لم تكن المقاهي في القاهرة مجرّد فضاءات لتزجية الوقت أو ملاذًا للهو العابر، بل غدت منذ القرن التاسع عشر أحد المكونات الجوهرية للحياة الثقافية والاجتماعية في مصر. هنا، حيث تختلط رائحة البن بأحاديث السياسة وأحلام الأدب، نشأت تقاليد جديدة للنقاش وصناعة الرأي. وإذا كانت أوروبا قد عرفت مقاهي باريس الشهيرة مثل “البروكوب” و”فلور” بوصفها بيوتًا للفلاسفة والكتّاب، فإن القاهرة بدورها صاغت هويتها الثقافية الحديثة عبر مقاهيها، التي أصبحت مختبرًا حيًّا للأفكار والنصوص.
في قلب هذه المدينة الصاخبة، كان المقهى يمنح المثقف حضورًا مزدوجًا: مكانًا للكتابة غير المباشرة عبر النقاشات، ومكانًا للتلقي حيث يختبر الكاتب أصداء المجتمع على نصوصه وأفكاره. ولهذا لم يكن غريبًا أن يصفه الأدباء باعتباره ذاكرة حيّة للمدينة، تمامًا كما كتب محمد تيمور في نصه الشهير “رمضان في قهوة متاتيا” (1918)، حين صوّر المقهى واقفًا “وقفة الرجل الديمقراطي” في قلب العتبة، يجمع تحت سقفه الغني والفقير، العالم والأفندي، المتكبر والوديع. كان المقهى، على حدّ وصفه، أكثر حيوية من حديقة الأزبكية نفسها؛ صغيرًا وضيقًا وربما غير نظيف، لكنه يحتضن من البشر ما لا تستوعبه حدائق المدينة الفسيحة، وكأن قيمته ليست في حجمه أو مظهره، بل في طاقته الجامعة التي تذيب الفوارق وتفتح الباب لحوار لا تحده طبقات ولا مقامات.
لقد لعب المقهى المصري دورًا تأسيسيًا في بناء المجال الثقافي العربي الحديث؛ فمن متاتيا، الذي صار ملتقى جمال الدين الأفغاني وتلاميذه، انطلقت بذور النقاشات التي مهدت لحركات التنوير والثورات السياسية. ومن الفيشاوي الذي استقبل نجيب محفوظ لعقود طويلة، إلى ريش الذي جمع جيل الستينيات في لحظة مفصلية بين الهزيمة والحلم، ظل المقهى بمثابة الخيط الخفي الذي يربط بين تحولات المجتمع وتحوّلات النص.
وهكذا، حين نتأمل تاريخ الأدب المصري الحديث، لا يمكن فصله عن أمكنته الأولى: تلك الطاولات الخشبية المتآكلة، والكراسي التي شهدت ولادة نصوص وأفكار ومشاريع ثورية. فالمقهى لم يكن مجرد خلفية أو ديكور، بل كان قلب المدينة النابض، وحارس ذاكرتها غير المكتوبة، ومرآتها التي تنعكس فيها تحولات الناس والمجتمع.
مقهى متاتيا.. فضاء الحرية والنقاش في قلب القاهرة
حين صاغ يورغن هابرماس نظريته عن “المجال العام” في ستينيات القرن الماضي، أشار إلى أن المقاهي والصالونات الأوروبية في القرن السابع عشر والثامن عشر شكّلت فضاءات وسيطة خارج مؤسسات الدولة، التقى فيها الناس كمواطنين أحرار يناقشون شؤونهم العامة.
وإذا كانت باريس ولندن قد عرفت هذا النمط مبكرًا، فإن القاهرة لم تكن بعيدة عن التجربة؛ إذ وجد المصريون فضاءً مشابهًا في مقهى متاتيا بميدان العتبة الخضراء، الذي تحوّل منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى مركز للحوار السياسي والفكري.

هذا المقهى لم يظهر صدفةً، بل ارتبط بمشروع تخطيط القاهرة الخديوية. فبعد أن بدأ الفرنسي هوسمان إعادة صياغة قلب العاصمة، استكمل مهندس إيطالي يُدعى متاتيا العمل، وأقام عمارة كبيرة بميدان الأزبكية ـ الذي كان يُعرف آنذاك بميدان أوزبك ـ وأسفلها اتخذ المقهى مكانه، مقابل الحديقة وترام العتبة ودار الأوبرا الجديدة. ومنذ تلك اللحظة صار المقهى جزءًا من المشهد العمراني الحديث للقاهرة، لكنه سرعان ما تجاوز الحجر والبناء ليغدو معملًا للأفكار، وبرلمانًا شعبيًا مفتوحًا.
هنا جلس جمال الدين الأفغاني، يوزّع كلماته كما يوزّع شررًا في ليل القاهرة، يحيط به تلاميذه ومريدوه. خطبه في متاتيا لم تكن أحاديث عابرة، بل نذر مبكرة لثورات ستأتي. في إحدى خطبه صاح: “إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد وربيتم بحجر الاستبداد… عيشوا كباقي الأمم أحرارًا أو موتوا شهداء مأجورين”. حوله جلس عبد الله النديم، ومحمود سامي البارودي، ومحمد عبده، وسعد زغلول، الذين خرجوا من عباءة المقهى إلى ساحات السياسة والتاريخ.
وقد التقط الأدباء مبكرًا هذه الروح. ففي نصه “رمضان في قهوة متاتيا” (1918) وصف محمد تيمور المقهى بأنه “وقفة الرجل الديمقراطي” التي جمعت بين الغني والفقير، المتكبر والوديع، في صورة مصغرة عن مصر كلها. أما جمال الغيطاني فقد رآه ملتقى لقادة الرأي والفكر، فيما اعتبره كامل رحومة “لافتة عريضة” لمدينة كانت تتلمّس طريقها إلى الحداثة.
لم يكن متاتيا مجرد مقهى، بل هو أول تجسيد مصري لفكرة المجال العام: فضاء مفتوح، حرّ، يجمع المتناقضات، ويحوّل الجدل اليومي إلى ذاكرة سياسية وفكرية شكلت ملامح مصر الحديثة.

الفيشاوي وريش.. مرايا القاهرة المتقابلة
إذا كان متاتيا قد دشّن الفضاء الثقافي والسياسي الحديث في مصر، فإن مقهى الفيشاوي في خان الخليلي مثّل الوجه الشعبي الطويل الأمد لهذا الفضاء. فقد افتُتح عام 1797، أي قبل عام واحد من دخول الحملة الفرنسية إلى القاهرة، ليصبح مع مرور الوقت أقدم مقهى لا يزال قائمًا في مصر. ومنذ بداياته ارتبط المكان بروح القاهرة القديمة، حيث تختلط التجارة بالزيارة الدينية، وحكايات الأزقة بأحاديث المثقفين والزائرين.
لم يكن الفيشاوي مجرد مقهى أثري، بل نافذة على الذاكرة الشعبية والثقافية للمدينة. هنا اعتاد نجيب محفوظ أن يجلس في ركنه الخاص لعقود، منصتًا إلى حكايات الناس، مراقبًا المارة، وكأنه يدوّن بصمت تاريخًا موازيًا سيظهر لاحقًا في رواياته. يمكن القول إن الفيشاوي كان شريكًا خفيًا في إنتاج الأدب، إذ وفّر للكاتب مرآة تعكس نبض المدينة بصدق، ووفّر للمدينة بدورها صورة متخيلة عن نفسها عبر نصوص محفوظ.
أما مقهى ريش، الذي تأسس مطلع القرن العشرين في قلب القاهرة الحديثة، فقد شكّل الوجه الآخر لهذه الثنائية. كان ريش مرآة للمدينة الأوروبية التي حلم بها الخديوي إسماعيل؛ مقهى أنيق احتضن الصحفيين والكتاب والمسرحيين، وارتبط بالحراك الوطني منذ ثورة 1919. لم يكن مكانًا للترف فقط، بل فضاءً للجدل السياسي والثقافي في زمن التحولات الكبرى. جلس فيه العقاد وطه حسين وحافظ إبراهيم، ومعهم أجيال لاحقة من الشعراء والفنانين، ليصبح بحق صورة مكثفة عن علاقة القاهرة بالحداثة.
وبين الفيشاوي الشعبي وريش “الأوروبي”، تجسدت ثنائية القاهرة: مدينة تنبض بروح أحيائها القديمة، لكنها في الوقت نفسه تسعى لتمثل صورة الحداثة. في هذين المقهَيين احتفظت المدينة بذاكرتها، ووجد المثقف فضاءً يلتقي فيه بالناس أو يتشارك فيه همومه مع أقرانه، قبل أن تنتقل الروح ذاتها إلى صالونات الستينيات والآتيليهات.

نجيب محفوظ بين المقهى والندوة
ظلّ نجيب محفوظ نموذجًا فريدًا لعلاقة المثقف بالمكان. فمنذ شبابه المبكر ارتبط بالمقاهي الشعبية؛ جلس في الفيشاوي، ودوّن ملاحظاته في مقاهٍ متفرقة بالقاهرة، قبل أن يبتكر فضاءً خاصًا به: ندوة الخميس التي بدأت في مقهى قشتمر، ثم تنقّلت لاحقًا بين مقاهٍ أخرى ومراكز ثقافية.
