الهندسة الانتخابية.. والقتل الممنهج للسياسة

في كل موسم انتخابي، تتجدد الرواية الرسمية عن “انفتاح سياسي” و”توسيع قاعدة المشاركة” لكن خلف الشعارات اللامعة تتكرر الممارسة ذاتها: هندسة محكمة لمشهد بلا حياة، يشارك فيه الجميع ظاهريا بينما تحدد النتيجة مسبقا في غرف مغلقة.

ما يجري الآن في الانتخابات البرلمانية 2025 ليس تنافسًا على تمثيل الناس، بل اختبار جديد لقدرة الدولة على إعادة إنتاج برلمان بلا معارضة، بلا صوت، وبلا مضمون، المؤشرات واضحة فاستبعاد أسماء معروفة بانحيازها للتيار المدني والمعارض لم يكن مجرد “إجراء فني” أو “خلاف قانوني”، بل خطوة محسوبة بدقة، رسالة تقول إن منطق الاختلاف غير مرحب به، وإن مقاعد البرلمان محجوزة لمن يُتقن لغة الصمت لا اصحاب المواقف.

مجلس النواب
مجلس النواب

المنظومة كلها

المشكلة ليست فقط في من يتم اقصائه، بل في المنظومة كلها: نظام انتخابي معيب، وتحالف انتخابي واحد يبتلع الجميع تحت ذريعة “توحيد الصف”، بينما الحقيقة أن هذا التحالف يضع كل البيض في سلة واحدة، فيقتل أي فرصة للتعددية والنتيجة برلمان يردد ما يقال له ويمثل من عينوه، ويغيب عنه صوت المعارضة المسؤولة التي توازن المشهد وتعبر عن هموم الشارع.

الهندسة المفرطة للمشهد السياسي تنتج شيئًا أكثر خطورة من تكميم الأفواه: تآكل الإيمان بفكرة السياسة نفسها، حين يشعر المواطن أن كل شيء مرسوم مسبقا، وأن اختياره بلا أثر يفقد الحماسة، ويستبدل المشاركة باللامبالاة، وهكذا يُعاد تدوير الأزمة في حلقة مغلقة من الجمود والتراجع.

اجتماع للقائمة الوطنية من أجل مصر، وفي الصورة متحدثًا النائب أحمد عبد الجواد أمين عام حزب مستقبل وطن - فيس بوك
اجتماع للقائمة الوطنية من أجل مصر، وفي الصورة متحدثًا النائب أحمد عبد الجواد أمين عام حزب مستقبل وطن – فيس بوك

الأحزاب تُدفع دفعًا نحو الهامش، تُمنح مساحة شكلية للوجود، لكنها محرومة من الفعل، فتتحول تدريجيًا إلى ديكور يجمل المشهد أمام الخارج في حين تفرغ من مضمونها أمام الداخل، فكيف يمكن لحياة سياسية أن تنمو في ظل بيئة تُقصي المختلف، وتكافئ المطيع، وتتعامل مع السياسة كملف أمني لا كحق وطني؟

الادعاء بوجود “إصلاح سياسي” في ظل هذه الممارسات هو نوع من الإنكار الرسمي للواقع، الإصلاح لا يقاس بعدد المؤتمرات ولا بحجم اللافتات، بل بمدى قبول الدولة لسماع الرأي الآخر، لا أحد يطلب معارضة فوضوية بل معارضة حقيقية تحاسب وتشارك وتصنع التوازن، أما أن يتحول البرلمان إلى صدى لصوت واحد، فهذه ليست سياسة بل إدارة أحادية في ثوب نيابي.

التأثير على المشهد العام

وما يثير القلق أكثر أن هذا النمط من الهندسة لا يتوقف عند الانتخابات فقط، بل يمتد إلى المشهد العام كله في النقابات، في الإعلام، في المجال العام، هناك تصميم على أن يبقى كل شيء منضبطًا تحت سقف محدد سلفًا، وأن تقطع كل محاولة للخروج عن النص حتى قبل أن تبدأ.

لكن التاريخ يعلمنا أن الحياة السياسية لا تموت بالصمت، بل تتراكم في الظل حتى تنفجر في لحظة غير متوقعة، تكميم السياسة لا يمنعها بل يجمّدها مؤقتا، وكل هندسة زائدة عن الحد تخلق هشاشة تحت السطح، لأن المجتمعات التي لا تسمح بالتنوع تفقد مرونتها وتتحول إلى كيان جامد يسقط مع أول هزة.

الحوار الوطني (وكالات)
الحوار الوطني (وكالات)

الإصلاح الحقيقي يبدأ حين تعترف الدولة أن السياسة ليست تهديدًا لأمنها، بل ضمانة لاستقرارها، حين تفسح المجال لتعددية حقيقية لا شكلية، وتتعامل مع المعارضة كضرورة لا كخصومة.

فمن يقتل السياسة اليوم باسم “الانضباط”، سيكتشف غدًا أنه قتل آخر وسيلة سلمية لتصحيح المسار.

الهندسة الانتخابية ليست تنظيمًا للمشهد.. بل قتل ممنهج للسياسة.

 

|الآراء الواردة لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لمنصة فكر تاني

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة