدكتاتورية عينها والاستبداد ذاته لفريق حصينيفرض سلطته وسلطانه على باقي المجتمع المجردمن أية سلطة، هو فريق واحد يتبارى مع فرقاءمقيدين لا تصل أصواتهم لبني وطنهم”.