كانت تلك الندوة بمثابة “مقهى مصغّر” لكنه أكثر انتظامًا، إذ جمع محفوظ حوله كتّابًا شبابًا وصحفيين ونقادًا، فتح أمامهم المجال للحوار المباشر، وأتاح لهم فرصة أن يروا كيف يتعامل كاتب بحجمه مع الأسئلة الأدبية والفكرية.
قشتمر، الذي استلهمه محفوظ لاحقًا في روايته التي تحمل الاسم نفسه، لم يكن مجرد مكانٍ للجلوس، بل نقطة التقاء بين جيلين: جيل الكبار الذين ترسّخوا في الساحة الأدبية، وجيل الشباب الباحثين عن هوية. ومن هذه الندوة، التي حافظت على طابعها الأسبوعي لعقود، وُلدت حكايات وأفكار وصداقات، لتصبح جزءًا من الذاكرة الثقافية في مصر، تمامًا كما كانت المقاهي في زمن متاتيا وريش.
غير أنّ هذا البريق لم يستمر إلى ما لا نهاية. فالمقاهي التي كانت يومًا فضاءات للفكر والنقاش بدأت، منذ منتصف القرن العشرين، تفقد تدريجيًا حضورها المركزي.
يصف جيرار لومير هذا التحوّل في كتابه القهوة والأدب قائلًا: “لقد اختفت التقاليد الأكثر غرابة وسحرًا… وانسدل الستار على المسرح المتواضع، ودخل المدّاحون وقارئو الألغاز في غياهب النسيان”. كأن المقاهي التي منحت المدينة صوتها وذاكرتها تحوّلت فجأة إلى جزء من أسطورةٍ نوستالجية، لا يُستعاد إلا في الذاكرة.

وفي القاهرة لم يكن المشهد مختلفًا كثيرًا؛ فعدد من المقاهي التي عاشت لحظات مجدها في العقود الأولى من القرن العشرين أُغلقت أبوابها أو تحوّلت إلى فضاءات تجارية لا علاقة لها بالثقافة. أخرى ما زالت قائمة شكليًا، لكنها فقدت روحها الأولى حين استبدلت الجلسات الفكرية الصاخبة بموسيقى مرتفعة وشاشات تلفاز. حتى مقهى قشتمر نفسه، الذي خلد محفوظ اسمه في رواية حملت عنوانه، أغلق أبوابه في حياته، وكأن الواقع سبق الأدب في إعلان النهاية.
ولعل المشهد الأكثر إيلامًا مؤخرًا كان إغلاق مقهى ستراند في وسط البلد، الذي افتُتح عام 1937 واحتضن لعقود طويلة صحفيين ومثقفين وفنانين. لم يكن مجرد مقهى عابرًا، بل شاهدًا على حقبة كاملة من حياة وسط القاهرة. ومع رحيله بدا وكأن صفحة أخرى من كتاب المدينة قد طُويت إلى الأبد. إنّه الوجه المعاصر لفكرة “أفول المقهى”: حين يتوقف المكان عن أن يكون ذاكرة حيّة، ويصبح مجرد ذكرى في أرشيف الصور والكتابات.
لم يكن إغلاق قشتمر أو ستراند مجرد حدث معزول، بل جزء من ظاهرة أوسع هي أفول المقاهي الثقافية. فمنذ سبعينيات القرن الماضي أخذت هذه الأمكنة تفقد دورها المركزي تدريجيًا، لأسباب متشابكة.
أول هذه الأسباب هو التحولات العمرانية والاقتصادية: فوسط القاهرة الذي كان فضاءً طبيعيًا لتلاقي المثقفين تغيّر وجهه مع مشاريع التحديث وإعادة التخطيط، فتحوّلت كثير من المقاهي العريقة إلى محلات تجارية أو كافيهات استهلاكية سريعة لا تحتمل النقاش الطويل ولا الجدل الثقيل. لم يعد هناك مكان للطاولات الخشبية المتآكلة ولا للجلسات الممتدة، بل مقاعد أنيقة وسريعة الإيقاع، تعكس روح السوق أكثر مما تعكس روح الثقافة.
ثانيًا، جاءت التحولات الاجتماعية والسياسية لتزيد من هذا الأفول. فالمقاهي التي كانت يومًا مسرحًا للنقاش الحر لم تعد تحتفظ بالوظيفة نفسها في كل المراحل، إذ تغيّرت طبيعة حضورها تبعًا للظروف العامة وتقلبات المناخ السياسي. ومع مرور الزمن وجد كثير من المثقفين في اللقاءات الخاصة أو في النوادي المغلقة فضاءات بديلة تمنحهم قدرًا أكبر من الطمأنينة والحرية.
ثالثًا، لعبت الموجة الجديدة من “الكافيهات” الحديثة دورًا في إقصاء المقاهي التقليدية. فمع صعود ثقافة الاستهلاك، صارت المقاهي القديمة تبدو “عتيقة” أو غير مناسبة للذوق الجديد الذي يبحث عن مكان لامع، سريع الخدمة، متصل بالإنترنت، أكثر من بحثه عن مكان للنقاش والجدل. هذا التحوّل لم يكن مجرد تجديد شكلي، بل حمل معه تغيّرًا في مفهوم “اللقاء الثقافي” ذاته.
إنّ هذا التراجع لم يكن فقط فقدانًا لأماكن بعينها، بل كان تغييرًا في طبيعة المجال العام نفسه. فالمقهى الذي شكّل قلبًا نابضًا للثقافة لقرنين من الزمان لم يعد قادرًا على منافسة الفضاءات الجديدة، سواء الكافيهات العصرية ذات الطابع التجاري، أو المنصات الرقمية التي نقلت الحوار إلى عالم افتراضي. ومع ذلك، يظل غياب المقاهي الثقافية خسارة نوعية، لأنها كانت تمنح الحوار بُعدًا إنسانيًا مباشرًا لا يستطيع الفضاء الرقمي أن يعوّضه تمامًا.
زهرة البستان.. العمق الاستراتيجي لريش
قريبًا من ميدان التحرير، وعلى تقاطع شارع هدى شعراوي مع شارع البستان السعيدي، يختبئ مقهى زهرة البستان كجوهرة صغيرة بين عمارات وسط البلد القديمة.

أكثر من ثمانين عامًا مرّت على تأسيسه، منذ أن كتب صاحبه الأول، على جدرانه عبارة ستغدو قدره: “ملتقى الأدباء والفنانين”. ومنذ ذلك الحين صار البستان مساحةً شعبيةً بديلةً عن الأبهة التي مثلها مقهى ريش القريب، حتى وصفه الشاعر أمل دنقل بأنه “العمق الاستراتيجي لريش”.
لم يكن المقهى مجرد مكان لشرب الشاي وتدخين الشيشة، بل فضاءً دافئًا صاغ ذاكرة أجيال من المثقفين. من نجيب محفوظ الذي اعتاد الجلوس فيه، إلى أحمد فؤاد نجم، ومكاوي سعيد الذي سجّل حكاياته في كتاب مقتنيات وسط البلد. وعلى طاولاته مرّت أسماء مثل نجيب سرور، يحيى الطاهر عبد الله، جمال الغيطاني، ثم جيل السبعينيات الذي وجد فيه مقرًا جديدًا بعد أفول ريش.
في هذا المكان تخلّقت نصوص وقصائد، ونُسجت صداقات، وارتفعت نقاشات امتزج فيها الأدب بالسياسة. وفي يناير 2011 غدا البستان مقرًا لشباب الثورة؛ نقطة لقاء ينطلقون منها إلى ميدان التحرير القريب، ويعودون إليها ليستعيدوا أنفاسهم ويخططوا لجولات أخرى. هكذا تحوّل المقهى إلى رمز للمقاومة المدنية، تمامًا كما كان متاتيا وريش في زمنهما.
ورغم كل العواصف التي مرّت به، من محاولات إغلاق متكررة كان آخرها في 2019، ظل البستان صامدًا، محتفظًا بروحه الشعبية، وبجدرانه التي تحمل صورًا لمكاوي سعيد وأحمد فؤاد نجم وأم كلثوم ومحمد صلاح. لا تزال الطاولات تمتلئ بالكتّاب والشعراء والطلاب، ممن يجدون فيه بيتًا ثانيًا. إنّه فضاء يختصر علاقة القاهرة بمقاهيها: الازدحام في الخارج، والسكينة في الداخل، والكتابة التي تولد دائمًا بين دخان الشيشة وضجيج الحوارات.
أتيليه القاهرة.. الجمهورية الرمزية للمثقفين
وإذا كان البستان قد مثّل الوجه الشعبي للثقافة، فإن أتيليه القاهرة للفنانين والكتّاب قدّم الصيغة المؤسسية لذلك الحضور. أسسه الفنان التشكيلي محمد ناجي في مارس 1953 بعد ثورة يوليو، ليصبح منذ ذلك الحين مؤسسةً ثقافيةً مستقلةً، تجمع بين الفنون التشكيلية والآداب.

على بعد خطوات من ميدان طلعت حرب، في قلب دائرة تضم ريش والبستان ودار الشروق، انفتح الأتيليه كمنبر للحرية، حيث لا سلطة إلا للكلمة، ولا نفوذ إلا للفكرة.
في قاعاته المعروفة بـ”الصالون” احتضن معارض تشكيلية وندوات أدبية، ومرّت عليه أسماء كبرى: من طه حسين ويوسف إدريس ولويس عوض، إلى أمل دنقل ويحيى الطاهر عبد الله وغالي شكري وصلاح عبد الصبور. في الستينيات تحديدًا بلغ الأتيليه ذروة حضوره، فغدا فضاءً للحوار السياسي والثقافي، مأوى لحركات الرفض، ومنبرًا للدفاع عن الإبداع الحر في مواجهة المؤسسة الرسمية.
غير أنّ الأتيليه، شأنه شأن كل الفضاءات الثقافية، لم يسلم من الأزمات.
ففي السنوات الأخيرة كاد يغلق أبوابه بعد نزاع قضائي حول ملكيته ومطالبات من وزارة التضامن بحلّه، قبل أن تتدخل الدولة وتوقف القضية.
هذه الأزمة كشفت أن المكان لم يعد مجرد مؤسسة عريقة، بل صار رمزًا مهددًا، شاهدةً جدرانه على أكثر من سبعين عامًا من صراع المثقف المصري بين الحرية والقيود. ومع ذلك، يظل الأتيليه حيًا، يتجدد عبر مجالس إدارة منتخبة، ويواصل جمع الأجيال المختلفة، ليبقى شاهدًا على أن الفضاء الثقافي في مصر لا يموت بل يعيد اختراع نفسه باستمرار.
الفضاء الرقمي.. مقهى القرن الحادي والعشرين
ومع مطلع الألفية الجديدة، بدا أن المشهد الثقافي يتحول مرة أخرى. المقاهي العريقة ما زالت قائمة، والصالونات لم تغب تمامًا، لكن مركز الثقل انتقل تدريجيًا إلى فضاء آخر: المنصات الرقمية.
هنا لم يعد المثقف بحاجة إلى مقعد في مقهى أو صالون ليعبر عن رأيه؛ حساب على فيسبوك أو تويتر يكفي لأن يكتب ويؤثر، ويجد نفسه في مواجهة مباشرة مع جمهور لا حدود له.
في هذا الفضاء تلاشت الفوارق الطبقية والمكانية التي كانت تحكم المقاهي والصالونات، واتسعت دائرة الحوار لتشمل ملايين الأصوات، بعضها واصل صدى النقاشات القديمة، وبعضها الآخر جرفه تيار السرعة والسطحية. ومع ذلك، تبقى المنصات امتدادًا طبيعيًا لما بدأ في متاتيا والفيشاوي وريش؛ فالجوهر لم يتغير: البحث عن مكان للحوار، للجدل، ولإعادة التفكير في المصير المشترك.
وربما لهذا يمكن القول إن الفضاء الرقمي هو “مقهى القرن الحادي والعشرين”؛ فكما كان مقهى متاتيا زمن الأفغاني والنديم فضاءً للتنوير، وكما كان ريش وزهرة البستان مرآة لتحولات المجتمع، صار فيسبوك اليوم مرآةً لأجيال جديدة من المثقفين والقراء، يكتبون ويناقشون ويختلفون، في محاولة دائمة لصياغة معنى جديد للثقافة في زمن العولمة والاتصال الفوري.
ولعل الأهم في النهاية ليس أسماء المقاهي أو تواريخها، بل ذلك الخيط الخفي الذي يشدّ الثقافة دائمًا إلى فضائها، حيث تكتسب معناها وتكتب ذاكرتها.
من مقهى متاتيا الذي احتضن البدايات الأولى لنهضة الفكر، إلى الفيشاوي وريش حيث تداخل الشعبي مع الحداثي، ومن قشتمر محفوظ إلى زهرة البستان وآتيليه القاهرة… يتبدّى أن المكان لم يكن يومًا خلفية صامتة للثقافة المصرية، بل بطلًا رئيسيًا في دراما الأفكار. فالجدران التي احتضنت دخان الشيشة وضجيج الحوارات، والأرصفة التي عرفت وقع أقدام الشعراء والطلبة والثوار، كانت دومًا شريكًا في صياغة الوعي الجمعي.
