حوار مع فلاسفة…ماقولته وما كنت أود قوله!

بين الفينة والأخرى أعرج على قسم الفلسفة في كلية الأداب، لتحين الفرصة المناسبة  للسلام على علامة من العلامات التي أثرت في حياتي، وهي أستاذة فلسفة السياسة الدكتورة (س) التي  أسعى في كل مرة ألتقي بها  إلى الظفرمنها بكلمات تكون في الغالب بمثابة ومضات تنير لي جوانب باتت مظلمة من هجر عقلي التفكير فيها. 

ففي الزيارة الأخيرة؛ بغض النظرعن مغبة – المتمثلة في خجلي الدائم- هذه الرغبة الجارفة الممتدة من روافد الحنين داخلي إلى القسم الذي قضيت بين أروقته عام قبل فراري منه، لم أقع أسير لها، فحطمت أصفاد الخجل داخلي، وصعدت إلى قسم الفكرصعوداً نبش في ذكرياتي فيه، ولكن توقي للسلام على الدكتورة (س) كان كافياً لدرء سيل الذكريات الذي هطل على رأسي في صورة تساؤلات قد حسمت إجاباتها مسبقاً، فأخذت أبحث عن وسيلة أتثبت بها من مدى تواجدها في المكتب من عدمه، فسرعان ما وجدت الوسيلة؛ وتأكدت من تواجدها، ولكن هيهات أن يتركني خجلي المنبثق عن فطرتي الذي عاود تكبيلي بأصفاده من جديد، فأخذت أجوب طرقات القسم بخطوات وئيدة؛ لعلي أفلح في التملص من قيوده الجاثمة على صدري مرة أخري، حتى ربضت قدميّ بي أمام غرفة المكتب من ناحية اليمين، فأنشغلت لهنيهات في الإطلاع على الجداول الدراسية للفرق المختلفة للتمحيص في أسماء المقرارات الدراسية، قبل أن تطل عليّ أبتسامة ناصعة من الدكتورة (س) التي بادرت بكلمات الترحيب التي أنطوت على سؤالي حول عدم دخولي المكتب مباشرة، وعدم حضوري مناقشة رسالة باحث دكتوراة كانت الدكتورة (س) عضوة في اللجنة المنوطة بمناقشة رسالة الباحث، فأجبت على السؤال الأول بصورة صريحة؛ بأن خجلي كبح دخولي إلى غرفة المكتب، وبإنتفاء معرفتي بهذة المناقشة على السؤال الثاني. 

لا أستطيع إنكار السعادة الغامرة التي تملكت قلبي عندما أثنت الدكتورة (س) على نضجي في هذه المرة على حد أعتقادها، فضلاًعن مجاملتها الرقيقة لي التي تخللت مزعمها بأني أطرق أبواب بالها من حين إلى حين، ولكن سرعان ما تدثرت هذه السعادة بالتوتروالخجل الزائد، عندما دعتني للدخول إلى المكتب فوجدت الدكتورة (ع) أستاذة الفلسفة التي هي الأخرى درست تحت ريادتها فلسفة يونانية، التي ردت على سؤال الدكتورة (س) الرامي إلى الأستفسار حول مدى معرفتها بي بأنها تتذكرني شكلاً، وهذا أمراً طبيعياً لاسيما في ظل قلة عدد الطلاب في القسم وإمتحانها لي شفوياً قبل ذلك، فجاءت المبادرة المبلورة في صورة إبتسامة من عندي، فسألتني عن الكلية أو القسم الذي أدرس فيه الآن، فهنا وجدت نفسي بصورة لا إرادية أنضوي تحت مظلة المثل الشعبي القائل (اللي على راسه بطحه بيحسس عليها) بعد أستهلالي حديثي المقتضب معها بالإيماء إلى نجاحي في العام الذي قضيته في هذا القسم دون وجود مناسبة أو سؤال منها عن نتيجتي في هذا العام، ولكن عزائي الوحيد لنفسي هو الأنتصار لكرامتي وتقويض أي هاجس يرتاد نفسها بأن السبب الجوهري لهروبي من القسم هو رسوبي على شاكلة العديد من الطلاب والطالبات في الوقت الراهن. 

فحديثي معهما كان بمثابة أستعادة لذكرياتي في القسم، ومعاناتي كفكاوية الشكل في التعامل مع قسم الفكر الذي بات في الوقت الحالي عبارة عن مقرارت دراسية لتحصيل الدرجات والأنتقال إلى العام بعد العام حتى يتم التخرج للحصول على شهادة جامعية يطلق عليها (مؤهل عالي) على غرارالكليات الدارسة للعلوم الأنسانية حالياً بغض النظر عن مدى الاستفادة ، فبدون مناسبة؛ لم أتوان عن الإفصاح عن سبب فراري من القسم وهو طرح مبدأ العلم لأجل العلم أرضاً، مما أسفرذلك عن تداعيات مزرية جعلت من الفلسفة التي يتفرع عنها مصطلح التفلسف الذي يعني التفكير الحر الواعي مادة علمية للنجاح والرسوب أكثر من جعلها أداة لتفتيح جنبات العقل وتعويده على التفتق، فلم تنكر الدكتورة (ع) هذا الواقع؛ وقالت لي أن التفكير غير محبذ لأننا إذا فكرنا سنفهم وإذا فهمنا سنغضب وإذا غضبنا سنثور، ثم أسترسلت في القول أن سبب فراري من القسم – على سبيل المثال- ودراستي للحقوق هو الرغبة للحصول على وظيفة، وهذا ما جعلني أستشيط غضباً ولكني كظمته كظماً لم يمنعني من الأسترسال بيني وبين نفسي في لعن الأموال والوظائف التي تجعلني عبد تحت سيادتها، فقولت لها أن كلية الحقوق هي الأخرى تحذو حذو كليات العلوم الإنسانية، فمهنة المحاماة التي تضم تحت مظلتها عدد من – المفروض- المدافعين عن الحقوق غدت أداة لإرهاب الناس لاسيما في المجتمعات الريفية التي تكون المعرفة القانونية فيها محدودة. 

كلمة لاسيما هنا كانت محل تعليق من قبل الدكتورة (ع) التي نظرت بإبتسامة للدكتورة (س) قائلة لها : (واخدة بالك من لاسيما ديه، هيكون خطيب مفوه)، لاأعلم هل كانت هذه العبارة من قبيل السخرية أم الإطراء ولكن لا يهم فكلاهما سيان عندي. فهنا قطعت الدكتورة (س) صمتها قائلة: (محمد بيكتب كمان)، فعضدت كلمات الدكتورة، وقولت إني أكتب في مواقع صحافية مصرية وغير عربية، فإضطرابي تحت وطأة النظرات المتبادلة بين الدكتورة (س) والدكتورة (ع) جعل الأمر يختلط عليّ، فصححت الدكتورة (س) ما قولته: (تقصد مواقع غير مصرية)، فقولت مستدركاً مافعلته: (بالظبط)، فنظرت لي الدكتورة (ع) مستفهمة بسؤالي عن كيفية وصولي إلى هذه المواقع الصحفية الذي تتضمن في طياته الإجابة بعد أنا أجابت على نفسها (هل عن طريق الإنترنت؟)، لم تدع الدكتورة (ع) لي الفرصة للحديث بلهجة من يعلم غوامض الأمور، فأكدت على تكهنها، ولكني أضفت (إني حصلت على دورة تدريبية في أحد المعاهد للدرسات الإعلامية)، فأردفت الحديث قائلة: عن ماذا تكتب؟، قولت لها إني أتشابك مع الأوضاع المحيطة ناسياً الإشارة إلى قسم الرأي، لم أنس ما قالته الدكتورة (ع) آنفاً من أن سبب فراري من قسم الفلسفة هو رغبتي في الحصول على وظيفة، فوجدت الفرصة هنا لدحض إدعائها، فقولت لها إني دخلت هذا القسم وحصلت على دورة تدريبية في الإعلام ولم أنبس لأحد ببنت شفة من مجتمع الأهل والأصدقاء عن مآربي، أو عن القسم الذي أدرس فيها لتحاشي الأسواط الكلامية – بما تحويه من عبارات مثبطة وساخرة- التي كانت ستلاحقني أينما ذهب ، وأستكملت حديثي: بإني من مجتمع ريفي عندما كنا نتحدث بصورة خارجة عن الصندوق في إطار المدرسة كانت الكلمات التي توجه لنا من المعلمين (بلاش تتفلسف، أو أتنيل).

عند كلمة (أتنيل) قطعت الدكتورة (س) الحوار، فيبدو أن ثرثرتي جعلت الدكتورة (س) مشفقة على الدكتورة (ع)، ففي حدود اللياقة والكياسة قالت الدكتورة (س): (تعالى نكمل الكلام وأحنا ماشين) 

أنتهى الحوار هنا، فلم تكن هناك فرصة لكي أتقدم بالأعتذرعن تلعثمي – على غير العادة- وكلماتي التي كانت غير مرتبة وغير دقيقة ، وعدم إعدادي للنقاط التي كان من المفترض أن أتحدث فيها، بيد أني كان في جعبتي الكثير فكنت أود أن أقول إلى أن منظومة التعليم في مصر تحتاج إلى إصلاحات راديكالية، ليست الإصلاحات على صعيد المقررات الدراسية أو المرافق، بل على صعيد التفكير الذائع، ومما لا شك فيه أن السيدتين تنتميين إلى هذه المنظومة، فالدكتورة (س) والدكتورة (ع) يقع على عاتقهن واجب مقارعة الأفكارالرجعية، التي تضرب بجذورها في الماضي السحيق بل وفي الحاضر، فهما ليستا أقل شأناً من المثقفات اللاتي عشن في حرب ضروس مع مجتمع المال والسلطة أمثال؛ الدكتورة ليلى سويف، والدكتورة رضوى عاشور، والدكتورة لطيفة الزيات؛ ففي الماضي السحيق؛ لأن المال والسلطة هما معايير النجاح في مجتمعنا منذ ردح من الزمن، والحاضر؛ لأن العلوم الإنسانية فقدت رونقها في غمار مجتمع المال والسلطة، وأنا لا أعلم حتى اليوم لماذا؟ هل لأننا أصبحنا نعيش في عالم فقد فيه الإنسان قيمته كبني أدم ينبغي أن يتمتع بأبسط الحقوق في حياة أدمية لاسيما ونحن في مصاف الدول المتخلفة؟ ! 

كما كنت أود أيضاً أن أقول أن الوضع في كلية القانون لا يختلف عن الوضع في قسم الفلسفة بل أنكى، ولا أجد ما يبلور ذلك، أكثر من إشادة إحدى الأكاديميات في الكلية بمحام بارز دافع عن جاسوس وعن رئيس مخلوع، بل جعلته قدوة ينبغي على كل طالب أن يقتفي أثاره، فحتى لو أفترضت أن مسوغ هذه الإشادة هي براعته المنهية، فلتذهب هذه البراعة إلى الجحيم إذا جاءت على أنقاض العدالة والقيم الإنسانية، فضلاً عن إشاحة الوجوه عن من جعلوا مهنة المحاماة رسالة للدفاع عن العدالة وحقوق الإنسان، فمن هنا جعلوا من كلية القانون كلية العظماء، لأنهم دافعوا ببسالة عن حقوق الإنسان ومبادئ العدالة، والتاريخ ذاخر بهذه الشخصيات أمثال؛ مقاوم الفصل العنصري –الأبارتيد- نيلسون مانديلا، و صاحب الروح الرفيعة المهاتما غاندي، و قديس اليسارالأستاذ أحمد نبيل الهلالي، ناهيك عن أبو الحقوقين الأستاذ أحمد سيف الإسلام حمد؛عليهم جميعاً رحمة الله.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة