في الأنظمة السلطوية الحديثة، لا تُلغى الانتخابات، بل يُعاد تعريف وظيفتها ضمن هندسة سياسية تهدف إلى إعادة إنتاج السيطرة. تُقدَّم هذه الانتخابات بوصفها آليات ديمقراطية، لكنها تُدار عمليًا كأدوات لضبط المجال العام، واحتواء المعارضة، وتجديد شبكات الولاء للنظام الحاكم. تُستخدم الانتخابات كوسيلة لقياس مستويات الامتثال الشعبي، وتوزيع الامتيازات، وإعادة تشكيل التحالفات داخل النخبة الحاكمة.
في الأدبيات المقارنة، يُصطلح على هذا النموذج بـ “التسلطية التنافسية” (Competitive Authoritarianism)، وهو نمط من الحكم يجمع بين مظاهر تحافظ على شكل دوري للانتخابات مع ممارسات سلطوية جوهرية. في هذا السياق، تبقى المؤسسات الانتخابية قائمة من حيث الشكل، لكن قواعد اللعبة السياسية تُصمم بطريقة غير متكافئة، تجعل فرص المعارضة في الوصول إلى السلطة محدودة أو معدومة، سواء عبر التلاعب بالقوانين، أو السيطرة على الإعلام، أو استخدام أدوات القمع الانتقائي.
الحالة المصرية تجسد هذا النموذج بوضوح، مع خصوصية تجعلها تتجاوز مجرد اختلال التوازن. فالتنافس لم يعد يدور حول كسب ثقة الناخبين، بل حول كسب ثقة النظام وأجهزته التنظيمية والأمنية. انتخابات مجلس الشيوخ الأخيرة (2025) أظهرت ذلك بجلاء: قائمة موحدة فازت بجميع المقاعد المخصصة للقوائم، مشاركة شعبية محدودة تعكس فقدان الثقة في جدوى الاقتراع، وأحزاب معارضة دُمج بعضها في إطار “الحيز المتاح” عبر القائمة الوطنية الموحدة أو “تنسيقية شباب الأحزاب”، فيما تُرك بعضها الآخر داخل إطار “الحيز الدستوري” غير مدمج في قائمة البرلمان الموحدة وأخرى على الهامش بلا قدرة على التأثير لأسباب داخلية أو أمنية.
هذه التجربة ليست مجرد محطة فرعية، بل بروفة تمهيدية للانتخابات المقبلة لمجلس النواب، حيث ستُختبر الشرعية التمثيلية للنظام على نطاق أوسع. المؤشرات توحي بأن المجلس القادم لن يختلف في بنيته عن مجلس الشيوخ: تعددية شكلية، غياب بدائل سياسية حقيقية، وبرلمان يُستخدم كأداة لتجديد الشرعية أكثر منه ساحة للتنافس السياسي.
طرح كلا من الباحثين ليفيسكي وواي (2010) مفهوم التسلطية التنافسية لتفسير الأنظمة التي تمزج بين مؤسسات ديمقراطية شكلية وممارسات سلطوية عملية. في هذه النماذج، المؤسسات الانتخابية والإعلامية والبرلمانية لا تُلغى، بل تُستعمل لإضفاء شرعية على السلطة القائمة. التنافس يبقى قائمًا لكنه غير متكافئ: النظام يسيطر على القواعد، والموارد، والتحكيم النهائي.

أدوات السيطرة
في هذا الإطار يمكن رصد أدوات للسيطرة تتجلى في الانتخابات الدورية مثل:
- القانونية: مثل النظم الانتخابية المصممة لإقصاء المنافسين (القوائم المغلقة، تقسيم الدوائر).
- الأمنية: مثل القيود على حرية التنظيم، والملاحقات القضائية، وتجفيف المجال العام.
- الاقتصادية: السيطرة على الإعلام، التمويل، وتوجيه الموارد بحيث تتحول الانتخابات إلى منافسة مالية لا سياسية.
- السياسية: عبر دمج قوى معارضة مختارة في “حيز متاح” يضمن اختلافًا شكليًا دون تهديد فعلي للنظام.
في الأدبيات عن مصر بعد 2013، وُصفت البلاد كحالة سلطوية تتبنى انتخابات دورية بلا تداول للسلطة (Brownlee, Masoud, Reynolds 2015)؛ (Cook 2017). لكن خصوصية التجربة الأخيرة تكمن في إعادة تعريف معنى التنافس نفسه:
- لم يعد النجاح الانتخابي يقاس بثقة الناخبين، بل بثقة النظام.
