ميدو زهير.. “الشاعر” بإنسانية شديدة

أهدي قصايدي جهاد وجهاد أقدمها
لكل مين عاش قصايدي قبل ما أنظمها
قصايدي فورة غضب ما قدرت أكتمها
غنّاها قلبي وجرح القلب قسّمها

بهذه الكلمات لفؤاد حداد، يمكن وصف الحالة التي تلازم كل مبدع يمتلك صدقًا فنيًا يوازي أدواته الإبداعية، بالقدر الذي يفتح له طرقًا مختصرة إلى قلوب من يبحثون عمن يمثلهم بكلمة أو بيت شعر، أو لوحة فنية أو حتى “تراك مزيكا”.

لم يكن يعلم فؤاد حداد أن شابًا في عقده الثاني، يُحسب على ما يسمى بالـ “جيل Z”، سوف يشعر أن في هذا الوصف تجسيدًا له. وميدو زهير أزهر بإبداعه واستمر حتى في غيابه، فكان مثالًا حيًا لكلمات حداد، وشاهدًا عليها من جيل لم يعاصره.

في رأيي، زهير هو المثال الصادق لهذه الكلمات بعد كاتبها. ربما كان من الأسهل أن أستخدم اقتباسًا له ليشهد على نفسه، ولكن ما إن بدأت الكتابة حتى فرضت أبيات حداد نفسها، وكأنها شهادة يهديها إلى أحد أبناء جيل لم يشهده.

بطبيعتي، أنا شخص يألف الأشياء ويعتادها، ونادرًا ما أحيد عنها، حتى فيما أستمع إليه في استراحاتي القصيرة أو أثناء عملي. وكانت هذه بوابتي للدخول إلى عالمه، حين ترددت نغمات كلماته بصوت دينا الوديدي، تعينني على مهام عملي المستمرة..

تدور وترجع وجع واعتكاف وتطبق عليك السنين العجاف
وأول ما حبك يقابلك يسيبك وأول ما حبك يسيبك تخاف

ألحت عليّ تلك الكلمات لأبحث عن كاتبها، وكان ميدو زهير، أو كما يُطلق عليه أحيانًا “شاعر الثورة”. ورغم أني لا أؤمن بالمصادفة، لكن كان أول ما ظهر لي في البحث هو أن تاريخ اليوم 20 أكتوبر، هو يوم ميلاده، شعرت بأنها إشارة، يرسلها لي “ميدو” من مكانه البعيد، ليؤكد أنه قريب. فبدأت الكتابة عنه، برؤية ذاتية جعلتني أرغب في الكتابة إليه.

في المرة الأولى التي استمعت فيها لهذه الكلمات قبل سبع سنوات أو أكثر، باقتراح من صديقة، فور سماعها، غمرتني شحنة كبيرة من الذكريات والمشاهد المتتالية، ورغبة في التساؤل والفهم، بينما كنت أحاول منع الدموع من السقوط. 

ولم أنقطع عن تكرارها حتى اليوم، والممتع، أن لكلماتها وقع يجعلني في كل مرة أسمعها، أرى بخيالي صورًا جديدة، تتغير بتجاربي المختلفة، ولا ثابت في تلك التجارب غير الصدق الذي كتب به زهير، فيشاركني غائبًا، ما عجزت عن مشاركته مع من حولي.

لا أعرف الكثير عن حياة ميدو الشخصية، أعرف ما كتبه أكثر من معرفتي به، لكني أؤمن بشدة أن كلماته كانت انعكاسًا لتجاربه وما شاهده ولاحظه. على عكس الخيال الشعري الذي يتبعه البعض لاستكمال تجارب منقوصة، أشعر بأنه عاش ما كتبه، وأتصوره متسقًا مع كل كلمة.

باستثناء ديوانه الوحيد “حقنة هوا”، لم ينشر ميدو دواوين فردية بعدها، لكنه شارك شعراء عامية آخرين في أعمال جماعية، وظهرت كلماته بكثرة مع فرق “الأندرجراوند” والموسيقيين المستقلين. وأحببت بشكل خاص ما غنته دينا الوديدي من كلماته، وما شاركته فيه فرقة “بلاك تيما”، مثل أغنية “مكعب سكر” التي يغنونها بنبرة من التيه والألم لكل ما فُقد.

يكتب الكلمات ببراعة، ينسج من المفردات خيالًا كثيفًا تشعر فيه بالزمن والمكان، بالخواء والتيه، بالرغبة في الوجود والأمل، بالخوف والحياة والموت في آن واحد.

ضايع مني إزازة المية، ومش راضية الطيارة تطير
راح الصبر ورجع الصبر وتعب القلب ولسه كتير
آه يا تيشيرت العمر ياأبيض لفيت بيك مشاوير مشاوير
أملك صورة أنا فيها صغير شكلى اتغير ما عرفتوش
كان فى جيوبى مكعب سكر داب السكر ما لقيتهوش
وأمّا اتقطعت منى الساعة وقع الوقت لاقيتنى كبير

لطالما راودني خيال.. أن الرغبة في البقاء هي هاجس غير معلن عند كل مبدع، رغبة دفينة في أن يترك أثرًا لا يُمحى حتى بعد فنائه، لعله يظن أنه هكذا باقٍ وهكذا يستمر. أتصور أن ميدو لو راوده هذا الشعور، فقد نجح وبشدة في تحقيق ما أراده.

تسأليني مت إمتى؟
ما انتي عارفه موتي أفضل
تسأليني مت ليه؟
كنت بجري عايز أوصل

لا أفضل أن أطلق على ميدو أي ألقاب، أو أن أركز على الأشعار السياسية التي كتبها. بالنسبة لي، اكتشف ميدو زهير إنسانيتي قبل أن أدركها بنفسي في سن صغيرة، وبدأت أشعر بها من خلال كلماته.

عندي طول الوقت رغبة في القعاد ع الأرض وحدي

هذا الشعور الذي كتبه، وكأنه كُتب لي خصيصًا. لقد استخرج ميدو زهير من حزنه ما يمثل لي تفسيرًا حقيقيًا لنفسي واكتشافها. 

 

أراد أن يسجل تاريخًا إنسانيًا يبقى، وكأنه طيف يخلّد ما يعبر عن جيل جديد، بينما يسجل على الهامش ما يتعلق بالوضع السياسي والاجتماعي.

وإن أردت أن أطلق عليه لقبًا بناءً على تجربتي الشخصية، فيكون “الشاعر.. بإنسانية شديدة”. تحية ممن لم يعرفه، لكنه بدأ في اكتشافه، إلى من عبّر وصدق فيما عبّر عنه.

عندي طول الوقت وحدة
عندي جوه الوحدة وقت
عندي طول الوقت غربة
عندي جوه الغربة حلم..

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة