يجتمع قادة المنطقة والعالم، غدًا الإثنين بمدينة شرم الشيخ برئاسة مصرية أمريكية، في محاولة قد تكون الأخيرة لترجمة “خطة ترامب” – المكونة من 20 نقطة – إلى وقف دائم لإطلاق النار في غزة، وإنهاء حرب خلفت، أكثر من 65 ألف قتيل فلسطيني.
هذه القمة التي تضع على طاولتها آمالًا بإنهاء الأزمة الإنسانية، تواجه تحديًا جوهريًا يتجاوز مجرد التوقيع على اتفاق: هل يمكنها النجاة من فخ “نعم، ولكن”؟
على الورق، تبدو الخطة التي قدمها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ويتابعها شخصيًا، متكاملة من وجهة نظر أمريكية مدعومة عربيًا ودوليًا. فهي لا تقتصر، وفقًا للمعلومات المتوفرة، على وقف إطلاق النار وتبادل الرهائن الإسرائيليين بالأسرى الفلسطينيين، بل تتجاوزه إلى رسم ملامح “اليوم التالي” للحرب.
وتشمل الخطة انسحابًا إسرائيليًا من غزة، وتشكيل قوة استقرار دولية بمشاركة دول عربية ومسلمة، وإنشاء “مجلس سلام” برئاسة ترامب نفسه وإشراك البريطاني توني بلير، للإشراف على إعادة الإعمار، وتعيين لجنة من التكنوقراط الفلسطينيين لإدارة القطاع مؤقتًا “من دون مشاركة حماس”.
لكن خلف الأبواب المغلقة في شرم الشيخ، تكمن المعضلة الحقيقية في الفجوة الهائلة بين الموافقة المبدئية والتطبيق الفعلي. وهذا ما يركز عليه تحليل معمق نشره معهد كارنيجي للسلام الدولي، تناول كيف أن كلًا من إسرائيل وحماس يتعاملان مع الخطة بمنطق “نعم، ولكن…”، وهي استراتيجية تعني قبول الإطار العام مع وضع شروط تجعله شبه مستحيل التنفيذ. وهو التكتيك الذي لا ينبع من فراغ، بل من حسابات سياسية معقدة ومصالح وجودية متضاربة لكل طرف.

إسرائيل.. موافقة محكومة بـ “إرث نتنياهو”
في الجانب الإسرائيلي، تبدو الموافقة محكومة بشكل مباشر بشخص رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وهواجسه المتعلقة ببقائه السياسي وإرثه.
يرى ناتان ساكس، الزميل البارز في معهد الشرق الأوسط ضمن تحليله لـ”كارنيجي”، أن نتنياهو يعاني من “داء حاد أصاب عملية صنعه للقرار، وهو داء شخص قضى وقتًا طويلًا جدًا في السلطة وأصبح على يقين تام بأنه لا بديل له”.

فبعد الصدمة الهائلة لهجوم 7 أكتوبر، شعر نتنياهو أن إرثه السياسي القائم على “اتفاقيات أبراهام” ومنع قيام دولة فلسطينية ينهار تمامًا. لكنه الآن، ومن وجهة نظره، يعتقد أنه “استرد اعتباره إلى حد كبير” بفعل “التدهور الدراماتيكي لحزب الله، والضربات ضد إيران، والتدمير شبه الكامل لحماس”، وفقًا لساكس.
هذه الخلفية النفسية والسياسية تفسر سبب موافقة نتنياهو “المترددة للغاية” على خطة ترامب.
فبحسب تحليل “كارنيجي”، لم يأتِ القبول الإسرائيلي إلا بعد ضغط أمريكي غير مسبوق، وصل إلى حد “إجبار نتنياهو على الاعتذار لقطر في خطوة دراماتيكية للغاية أثناء وجوده في البيت الأبيض وترامب بجانبه على الهاتف”. هذه الموافقة أجبرته نظريًا على “قلب هدفه” المعلن من “تدمير حماس” إلى “إطلاق سراح الرهائن”.
لكن هنا يأتي دور الـ “لكن” الإسرائيلية الحاسمة: انعدام الثقة المطلق في إمكانية نزع سلاح حماس.
يؤكد ناتان ساكس أن “99% من الإسرائيليين لا يصدقون أن حماس ستتخلى حقًا عن كل أسلحتها”. وهذا الاعتقاد الراسخ يجعل “الانسحاب الإسرائيلي الكامل أمرًا مستبعدًا للغاية”، وهو ما يتعارض بشكل مباشر مع أحد أهم بنود الخطة.
وقد أكد مسؤول إسرائيلي لموقع “أكسيوس” الأمريكي أن نتنياهو يدرك أن الخطة تحتوي على “دواء مر سيتعين عليه ابتلاعه”، خاصةً فيما يتعلق بالدور المستقبلي للسلطة الفلسطينية في غزة.
حماس.. مفاوضات بقاء لا دولة
على الجانب الآخر، فإن موقف حماس لا يقل تعقيدًا. يشرح خليل الشقاقي، مدير المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في تحليل “كارنيجي”، أن حماس “منظمة جيدة التنظيم وتتمتع بانضباط هائل، لكن عملية صنع القرار فيها معقدة للغاية” بسبب التشتت الجغرافي لقياداتها.

فبعد اغتيال يحيى السنوار، لم يعد القرار بيد شخص واحد، بل بيد مجموعة يختارها “مجلس الشورى”، ويتوزع أعضاؤها بين لبنان وتركيا وقطر وربما أماكن أخرى، مع ضرورة التنسيق مع القادة الميدانيين في غزة، وعلى رأسهم “عازف الحداد”، قائد قوات غزة.
ويضيف الشقاقي تعقيدًا آخر، وهو أن “الجناح العسكري لحماس كان دائمًا أقرب إلى جهات فاعلة خارجية مثل إيران، بينما يميل الجانب السياسي إلى الفاعلين العرب مثل مصر وقطر”، مما يخلق “دوافع إقليمية متناقضة”.
لقد تغيرت حسابات الحركة بشكل جذري. فبينما كانت تريد في عام 2023 استخدام الرهائن للحصول على شرعية لـ”دويلة في غزة”، فإنها اليوم “قلقة على مجرد وجودها”، كما يقول الشقاقي. وبالتالي، لا تزال ورقة الرهائن “رصيدًا” أساسيًا لها.
وكما فعلت إسرائيل، وافقت حماس على الخطة وأشادت بترامب شخصيًا، لكنها أرفقت ردها بمطالب تعدل جوهر الخطة.
وبحسب “كارنيجي”، طالبت الحركة بأن تكون الهيئة المشرفة على غزة “هيئة فلسطينية، وليس هيئة دولية”، وأن تخضع لـ”إجماع فلسطيني”، وهو شرط يمنح حماس فعليًا حق النقض (الفيتو) ويتعارض بشكل مباشر مع البند الثالث عشر من الخطة الأمريكية.
اقرأ أيضًا: “غزة غير صالحة للسكن”.. لماذا هو مصطلح إسرائيلي بامتياز؟
القاهرة.. هاجس “الفراغ الأمني” وتجربة 1948
في قلب هذه المعادلة المعقدة، تقف مصر كلاعب حاسم لا يمكن تجاوزه، لكنها في الوقت نفسه الطرف الأكثر قلقًا من تداعيات أي انهيار محتمل للخطة.

فالقاهرة، التي استضافت جولات المفاوضات غير المباشرة الأخيرة بين إسرائيل وحماس بالشراكة مع مسؤولين قطريين وأتراك وأمريكيين، وفقًا لمعهد تشاتام هاوس، تتعامل مع الملف من منظور أمنها القومي الصارم.
ويتمثل القلق المصري الأكبر، كما يوضح ديفيد باتر الزميل المشارك في برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بـ”تشاتام هاوس“، في “خطر نشوء فراغ أمني في غزة” بعد انسحاب إسرائيلي محتمل.
وتخشى القاهرة من أن يؤدي هذا الفراغ إلى ضغوط عليها لملئه “على أساس مؤقت، وهو وضع يمكن أن يتحول بسهولة إلى تورط طويل ومكلف”.
هذا الهاجس يعود إلى أسباب تاريخية، فـ”وجود مصر في غزة بعد إنشاء إسرائيل عام 1948 كان تجربة غير سعيدة لجميع الأطراف المعنية”، بحسب باتر.
ولهذا السبب، اتخذت مصر موقفًا حازمًا برفض “تولي المسؤولية منفردة عن غزة”، وتصر على أن هذه المسؤولية “يجب أن يتولاها الفلسطينيون في نهاية المطاف، بدعم دولي”.
خطوط سيناء الحمراء وخطاب “العدو”
الأهم من ذلك، هو رفض مصر المطلق لأي محاولة لـ “التهجير الجماعي للفلسطينيين إلى منطقة سيناء”. وهذا الموقف ليس مجرد موقف سياسي، بل تحول إلى استراتيجية ردع عسكرية.
يشير “تشاتام هاوس” إلى أن “الوجود العسكري المصري المعزز مؤخرًا في سيناء… يبدو أن هدفه هو الردع ضد أي تحرك إسرائيلي لطرد الفلسطينيين”.

ويزداد الموقف المصري تعقيدًا بسبب تدهور علاقاتها مع الشركاء الرئيسيين. فالعلاقات مع إدارة ترامب “متوترة”، أما مع إسرائيل، فقد “وصلت إلى مستوى منخفض جديد”، خاصةً بعد خطاب السيسي شديد اللهجة في قمة الدوحة الطارئة في 15 سبتمبر.
في هذا الخطاب، الذي جاء ردًا على الهجوم الإسرائيلي في قطر، صعّد السيسي من لهجته بشكل غير مسبوق.
أحمد أبودوح، الزميل المشارك بـ”تشاتام هاوس”، أشار في تحليل آخر إلى أن الرئيس المصري “بدا وكأنه يصف إسرائيل بـ’العدو’، وهي المرة الأولى التي يستخدم فيها مثل هذه اللغة منذ توليه منصبه في 2014”.
لذلك، ستدخل مصر قمة شرم الشيخ بهدف واضح: “إلزام المجتمع الدولي بمسؤولية جماعية عن أمن غزة”، كما يقول ديفيد باتر. فالقاهرة، رغم استعدادها للمساهمة في جهود إعادة الإعمار، إلا أنها لن تقبل بأن تُترك وحيدة لمواجهة العواقب، خاصةً وأن تفاصيل الخطة الأمريكية، كما يشير باتر، لا تزال غامضة بشأن “ما سيحدث للوجود العسكري الإسرائيلي على الجانب الفلسطيني من معبر رفح وفي ممر فيلادلفيا”.
حين أصبحت إسرائيل “التهديد الأول”
لا يمكن فصل هذه المواقف المعقدة عن السياق الإقليمي الذي تغيرت معالمه بشكل جذري في الأسابيع القليلة الماضية.
فالخطة الأمريكية لا تحتاج فقط لموافقة إسرائيل وحماس، بل تعتمد بشكل حيوي على “شراء ودعم إقليمي” لتمويل إعادة الإعمار وتوفير قوات لقوة الاستقرار الدولية، وهو ما أصبح الآن محل شك كبير.
كان الهجوم الإسرائيلي على مفاوضي حماس في الدوحة يوم 9 سبتمبر بمثابة هزة عنيفة أعادت تشكيل تصورات التهديد لدى العديد من العواصم العربية.
يوضح أحمد أبودوح في تحليله لـ”تشاتام هاوس” أن هذا الهجوم قد يدفع الدول العربية إلى “الاستنتاج بأن إسرائيل هي الآن تهديدهم الأساسي”. وهذا التحول يضرب في صميم الرواية التي سادت منذ “اجتماع النقب” عام 2022، والتي صورت إسرائيل كحليف لبعض الدول العربية ضد التهديد الإيراني.
ويعزو أبودوح هذا التحول لسببين رئيسيين وردا في تحليله: الأول، أن الهجوم يوحي لصناع السياسة الإقليميين بأن حكومة نتنياهو تمنح الآن الأولوية لـ”ضم الأراضي لمنع قيام دولة فلسطينية” على حساب التطبيع مع السعودية ودول أخرى. والثاني، أنه يثير “تساؤلات جدية حول التزام الولايات المتحدة بأمن الخليج”، حيث فشلت واشنطن في منع هجوم إسرائيلي على حليف إقليمي مهم.
هذا التصدع في الثقة يجعل مهمة إدارة ترامب في حشد الدعم الإقليمي للخطة أكثر صعوبة. فالدول التي ستجتمع في شرم الشيخ، والتي تأمل واشنطن أن تساهم بقوات وأموال، باتت تنظر بحذر أكبر لإسرائيل، وهو ما قد يعرقل أي التزام جدي من جانبها، خاصةً في ظل غياب ضمانات واضحة وآليات تنفيذ فعالة.

قمة تنتظر “التنفيذ الجزئي” أو الانهيار الكامل
في نهاية المطاف، تجتمع الأطراف في شرم الشيخ وهي تحمل على عاتقها خطة وصفها خليل الشقاقي بأنها “تبدو جيدة على الورق في معظمها، لكنها غير كافية، ومن شبه المؤكد أنها ليست خارطة طريق لنتيجة مستدامة”.
فالتناقضات الهيكلية في الخطة نفسها، مثل اقتراح وجود أربع قوات عسكرية مختلفة في غزة، وانعدام وجود “شريك فلسطيني” متفق عليه، تجعلها “غير قابلة للتطبيق منذ البداية” من وجهة نظره.
وأمام هذا الواقع، يبدو أن أفضل نتيجة يمكن أن تأمل بها القمة ليست تطبيق الخطة بالكامل، بل التوصل إلى “تنفيذ جزئي” كما طرحه ناتان ساكس. قد يعني ذلك المضي قدمًا في إطلاق سراح الرهائن والأسرى والبدء في جهود إعادة الإعمار والسماح بإنشاء حكومة تكنوقراط، مع تأجيل القضايا الأكثر تعقيدًا مثل نزع السلاح الكامل والانسحاب الشامل والترتيبات الأمنية النهائية.
سيكون نجاح قمة شرم الشيخ، أو فشلها، مرهونًا بمدى قدرة الوسطاء على بناء جسور من الثقة فوق فجوة واسعة من المصالح المتضاربة. وبدون ذلك، ستظل الخطة مجرد حبر على ورق، وسيظل شبح انهيارها الكامل يلوح في الأفق، لتبقى غزة وسكانها في قلب دوامة من العنف والمعاناة التي لا تنتهي.
