الانسحاب الأمريكي ومعضلة تشكيل الحكومة العراقية.. تغيير في معادلة السلطة

كريم فرحات

معضلات أمنية وسياسية عديدة تواجه مؤسسات الدولة في بغداد، منذ إعلان قوات التحالف انسحابها من العراق نهاية العام الماضي، في وقت تحاول فيه الدولة التخلص من هيمنة التيارات الميليشياوية، خاصة في ظل وجود السلاح المتفلت بيد المجموعات الولائية، وكذا التهديدات التي تبعثها التنظيمات الإرهابية، من بينها “داعش”.

ورغم نجاحها في إفراز قوى سياسية مستقلة – حققت وجوداً هامشياً في الانتخابات البرلمانية الأخيرة- لازالت الاحتجاجات التشرينية التي اندلعت في البلاد قبل عامين تمثل خيطاً مشدوداً تجاه بناء دولة وطنية تنبذ التطييف السياسي بالمجتمع، والتبعية لقوى خارجية.

كانت الانتخابات العراقية المبكرة، التي جرت في أكتوبر ٢٠٢٠، قد شهدت درجات قصوى من الاستقطاب السياسي والإقليمي، وذلك بعد رفض “تحالف الفتح”- الممثل السياسي للحشد الشعبي المدعوم من إيران- نتائج الانتخابات، والتي كشفت عن هزيمة سياسية فادحة ومدوية لهم، وعمدت القوى السياسية المهزومة بالانتخابات إلى استعراض نفوذها العسكري والأمني، فقامت بتعبئة عناصرها بينما حاصرت المنطقة الخضراء في العاصمة بغداد، والتي يتواجد بها مقر الحكومة والسفارة الأمريكية ومجمع البعثات الأممية، حتى بلغت الأزمة ذروتها بمحاولة اغتيال رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بثلاثة طائرات مسيرة.

ومنذ احتجاجات تشرين، شعرت القوى المتسيدة للمشهدين السياسي والأمني باهتزاز الأرض تحت أقدامهم، خاصة مع نفاذ رصيدهم الذي حصلوا عليه بعد مواجهتهم ل”داعش” وإلحاق الهزيمة بهم في الموصل، فيما تآكلت حواضنهم الاجتماعية، نتيجة لتغلب المصالح – أو بالأحرى ضغوط التبعية الإقليمية- على متطلبات الواقع المحلي، والذي ينوء بأعباء هائلة لا يتم الاستجابة لها.

وعليه، يبرز الخروج الأمريكي من العراق بالتزامن مع التحضيرات لانعقاد الجلسة الأولى للبرلمان المشكل من قوى جديدة ومغايرة عن تلك التي ظلت تهيمن سياسياً، منذ عام 2003، بينما ستتتولى تسمية رئيس الحكومة، تحديات جمة أمام كافة الأطراف، لاختبار قوتها وفرض إرادتها، من ناحية، ومسؤوليتها في إدارة الوضع السياسي بتعقيداته ومستجداته المتفاوتة.

فاقم صعود مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري الشيعي في الانتخابات العراقية الأخيرة-والذي يعد الخصم السياسي المباشر للقوى التي خسرت مقاعدها بالبرلمان- من التوترات والانقسامات المحتدمة بين طرفي الصراع، وذلك بالدرجة التي قد تعيق من تشكيل الحكومة، حتى يتم التوافق على السياسات المحلية والإقليمية، حيث يقف التيار الصدري على النقيض من أهداف تلك القوى التي وضعت بغداد في تبعية مباشرة لطهران، وجعلتها ساحة للتنافس الإقليمي، كما جعلتها تلعب دوراً وظيفياً لصالح “الولي الفقيه”، ومن ثم أكد الصدر على ضرورة سحب السلاح غير الشرعي وتسليمه للدولة، ثم بناء حكومة “أغلبية وطنية”.

تصطف مع الموقف ذاته قوى سياسية وشعبية عديدة تتحرى بناء ممرات سياسية آمنة، لإيجاد شراكات حيوية واستراتيجية في المحيط الإقليمي للعراق، بغرض التخلص من قيود وأعباء العقود الماضية، والتي رهنت مؤسسات الدولة لصالح قوى خارجية ووكلاء محليين، ما ترتب عليه استنزاف موارد البلاد الاقتصادية، وتنامي السيولة الأمنية، حتى وصل الأمر في النهاية إلى تضخم- أو بالأحرى تأزم- في الأوضاع السياسية والمجتمعية.

اللافت أن الرئاسات الثلاث في العراق ستكون مدعومة من التيار الصدري، والذي حقق نسبة فوز تمكنه من ذلك، حتى مع معارضة التيارات الشيعية المهزومة بالانتخابات، بل وإصرارها على وجود “تزوير” و”أطراف أجنبية” ساهمت في تغيير النتائج، الأمر الذي لا يعد أكثر من مجرد مناورة تكتيكية بهدف الحصول على مكتسبات في السلطة التنفيذية القادمة، والحفاظ على مساحة وجود عوضاً عن نبذهم التام، خاصة وأن مصادقة المحكمة الاتحادية على نتائج الانتخابات ورفض الطعون المقدمة كان الحيلة الإجرائية الأخيرة لتعطيل المسار السياسي الجديد -والمهم- بالعراق، والذي كشف عن تقارب سُنِّي كردي مع التيار الصدري لبناء حكومة أغلبية وطنية بعيدة عن المسار القديم التقليدي.

وبينما حاول هادي العامري، القيادي في الحشد الشعبي وزعيم “تحالف الفتح”، قبول قرار المحكمة بتحفظ شديد، عاود الحديث بشكل ملح عن التزوير، وقال: “من باب حرصنا الشديد على الالتزام بالدستور والقانون، وخوفنا على استقرار العراق أمنياً وسياسياً، وإيماناً منا بالعملية السياسية ومسارها الديمقراطي، من خلال التبادل السلمي للسلطة عبر صناديق الانتخابات، نلتزم بقرار المحكمة الاتحادية”. وأضاف: “لا زلنا نعتقد بأن العملية الانتخابية شابها الكثير من التزوير والتلاعب، وأن الطعون التي قدمناها إلى المحكمة الاتحادية كانت محكمة ومنطقية ومقبولة، ولو قدمت لأي محكمة دستورية في أي بلد يحترم الديمقراطية لكان كافياً لإلغاء نتائج الانتخابات. نؤكد التزامنا بقرار المحكمة الاتحادية التي تعرضت لضغوط خارجية وداخلية كبيرة جداً”.

غير أن زعيم التيار الصدري ثمَّن قرار المحكمة، وشدد على ضرورة تشكيل حكومة أغلبية وطنية، وغرد عبر حسابه الرسمي على”تويتر”: “شكراً لكل من ساهم في هذا العرس الديمقراطي الوطني ولا سيما القضاء الأعلى”، مؤكدا على: “تشكيل حكومة أغلبية وطنية لا شرقية ولا غربية، يضيء نورها من أرض الوطن، وليفيء على الشعب بالخدمة والأمان، للحفاظ على السلم والسلام”.

لم يبرز خطاب الصدر السياسي التعقيدات والمشكلات التي قد تواجهه في حشد الدعم لمشروع حكومة الأغلبية، إلا أن المشهد الملغم والملتبس كشف عن ذلك، من خلال تحركاته التي اضطرته القبول بالاجتماع مع خصومه السياسيين، سواء قادة “التيار التنسيقي” – والذي يضم القوى المهزومة بالانتخابات، أو رئيس الوزراء السابق وزعيم ائتلاف “دولة القانون” نوري المالكي، في منزل زعيم “تحالف الفتح” هادي العامري، الأمر الذي يعد إقراراً ضمنياً بأن نتائج الانتخابات ليست وحدها الفيصل في تشكيل الحكومة الجديدة، بل إن ثمة توازنات أخرى سياسية وميدانية عسكرية ستفرض نفسها على المسار الإجرائي الخاص بتسمية رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة، وهو المعنى الذي حرص الولائيون على ترسيخه منذ سنوات، من خلال تحويل “هيئة الحشد الشعبي” إلى سلطة موازية تضمن لهم نفوذاً وسلطة دائمين، بغض النظر عن نتائج أي انتخابات مستقبلية، أو شكل الحكومات الناتجة عنها.

على هامش هذا الصراع، أعلنت حركتا “امتداد” و”الجيل الجديد”، وهما أبرز القوى “التشرينية”، إلى جانب عدد من الفائزين المستقلين، تشكيل تحالف “من أجل الشعب”، بغية قيادة جبهة المعارضة داخل البرلمان، وذلك بما يتوافق مع الشعارات الانتخابية التي رفعتها، وأهمها رفض التحالف مع كافة الأحزاب السياسية التي شاركت في الحكومات السابقة، وهو التعهد الذي يشكل رأسمالها الاجتماعي والسياسي، والذي لن تستطيع التراجع عنه كي لا تخسر حواضنها بين المجموعات المرتبطة بانتفاضة تشرين.

من المرجح أن تمضي الأمور باتجاه تشكيل حكومة توافق وطني برئيس توافقي جديد، كما جرت العادة خلال الدورات الانتخابية الأربع الأخيرة، تراعى فيها الأوزان البرلمانية المستجدة، كما تحفظ حصة الولائيين في السلطة، إلا أنها لن تمر من دون مناورات صعبة بين الميليشيات الشيعية.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة