عن لبنان الذي لا يموت.. ولا يحيا

أحمد عابدين

بعيون يملؤها الحزن والدموع، ومن أمام صورة ضخمة لوالده بجوارها العلم اللبناني، أعلن رئيس الوزراء الأسبق، سعد الحريري، انسحابه من الحياة السياسية، وعدم خوض الانتخابات البرلمانية القادمة، لا هو ولا تيار المستقبل الذي يتزعمه، يأسًا من الأوضاع السياسية، واعتراضاً – كما قال- على النفوذ الإيراني، وذلك خلال خطاب غمره الأسى، أنهاه بكلمات مؤثرة لوالده رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري.

وبعد ساعات من ذلك الخطاب، أعلن شقيقه بهاء الحريري، بعيون كلها إصرار وتحدي – ومن أمام صورة والده وعلم لبنان أيضاً- عزمه استكمال مسيرة والده، نافيًّا انسحاب ما وصفها بأنها “أكبر طائفة في لبنان” من الحياة السياسية، أما رئيس الجمهورية، العماد ميشال عون، فقد توجه في زيارة عاجلة إلى مقر مفتي لبنان، ليؤكد أهمية وضرورة بقاء الطائفة السُنيَّة في الحياة السياسية اللبنانية.

تأتي تلك الاضطرابات على وقع الأزمة مع دول الخليج العربي، نتيجة ما يرون أنه سيطرة ل”حزب الله”، الذراع الإيراني في البلاد، على الحياة السياسية اللبنانية، وكانت تصريحات لوزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي – قبل الإطاحة به- ضد الحرب السعودية الإماراتية على اليمن، قد اتخذت كذريعة لإعادة تدوير تلك الأزمة، والتي كان آخر حلقاتها قائمة بمطالب خليجية حملها وزير الخارجية الكويتي لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي، تحت مسمى مبادرة للمصالحة.

ربما تكفي المقتطفات البسيطة السابقة لشرح الملامح العامة لما يجري في لبنان، ليس اليوم، وإنما منذ قرابة قرن من الزمان، وبإضافة بعض البيانات الحالية، مثل وصول نسبة السكان الذين يعيشون في فقر متعدد الأبعاد إلى 82%، وفقًا للأمم المتحدة، وانهيار عملة البلاد بعد أن انخفضت قيمتها لأكثر من 90 % في زمن قياسي، وربما تتضح المأساة للقارئ أكثر عندما يعلم بأن “منقوشة الجبنة” التي تُعد أضعف ما يمكن شراؤه من طعام، قد ارتفع سعرها من 1 إلى 32 (بالألف ليرة) في ظل ثبات مرتبات الغالبية العظمى من الشعب، أضف إلى ذلك بأن عدد ساعات انقطاع الكهرباء (التقنين) قد وصل إلى 22 ساعة يوميًّا. مع الإشارة إلى أن أثرى أثرياء هذا البلد هم القيادات السياسية، أو أفراد من عائلاتهم.

تلك صورة مبسطة عن بلد يعيش الغالبية العظمى منه في ضيق حال شديد، رغم الدعاية الكاذبة عن رفاهية أهله، في حياة يومية غابت عنها المؤسسات الرسمية للدولة اللبنانية بشكل مفجع، في مقابل قوة وشدة المؤسسات والقوى والتيارات السياسية/الطائفية، وذلك على كل المستويات، بدءً من المستوى العسكري، حيث يأتي “حزب الله” (الشيعي) على رأس موازين القوى العسكرية في البلاد، بفارق كبير جدًّا عن الجيش اللبناني نفسه، والذي يرى نسبة كبيرة من الناس بأن ذلك السلاح هو الأداة الوحيدة التي تحمي البلاد من العدو الإسرائيلي، منذ تحرير الجنوب عام 2000، وصد العدوان عام 2006، بينما يرى آخرون بأنه أداة الحزب في السيطرة على البلاد وجعلها إمارة إيرانية. وبعيدًا عن “حزب الله” فإن باقي التيارات هي الأخرى لديها أذرع عسكرية متفاوتة القوى، مثل القوات اللبنانية (مسيحي)، و”التقدمي الاشتراكي” (درزي)، و”حركة أمل” (شيعي)، و”تيار المستقبل” وبقية القوى السُنيَّة، ويمكن القول بأن لدى كل التيارات والطوائف – 18 طائفة دينية في لبنان- مجموعاتها المسلحة، أما على باقي المستويات فحدث ولا حرج، حيث تمتلك تلك الأحزاب مستشفياتها ومدارسها ومؤسساتها الخيرية.

ومن خلال تلك المؤسسات الحزبية/الطائفية يسيطر زعماؤها على القوى والنفوذ والمقدرات والثروات، فكما أنهم يملكون السلطة بشكل ما على تعليم وصحة وعمل وأمن وحماية أبناء عشيرتهم، فإنهم يأخذون في المقابل أصواتهم الانتخابية وولائهم وطاعتهم، وانعكاس ذلك أيضًا في النفوذ داخل مؤسسات الدولة الرسمية، في دائرة محزنة لا تنتهي، تلك الدائرة التي راكمت ثروات طائلة للزعماء من احتكارهم للسياسة والاقتصاد ومقدرات الناس وعلاقات الفساد والمصالح، وبينما يؤجج كل زعيم نيران الكره والطائفية في قلوب أتباعه ضد أبناء الطوائف الأخرى، ويصور نفسه بأنه هو المنقذ والملجأ الذي يحميهم من هؤلاء، يتشارك هو نفسه مع زعيم الطائفة الأخرى/الخصم في المصالح السياسية والاقتصادية، ويسيطروا على كل ما تطاله أياديهم من احتكار لثروات الداخل (أدوية، وقود، أغذية، تجارة، صناعة… إلخ) أو القادم من الخارج (معونات، دعم، قروض، إعادة اعمار.. إلخ).

يمكنك أن تضيف إلى كل ما سبق الحجم الضخم للتدخلات والنفوذ الأجنبي في البلاد، والذي هو بالأمر المعلن، وليس هناك مثالًا أوضح من تصريح الأمين العام ل”حزب الله”، السيد حسن نصر الله، بأن موازنة حزبه ومعاشات أفراده ومصاريفه وأكله وشربه وسلاحه وصواريخه من الجمهورية الإسلامية في إيران، ولكنها ليست إيران وحدها، فهناك الممولون من السعودية والإمارات وقطر وسوريا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية ودولة الاحتلال إلاسرائيلي وغيرها، ولك أن تتخيل انعكاس حجم الخلاف والعداء وتضارب المصالح والمشاريع بين تلك القوى الإقليمية والدولية على بلد صغير – عدديًّا- بحجم لبنان، الذي يقدر عدد سكانه بستة ملايين نسمة، وحتى هذه المعلومة هي غير رسمية على الإطلاق، حيث أن آخر تعداد رسمي كان منذ 90 عامًا، وتوقفت الدولة بعده عن عد سكانها لأسباب طائفية بحتة!

يُفترض أن يذهب اللبنانيون إلى الانتخابات البرلمانية القادمة في ظل معاناتهم الشديدة من جرّاء الأزمات المتعددة، الاقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية، ولكن ما الجديد الذي يمكن أن يطرأ عليهم في ظل الأوضاع السابق سردها وحرص القيادات السياسية وصناع القرار على استمرارها وديمومتها، بل وحرص القوى الإقليمية والدولية على ذلك أيضًا، أو سعيهم للأسوأ بتحريض بعض القوى اللبنانية ضد بعضها، في محاولة يائسة للهيمنة في بلاد لا ولم ولن تعرف هيمنة طرف على البقية، مهما كان حجم الأموال المنفقة؟!

في 17 أكتوبر/تشرين الأول عام 2019 اندلع أقوى وأهم حراك شعبي لبناني تاريخيَّا، مطالبًا بإنهاء عقود من الطائفية السياسية، التي رسخت الطائفية المجتمعية، كما أججت اللامساواة، وصنعت مليارديرات العمولات السياسية وملايين الفقراء المعدمين، لكن كان ذلك هو الخطر الأكبر على منظومة الحكم الجهنمية، فبدلًا من الالتقاء عند نقاط الاتفاق الوطنية، وإعادة لبنان إلى أبنائه من اللبنانيين، دون أي تمييز أخر، ثم ترتيب الأولويات لبناء دولة للجميع، وكسر الحواجز بين الفقاعات الطائفية التي أججت الكراهية والانقسام المجتمعي، تم تفخيخ الأجواء وتقسيم المجتمع من جديد بين سلطة وثورة ووطني وعميل.

وكما هي العادة، سيقف هؤلاء الزعماء بعضهم متملقًا دول الخليج، وراجيًا عودة المساعدات والمعونات التي ستذهب لهم وحدهم مثلما ذهب ما قبلها، والبعض الآخر سيقف يلعن دول الخليج، ترضية لطهران ودمشق، وثالثهما الذين يلعنون الاثنين الذين فتحوا البلاد على مصراعيه للتدخل الأجنبي، بينما هم أنفسهم يخوصون غمار السياسة بتمويلات أجنبية.

وبين هؤلاء وأولئك يزداد الفقر ألماً والضيق شدة على الفقراء، الذين صارت أخبار انتحار بعضهم أمرًا شبه اعتياديًّا، في بلد لطالما تغنى بحبه للحياة. سيتحدث كل من له منبر عن لبنان الذي يمرض ولا يموت، لكنهم للأسف لا يتركونه ليحيا.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة