الجهل بالمعلومة يؤدي أحيانا إلى “القيصرية” و العنف التوليدي

أسماء عصام

كانت التجربة الأولى لي في الحمل، وكنت أختبر نفسي لأول مرة في جسد امرأة تحمل طفلًا، وأن تحمل المرأة بداخلها روحًا وجسدًا آخر ليس بشيء سهل على الإطلاق، فهذه المسئولية هي أسمى مشاعر الإنسانية.

كنت أحمل بداخلي الكثير من القلق والتساؤلات، وكانت أكبرها هل ستكون الولادة طبيعية أم قيصرية؟ وهل سأستطيع حمل طفلي بين يداي بعد الولادة مباشرة، أم سأكون مغيبة من أثر بنج القيصرية؟

830 امرأة يقضون نحبهم يوميًا من مضاعفات الحمل والولادة، في 2015 كان إجمالي وفيات السيدات 303 ألف حالة، أي حوالي 239 حالة وفاة لكل 100 ألف ولادة في البلدان الأقل حظًا، مقابل 12 حالة وفاة لكل 100 ألف ولادة في البلدان المتقدمة.

طبقا لأبحاث كمية أعدتها منظمة الصحة العالمية واليونيسيف وصندوق الأمم المتحدة للسكان والبنك الدولي، فإن معدل وفيات الأمهات المصريات قد انخفض من 64 إلى 37٪ لكل 100 ألف مولود حي، في الفترة من 2000 إلى 2017.

في كل زياراتي للطبيب كنت أسأل عن وضع الجنين، هل هو بخير؟ هل حجمه طبيعي؟ هل وزنه الحالي مناسب لعمره الآن؟ وكان السؤال الأهم: “هولد طبيعي يا دكتور ولا قيصري؟”

لم آخذ إجابة صريحة على سؤالي أبدًا، وكانت الإجابة متوقفة دائمًا على مسار الحمل طيلة التسعة أشهر، إلى أن وصلت إلى الشهر التاسع، وقال لي طبيبي: “وضعنا كله كويس ليه منولدش طبيعي قولي إن شاء الله”.

تجهيل السيدات وحرمانهن من حرية التصرف في أجسادهن هي الصورة الأكثر تخفيًا، لأنها تعطي الأطباء أو المجتمع الحق في التصرف في أجساد السيدات، يتضح ذلك في نسب الولادة القيصرية غير المنطقية، حيث كانت النسبة 51٪ من جميع الولادات، طبقًا لآخر مسح سكاني في 2014، بمعدل 45٪ للولادات في المنشآت الحكومية، و66٪ في المنشآت الخاصة.

كان يوم الولادة غير، استيقظت من نومي في اليوم الثالث من الشهر التاسع ووجدت بعض الماء المختلط بلون الدم، من الوهلة الأولى علمت أنها إحدى علامات الولادة، وبمنتهى التوتر والقلق حضرت حقيبتي، ووضعت بها فوطة وجلباب وشال وطقم جديد لخروج الطفل من غرفة العمليات، وأخذني زوجي للمستشفى، وبعدما كشف الطبيب علي قال: “لسه بدري ممكن الجنين يعيش في الرحم على المياه المحاط بها لمدة 24 ساعة، روحي وتعالي بليل”.

استمعت إلى كلام دكتوري بالفعل وذهبت إلى المنزل والقلق يزيد بداخلي، وبدأ “الطلق” يشتد أكثر، وبدأت أشعر بالضربات في ظهري أكثر، وذهبت إلى المستشفى ليلًا مرة أخرى، مع العلم أنها مستشفى خاص. كان الطبيب الذي أتابع معه حملي قد غادر المستشفى، وتابع معي طبيبه المساعد، الذي كان معه على التليفون، حتى قال لي الطبيب المساعد: “لأ أنتي كده هتروحي وتيجي بكرة الصبح الساعة 9”. كنت على وشك الانهيار أمامه، وفي بالي مائة رد ورد!

ما هي الأمومة الآمنة إذًا؟

باختصار، هي ضمان حصول جميع النساء على الرعاية التي يحتاجونها ليكن بأمان وصحة طوال فترة الحمل والولادة، فالمعلومات المحدودة والتجهيل المتعمد وديناميكيات القوة المختلفة في المجتمع والتفاعلات ضعيفة أو منعدمة التواصل من قبل مقدمي الخدمة الطبية من الأطباء – التي لا تكون غالبًا لصالح النساء- يعتبر تعديًا على حقهن في حرية التصرف الكامل في أجسادهن، فضلًا عن حرمانهن من الحصول على رعاية صحية مناسبة لاختياراتهم.

وفي لحظة، وأثناء مغادرتي للغرفة، قال لي الطبيب: “استني كدة أقيس لك الضغط”. وبعد قياسه، طلب مني تحليل لقياس نسبة الزلال في البول، وبعدما أجريت هذا التحليل ورجعت له فاجئني: “لا إحنا كده عندنا تسمم حمل، تتحجزي معانا في المستشفى مش هقدر أجازف وأروحك”.

وبعد المتابعة مع طبيبي على الموبايل، سمعته يقول له: “أنا مش عارف هي عايزة تولد إيه؟” فتدخلت في الحوار قائلة: “أنا هولد طبيعي، هولد طبيعي”، وكانت هذه هي بداية رحلتي الحقيقية في الإصرار على الولادة الطبيعية.

حجزنا غرفة وأخذت حقنة سلفات لتقليل نسبة الزلال في البول، ووضع لي الدكتور قرصًا مهبليًا لتوسيع الرحم، وأعطاني حقنة لتحمية الطلق. من التاسعة مساءً وحتى التاسعة صباح اليوم التالي وأنا أعاني من آلام المخاض، لن أنسى أبدًا مشهد أمي وكل من حولي في الغرفة – بما فيهم الممرضات- وهن يرددن: “خليها تولد قيصري وتخلص دي هتتعب كدة أوي”، أو: “على فكرة ممكن تاخد تعب الولادة الطبيعي كلها والدكتور يولدها في الآخر قيصري وتبقى خدت العلقتين”. كنت أعاني في هذه اللحظات من كلماتهم أكثر مما كنت أعاني من الطلق، وكنت أحتاج فقط ولو جملة تشجيعية واحدة مثل “هانت جدعة امسكي نفسك خلاص قربتي”.

كان كل ما أريده أن أقف على قدمي بعد الولادة وأن أستطيع مراعاة طفلي، بدلًا من المعاناة من جراحة الولادة القيصرية وخياطة البطن وعدم القدرة على الحركة، فهل كان كثيرًا ما أطلبه؟

لا يمكن إنكار الجهل المجتمعي بأضرار القيصرية، وفي دراسة نشرها المجلس القومي للسكان عن الولادات القيصرية، شارك فيها 484 سيدة من محافظات القاهرة والإسكندرية والبحيرة وأسيوط، وبسؤالهن عن الاستشارة التي قدمت لهن قبل الجراحة، أفادت حوالي 68٪ من المشاركات أنهن تلقين سببًا من طبيبهن لإجرائها، ومع ذلك عندما سئل الأطباء المعالجين نفس السؤال، أفاد 83٪ منهم أنهم قدموا مبررات للنساء لقرارهن. وعند سؤال السيدات عما إذا تحدث الأطباء معهن حول عيوب القيصرية، ذكرت 6٪ منهن فقط أنهن تلقين أي استشارة بشأن المساوئ والمخاطر الصحية للولادة القيصرية.

تكشف هذه النتائج عدة نقاط هامة:
1- التناقض بين تصورات مقدم الخدمة الطبية والحامل قبل الجراحة.
2- عدم وجود علم بعملية الموافقة التي يوجد فيها شرح شامل لمخاطر جراحة القيصرية.
3- مشاركة محدودة من النساء في عملية صنع القرار فيما يتعلق بولادتهم.

مر نهار، يوم وليلة، وجاء نهار آخر، الساعة الآن العاشرة صباحًا، الطلق يزيد والرحم لم يصل اتساعه سوى ل 4 سم فقط، حتى أصبحت الساعة الثانية ظهرًا، أخيرًا وليس آخرًا جاء طبيبي، بعد مرور 26 ساعه من آخر مره رأيته فيها، كشف علي الاستشاري، ووجد أن الرحم اتسع ل 9 سم، وحانت اللحظة.

الممرضات يحملونني إلى غرفة الولادة، قدماي ممددة ومتباعدة كل واحدة عن الأخرى، و إذ بالطبيب ينادي على ممرضتين، سمعت بعدها أحاديث جانبية كلها قهقهة و ضحك، وهو يصيح فيهما: “أنتوا مستنين عزومة ولا إيه؟”، وأنا لا أعلم ما هو المطلوب منهن الآن؟ وإذا بممرضة علي يميني وأخرى علي يساري يخبراني: “معلش إحنا هنساعدك شوية عشان العيل ينزل”. لم أفهم قصدهن عن “المساعدة”، وفجأة وفي لحظة واحدة وضعت كل منهن ذراعها على بطني من أسفل الصدر، وأخذن يضغطن بكامل قوتهن و عزمهن لإخراج الطفل. ومره أخرى، وكأن روحي تنسحب من جسدي رغمًا عنها، وكل ما كنت أقوله: “بالراحة والنبي أنا هضغط لوحدي بس والنبي بالراحة”.

العنف التوليدي

العنف التوليدي ظاهرة لا تقتصر على المجتمع المصري، ففي 2015 اجتمعت الجمعية العامة للأمم المتحدة مع منظمة الصحة العالمية، ووضعوا تقريرًا مفصلًا يتناول العنف التوليدي وتعريفه وصوره المختلفة، مثل تسمية غرف الولادة علي أنها “أكشاك ولادة”، تلك التسمية المهينة التي تشعر الحامل وكأنها في مكان لشراء الأطفال، من دون أدنى اعتبار للسيدات اللاتي يلدن.

إساءة معاملة المرأة والعنف ضدها في خدمات الصحة الإنجابية مع التركيز على العنف المرتبط بالولادة والتوليد هو التعريف الذي اتفقت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة في تقريرها عام 2014 عن الموضوع، في نفس التقرير صُنف العنف التوليدي كأحد أشكال العنف ضد المرأة.

وفي لحظة أسمع صراخ طفلتي وهي حية، ولكني لا أرى شيئًا، وكأنني مغيبة عن العالم من كثرة الألم، وبعد ساعة في غرفتي جاء الطبيب ليفحصني بعد الولادة، ووقتها علمت أنه قام بشق مهبلي وخياطته، لكبر حجم رأس الطفل، ولا أعلم في الحقيقة حتي الآن لماذا لم يعلمني أحد بذلك؟!

في عام 2015 أطلقت منظمة الصحة العالمية قائمة حقيقية تمكن السيدات من الحصول على تجربة ولادة آمنة، كما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام نفسه تقريرها عن العنف التوليدي، وصنفته بشكل قاطع على أنه أحد أنواع العنف ضد المرأة. وبعد مرور عام من ولادتي، اكتشفت أنني كنت مغيبة عن الكثير من حقوقي، وأن لي الحق كل الحق أن أعرف وضعي طوال فترة حملي، وأنه في حالة قرر الطبيب توليدي قيصريًا فلابد من وجود أسباب طبية حقيقة لذلك.

يوجد الكثير مما يمكن فعله، ليس فقط لتقليل وفيات السيدات الحوامل، بل وتجنيبهم المضاعفات الطبية، والحفاظ على حقوقهم الإنسانية في الصحة والكرامة، فيجب تثقيف السيدات طبيًا عن أساسيات الحمل والولادة، وما هو طبيعي وما هو غير ذلك، وإعلامهن بكيفية التقدم بشكوى في حال انتهاك حقوقهن، كما يمكن أن يستفيد مقدمو الخدمات الطبية من بعض الجهود التثقيفية عن الأخلاقيات الطبية و”الموافقة عن علم”.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة