الظواهر التي طبعت انتخابات مجلس الشيوخ 2025 — الاستحواذ الكامل، الانسداد القانوني، تغوّل المال السياسي، الدمج والإقصاء، وتحويل المعارضة إلى كيان يعيش على شريان الدولة — لم تنته مع إعلان النتائج، بل تمددت مباشرة إلى معركة مجلس النواب المقبلة.
فما نراه ليس مجرد تحركات انتخابية، بل إعادة إنتاج لنفس البنية، لكن على نطاق أوسع وأكثر شمولا. ولأن المشاركة عبر القوائم مغلقة عمليًا، اختارت بعض القوى التوجه إلى المقاعد الفردية فقط، في محاولة لانتزاع تمثيل محدود. لكنها تظل محاولة دفاعية أكثر من كونها استراتيجية تغيير.
اقرأ أيضًا: من الشيوخ إلى النواب: قراءة في هندسة السلطوية التنافسية في الانتخابات المصرية (1-2)
التحالفات المعارضة: من الوحدة المفقودة إلى الانقسام المؤسسي
كما كشفت انتخابات الشيوخ عن عجز المعارضة عن تشكيل قائمة موحدة في مواجهة «القائمة الوطنية»، يتكرر المشهد الآن بصيغة أشد وضوحًا. انقسمت المعارضة وأحزاب ” الحركة المدنية” افقي على أسس أيدلوجية ورأسي على أسس تنظيمية داخلية.

فقد أُعلنت أحزاب الدستور والمحافظين عن تحالف” الطريق الحر”، لكنه لم يكن خطوة للتوسّع، بل انسحابًا من تحالف أوسع لأحزاب الحركة المدنية. جاء بعده تحالف حق الناس الذي ضم قوى يسارية ويسعى للتركيز على المقاعد الفردية، لكن ميلاده نفسه كان رد فعل على انقسام داخل الحركة المدنية.
هذه التحالفات تُظهر أن المعارضة تتحرك تكتيكيًا داخل الحيز الضيق المسموح به، لكنها لا تملك مشروعًا موحدًا. الانقسام هنا ليس عارضًا، بل صار جزءًا بنيويًا من طبيعة المعارضة في ظل بيئة صُممت لتفتيتها.
الانقسامات الرأسية: الأحزاب بين الانقسامات الداخلية وضغط البقاء
أظهرت انتخابات الشيوخ أن القانون والمال كافيان لإقصاء المنافسة. الآن، برز بعد ثالث: الانقسامات الداخلية. داخل أحزاب من الحركة المدنية، الجدل حول إدارة الترشيحات والقيادة أدى إلى استبعاد مرشحين وتراجع الشرعية الداخلية. بمعنى أن التفريغ يبدأ من داخل الأحزاب نفسها قبل أن يكتمل بفعل الضغوط الخارجية.
في هذا السياق، انفجرت أزمات حول التدخل في اختيار المرشحين بآليات تُحيل القرار من هياكل الحزب إلى الضغوط الخارجية؛ حيث فُرضت أسماء بعينها بآليات ضغط سياسي/أمني، فتآكلت قدرة الهيئات الحزبية على الاختيار، وبدا الحزب وكأنما فقد استقلاليته في تحديد من يمثّله — بمعنى صار النظام لا يكتفي بإقصاء أحزاب، بل يختار أيضًا من “يُسمح” له أن يعارضه. وهي الإجراءات التي فجرت خلافات داخلية وأدت إلى استقالات بين الصفوف القيادية في بعض أحزاب المعارضة المحسوبة على ثلاثي الحيز المتاح.

كما أدى الصراع حول الأحقية في الدخول إلى القوائم والتنافس على المقاعد الموعودة إلى معركة داخلية داخل تلك الأحزاب على من “له الحق” في تمثيل الحزب، بعد أن صار الوصول إلى القائمة معيارًا للشرعية الحزبية بحد ذاته، فبدل أن تُحدد الأولويات برؤى وبرامج، صار التنافسية على الحصص يبتلع النقاش السياسي.
وعلى مستوى أحزاب الحيز الدستوري، أي تلك الأحزاب التي تعمل في إطار القبول القانوني لوجودها مع استبعادها من القائمة الموحدة، فقد ظهر نوع أخر من الصراعات التي صدرتها الهندسة السلطوية. حيث ظهر انقسام حول شرعية المشاركة والتحالفات: اندلع جدل عميق بين من يعتبر الخوض في الانتخابات ضرورة برجماتية للحفاظ على وجود سياسي ولو محدود، وبين من يرى المشاركة داخل ترتيبات مفروضة نوعًا من التسليم يفرغ الحزب من جوهره. هذا الجدل سرعان ما تحوّل إلى صراع تنظيمي على توجيه الاستراتيجية والهوية.
الموالاة: إدارة الحصص وصراعات المال
على الضفة الأخرى، تواصل القائمة الوطنية بقيادة مستقبل وطن إعادة هندسة المشهد عبر تحالف واسع يشمل معظم الأحزاب الموالية. الهدف ليس فقط السيطرة على القوائم، بل ضبط خريطة المرشحين على المقاعد الفردية أيضًا. لكن حتى داخل هذا المعسكر ظهرت شروخ: أحزاب موالية واجهت اتهامات علنية وشهادات بفرض مبالغ ضخمة على المرشحين، وصلت حد الحديث عن “بيع المقاعد”، ما أدى إلى استقالات وانقسامات. هذه الصراعات لا تُضعف السيطرة العامة، لكنها تكشف أن الولاء يُعاد إنتاجه عبر صفقات مالية وتوازنات شخصية، لا عبر تنافس سياسي.

الدروس المستخلصة: منطق مستمر لا استثناء عابر
ما جرى في الشيوخ كان نموذجًا مصغرًا: سلطة تُحكم القواعد القانونية والمالية، معارضة تتفتت بين المشاركة المشروطة والمقاطعة، وموالاة تُعيد توزيع النفوذ داخليًا. وما يجري الآن هو نسخة موسعة من المنطق نفسه:
- التعددية الشكلية تُعاد صياغتها عبر تحالفات تتنافس لكسب ولاء السلطة لا تمثيل الناخبين.
- المعارضة تتنازع على البقاء في الحيز المسموح به بدل من محاولة توسيع ذلك الحيز.
- الموالاة تدير صراعاتها الداخلية بالمال والحصص، لفرض استحواذ كامل دون هامش لتنافسية.
السلطوية التنافسية المؤسَّسة
ما يتكشف أمامنا يتسق مع ما تسميه أدبيات علم السياسة “السلطوية التنافسية” (Levitsky & Way, 2010): أنظمة تُجري انتخابات تعددية في الشكل، لكنها تضع قواعد قانونية وتنظيمية تجعل النتيجة محسومة لصالحها. كذلك ينسجم مع تحليل جاندي (2008) حول المؤسسات السلطوية التي تُدمج المعارضة فيها لإضفاء الشرعية لا للمنافسة، ومع تحليل شيدلر (2006) لمفهوم الواجهة التقدمية التي تستخدم سياسات تبدو إصلاحية (مثل الكوتات) لإخفاء جوهر سلطوي.

بهذا المعنى، انتخابات النواب 2025 ليست مجرد جولة جديدة، بل استمرار لمسار واحد: إعادة تعريف التعددية. المعارضة لم تعد قوة مستقلة تواجه السلطة، بل طرفًا مدمجًا أو مفككًا وفق ما تقتضيه قواعد اللعبة. والموالاة ليست كتلة صلبة بقدر ما هي شبكة مصالح تُدار لتجديد السيطرة. المعركة الحقيقية ليست على عدد المقاعد، بل على معنى التمثيل نفسه: من يحق له الوجود، وكيف يُعرّف الوجود السياسي داخل نظام يغلق كل الأبواب إلا تلك التي يفتحها بنفسه.
سيناريوهات محتملة
يمكن رصد عدد من السيناريوهات المحتملة لانتخابات مجلس النواب التي ستجرى مع حلول الشهور الأخيرة لسنة 2025 يمكن اجمال هذه السيناريوهات في التالي:
- إعادة إنتاج نموذج الشيوخ (السيناريو المرجَّح)
تستمر السيطرة الكاملة للسلطة عبر القائمة الوطنية، مع تفتيت المعارضة بين تحالفات صغيرة غير متماسكة. في هذا السيناريو، تصبح الانتخابات مجرد أداة لتجديد الشرعية الشكلية، بينما يُعاد توزيع الحصص داخل الموالاة بما يضمن استمرار شبكات الولاء.
- توسيع المشاركة الشكلية للمعارضة
قد تسمح السلطة بدخول بعض التحالفات المعارضة الهشة إلى المشهد، لكن على نطاق رمزي، لإظهار صورة من التعددية الشكلية. هذا السيناريو يمنح المعارضة مقاعد محدودة للغاية، من دون أن يغيّر في موازين القوة.

- تصاعد الخلافات داخل الموالاة
إذا تصاعدت الصراعات المالية والتنظيمية داخل أحزاب مثل حماة الوطن، قد تنشأ انقسامات جانبية تُربك توزيع المقاعد، من دون أن تمس السيطرة العامة للنظام. هذا السيناريو لا يمنح المعارضة فرصة، لكنه يوضح أن الهيمنة السلطوية نفسها تحتاج إلى إدارة دقيقة لتفادي التشقق.
- تراجع إضافي للمعارضة (السيناريو الأسوأ لها)
مع استمرار الانقسامات الداخلية والانسحابات المتكررة، قد تفشل المعارضة حتى في تقديم قوائم أو مرشحين فرديين فاعلين. النتيجة: برلمان يُعاد تشكيله بالكامل من الموالاة، مع حضور رمزي أو غائب تمامًا للمعارضة.
السيناريو الأكثر ترجيحًا هو أن انتخابات مجلس النواب المقبلة ستكون نسخة موسعة من انتخابات الشيوخ، مع سيطرة أكبر للسلطة وتفتيت أعمق للمعارضة. لكن الأهم أن هذا ليس مجرد “إدارة انتخابات”، بل إعادة صياغة للسياسة ككل: التعددية تتحول إلى تعدد في أسماء الأحزاب لا في توجهاتها، والمعارضة تتحول إلى كيانات هشة مسموح ببقائها برضا القائمة الوحيدة الفائزة دائما، والموالاة تتحول إلى شبكة مصالح متجددة. وهو ما يجعل الأزمة الحقيقية ليست في توزيع المقاعد، بل في معنى التمثيل السياسي نفسه داخل النظام المصري المعاصر.
خاتمة
تكشف تجربة انتخابات مجلس الشيوخ 2025 أن التعددية السياسية في مصر لم تُقيد فحسب، بل أُعيد تعريفها ضمن هندسة سلطوية دقيقة. فالمجال الانتخابي لم يعد ساحة للتنافس الحر، بل آلية لإعادة إنتاج السيطرة عبر أدوات قانونية (القوائم المغلقة)، وأمنية (تجفيف المجال العام)، واقتصادية (المال السياسي ورجال الأعمال الموالين)، وسياسية (آليات الدمج مثل القائمة الوطنية الموحدة وتنسيقية شباب الأحزاب).

غير أن ما يميز هذه التجربة أنها تتجاوز النموذج الكلاسيكي لما يسمى “السلطوية التنافسية”. فبدل ترك مساحات رمزية للمعارضة، جرى إغلاقها بالكامل، لتتحول الانتخابات إلى منافسة داخلية على نيل الاعتراف المؤسسي من النظام. رجال الأعمال الذين تصدروا المشهد لم يكونوا قوة مستقلة تنازع السلطة، بل أدوات تمويل وتنظيم ضمن شبكات الولاء. وكذلك أحزاب الموالاة لم تظهر واجهة متنوعة لأفكار متنافسة، بل كانت كتلة متجانسة تسعى لدعم النظام تحت لافتات وأسماء مختلفة. وبالمثل، لم تعد المعارضة فاعلًا قائمًا بذاته، وإنما جزءًا مدمجًا في مؤسسات صاغتها السلطة لتؤدي دورًا شكليًا.
اقرأ أيضًا: ورقة بحثية جديدة: انتخابات برلمان 2025 قد تُعيد إنتاج نموذج “الشيوخ”
بهذا المعنى، تمثل انتخابات مجلس الشيوخ 2025 نموذجًا لسلطوية استحواذية لا تكتفي بتقييد التعددية، بل تعيد تعريفها لتجعل التمثيل السياسي مرادفًا للقبول المؤسسي لا للتفويض الشعبي. وهو ما يجعل الأزمة في مصر اليوم ليست غياب المعارضة، بل إعادة صياغة دورها نفسه ضمن بنية تُدار بالكامل من قِبل النظام. هذه الديناميكية تجعل انتخابات مجلس النواب المقبلة استمرارًا لنفس المسار، حيث يُعاد إنتاج السياسة كواجهة شكلية بينما يظل جوهرها خاضعًا للاستحواذ السلطوي.