- *في السياق المصري، لم يعد التنافس الانتخابي ساحة لبرامج سياسية بقدر ما أصبح مجالًا اقتصاديًا تُحسم فيه النتائج عبر وفرة الموارد. لقد جرى عمليًا استبدال طبقة السياسيين التقليديين بطبقة من رجال الأعمال الذين احتلوا موقع الفاعل السياسي بفضل قدرتهم على تمويل الحملات، وبناء شبكات زبائنية وعلاقات ولاء مع النظام السياسي.
- يختلف هذا النموذج عن الأنماط المألوفة في الديمقراطيات الليبرالية ذات النزعة الرأسمالية، حيث يقتصر دور رجال الأعمال غالبًا على تمويل الأحزاب أو التأثير غير المباشر في السياسات العامة. أما في الحالة المصرية، فقد باتوا هم أنفسهم المرشحين والفاعلين، ما يعني أن رأس المال لم يعد مجرد داعم للسياسة، بل تحول إلى السياسة ذاتها. هذا التحول يُقارب ما يمكن تسميته بـ “الأوليجاركية الانتخابية” أو نموذج business politics، حيث تتحول الانتخابات إلى منافسة بين شبكات مصالح اقتصادية، أكثر من كونها ساحة لتعددية سياسية أو تنافس بين رؤى وبرامج. وقد كشفت انتخابات مجلس الشيوخ الأخيرة (2025) عن تصاعد تأثير المال السياسي، من خلال ترشيح شخصيات ذات خلفيات اقتصادية بارزة، مدعومة من شبكات رسمية وشبه رسمية، دون أن تكون لها خبرة سياسية أو حزبية سابقة. هذا النمط يعكس انتقال مركز الثقل السياسي من الأحزاب والمؤسسات التمثيلية إلى دوائر النفوذ الاقتصادي، حيث يُعاد تشكيل المشهد البرلماني بناءً على اعتبارات التمويل والولاء المؤسسي، لا على أساس التمثيل الشعبي أو البرامج السياسية.

- جرى ابتكار أدوات دمج جديدة مثل القائمة الوطنية الموحدة وتنسيقية شباب الأحزاب لإنتاج “معارضة آمنة” داخل البرلمان. هذه السمات تجعل الحالة المصرية تتجاوز نموذج التسلطية التنافسية الكلاسيكي لتقدم صورة عن إعادة هندسة التنافس ذاته، بحيث يُدار كنظام لضبط النخب السياسية والاقتصادية أكثر من كونه آلية لمساءلة السلطة.
تنطلق هذه الورقة من فرضية أن أزمة المعارضة في مصر ليست انعكاسًا لضعفها الذاتي بقدر ما هي نتيجة مباشرة لهندسة سلطوية أعادت تعريف التعددية. ولتوضيح هذه الفرضية، ستعتمد الورقة منهجًا تحليليًا مقارنًا يزاوج بين الأدبيات النظرية حول “السلطوية التنافسية” وبين دراسة الحالة المصرية.
ستُعرض أولًا الإطار التحليلي الذي يحدد الأبعاد الخمسة لإعادة تشكيل التعددية (من ثقة الناخبين إلى ثقة النظام، من التنافس السياسي إلى التنافس الاقتصادي، الضبط القانوني، الضبط الأمني، الضبط السياسي). ثم تُحلل الورقة نتائج انتخابات مجلس الشيوخ 2025 باعتبارها دراسة حالة تكشف كيف جرى توظيف هذه الأدوات لإعادة إنتاج السيطرة. يلي ذلك مناقشة معمقة لآليات دمج المعارضة وتفتيتها، ودور المال السياسي في تحويل العملية الانتخابية إلى مجال مغلق. وأخيرًا، تختتم الورقة بقراءة استنتاجية توضّح خصوصية الحالة المصرية مقارنة بالنماذج الكلاسيكية للسلطوية التنافسية، مع إبراز دلالاتها على الانتخابات المقبلة لمجلس النواب.
الإطار التحليلي
تميل الحكمة التقليدية، بل والرواية الرسمية في مصر، إلى تفسير أزمة المعارضة من خلال ضعفها الذاتي: تفكك داخلي، أزمات تنظيمية، غياب الكوادر، وعجز عن حشد الجمهور. ورغم وجاهة هذا الطرح في رصد أعراض الأزمة، فإنه يظل أقرب إلى توصيف العرض لا أصل الداء. فهذه المظاهر لا تُفسِّر وحدها غياب التنافسية، بقدر ما تعكس نتائج لبنية أعمق صاغها النظام السياسي لتقييد المجال العام وإعادة إنتاج معارضة مُدمجة في إطار مُحكَم.
تنطلق الورقة من معارضة تلك الحكمة التقليدية بافتراض إن أزمة المعارضة في الانتخابات المصرية لا يمكن تفسيرها فقط بضعفها التنظيمي أو انقساماتها الداخلية، بل هي نتيجة مباشرة لهندسة سياسية متكاملة أعادت تعريف التعددية ضمن حيز ضيق يسمح للنظام بدمج معارضة “آمنة” واستبعاد أي قوى مستقلة. هذه الهندسة توظف أدوات قانونية (مثل نظام القوائم المغلقة)، وأمنية (تجفيف المجال العام)، واقتصادية (تحويل المنافسة إلى مجال لرجال الأعمال)، وسياسية (آليات الدمج مثل القائمة الوطنية الموحدة وتنسيقية شباب الأحزاب) بحيث تُنتج معارضة شكلية تُضفي شرعية على العملية الانتخابية من دون أن تملك القدرة على تمثيل الإرادة الشعبية أو تحدي السلطة فعليًا.
يمكن قراءة التجربة المصرية عبر خمسة أبعاد متداخلة:
- من ثقة الناخبين إلى ثقة النظام: معيار النجاح الانتخابي أصبح القبول من أجهزة الدولة لا أصوات المواطنين.
- الضبط القانوني: عبر نظام القوائم المغلقة الذي يقصي الأحزاب الصغيرة ويجعل النتائج محسومة مسبقًا.
- من التنافس السياسي إلى التنافس الاقتصادي: برز رجال الأعمال كفاعلين أساسيين، فيما تراجعت مكانة السياسيين أصحاب الرؤى المستقلة.
- الضبط الأمني: من خلال احتواء المعارضة عبر القيود والملاحقات والحد من النشاط الميداني من ناحية وخلق مسارات للصراعات الداخلية من ناحية اخرى
- الضبط السياسي: بدمج معارضة “آمنة” في البرلمان عبر آليتين رئيستين: القائمة الوطنية الموحدة وتنسيقية شباب الأحزاب.
تحاول هذه الورقة الإجابة على سؤال: كيف نجح النظام المصري في إعادة تعريف التعددية بحيث أصبحت المعارضة جزءًا من مشهد مُدار، محصورة في أطر رسمية مثل القوائم المغلقة والتنسيقية، وفاقدة لقدرتها على خوض منافسة حقيقية لكسب ثقة الناخبين؟

انتخابات مجلس الشيوخ: دراسة حالة لكيفية عمل السلطوية التنافسية
تستخدم الورقة انتخابات مجلس الشيوخ الأخيرة كدراسة حالة لكشف طبيعة السلطوية التنافسية في مصر. حيث أظهرت نتائج انتخابات مجلس الشيوخ 2025 بوضوح أن المجال الانتخابي لم يُترك مفتوحًا للتنافس الحر، بل جرى تصميمه بحيث يُعيد إنتاج موازين القوى نفسها داخل الحيز الذي يسمح به النظام.
يمكن رصد عدد من الظواهر التي ميّزت هذه الانتخابات، كاشفة عن طبيعة البنية السياسية للنظام المصري:
الظاهرة الأولى: الاستحواذ الكامل وإقصاء المعارضة المستقلة
على خلاف التجارب الانتخابية السابقة التي كانت تترك هامشًا محدودًا لتمثيل معارضة مستقلة، ظهرت الانتخابات بداية من 2015 بطابع استحواذي واضح تتراجع فيه فرص المنافسة وتسيطر أحزاب وقوائم مدعومة من النظام وتشكل بنيته السياسية للسيطرة على السلطة التشريعية. جاءت انتخابات مجلس الشيوخ 2025 لتكرّس نمطًا جديدًا من الاستحواذ الكامل للأحزاب الموالية للسلطة. هذه الأحزاب لم تدخل في منافسة سياسية على أساس برامج أو رؤى مختلفة، بل تنافست على إثبات الولاء للنظام واقتناص أكبر قدر ممكن من الحصة التمثيلية داخل البرلمان. في المقابل، تراجعت المعارضة المستقلة تراجعًا شبه كامل، حتى كادت تختفي. والمقصود بالمعارضة المستقلة هنا تلك القوى التي تخوض الانتخابات في الدوائر الفردية من دون تنسيق مع السلطة أو الدخول ضمن قوائمها الرسمية.

تُظهر النتائج هذا التحول بوضوح: فعلى مستوى المقاعد الفردية، استحوذ حزب مستقبل وطن على ستين مقعدًا من أصل مئة مخصصة للنظام الفردي، بينما حصل حزب حماة الوطن على خمسة وعشرين مقعدًا، ونال حزب الجبهة الوطنية عشرة مقاعد، واقتصر تمثيل حزب الشعب الجمهوري على خمسة مقاعد. أي أن أربعة أحزاب موالية سيطرت على جميع المقاعد الفردية بنسبة المئة في المئة، وهو ما عكس غيابًا مطلقًا للمعارضة المستقلة أو حتى لأحزاب «الحيّز المتاح» الثلاثة: العدل والإصلاح والتنمية والمصري الديمقراطي الاجتماعي.
تجلّى الاستحواذ بوضوح في عجز أيٍّ من أحزاب المعارضة عن تشكيل قائمة منافسة للقائمة المدعومة من الدولة، والمُشكَّلة برغبة مباشرة من الرئيس عبد الفتاح السيسي، في رابع استحقاق انتخابي على التوالي منذ انتخابات مجلس النواب 2015، مرورًا بانتخابات مجلس الشيوخ 2020، ثم مجلس النواب 2020. فازت “القائمة الوطنية من أجل مصر” في انتخابات مجلس الشيوخ الأخيرة بالتزكية، وحصدت المقاعد المئة المخصّصة للقوائم المغلقة بعد استيفاء شرط نيل 5% من الأصوات على الأقل، في غياب أي قائمة منافسة.
بهذا المعنى، تعكس الظاهرة الأولى مستوى غير مسبوق من الانسداد السياسي: فالمعارضة لم تعد تخسر المقاعد فقط، بل أصبحت عاجزة حتى عن دخول ساحة التنافس بتشكيل قوائم مستقلة، لتتحول الانتخابات إلى عملية محسومة مسبقًا لصالح السلطة وأحزابها. هذه الظاهرة تعبّر عن مستوى جديد من الانسداد السياسي: فالمعارضة لا تفشل فقط في الفوز بالمقاعد، بل تعجز حتى عن الدخول إلى ساحة التنافس بتشكيل قوائم مستقلة.
الظاهرة الثانية: القانون كأداة انسداد سياسي
لم يكن غياب القوائم المعارضة عن انتخابات مجلس الشيوخ 2025 مجرد نتيجة لضعف تنظيمي أو مالي لدى تلك الأحزاب، بل كان انعكاسًا مباشرًا لبنية قانونية صُمِّمت لتجعل تشكيل قائمة منافسة مهمة شبه مستحيلة. فقد أُعيد بناء النظام الانتخابي بطريقة معقدة ومكلفة، بحيث لم يعد القانون مجرد إطار تنظيمي محايد، بل أداة فاعلة في إنتاج الانسداد السياسي.

يشكّل نظام القوائم المغلقة في انتخابات مجلس الشيوخ معضلة تنظيمية وتشريعية معقدة. فالقانون يوزّع المقاعد المخصصة للقوائم على أربع دوائر انتخابية كبرى تغطي كامل البلاد: دائرتان بـ13 مقعدًا لكل منهما، ودائرتان بـ37 مقعدًا، بإجمالي 100 مقعد. ويُلزم المشرّع كل قائمة بأن تضم عددًا مساوياً للمقاعد المقررة، مع عدد مماثل من الاحتياطيين، إضافة إلى حصص (كوتة) إلزامية للنساء (إجمالي المرشحات السيدات 20 سيدة موزعات على الدوائر الأربع بواقع 7 للدائرتين الكبار و3 للدائرتين الأصغر). هذه الصياغة تجعل تشكيل القائمة ليس مجرد إجراء انتخابي، بل مشروعًا سياسيًا وبشريًا وماليًا ضخمًا يتعذّر على معظم الأحزاب محدودة الانتشار والموارد تحمّله.
ورغم أن النظام الانتخابي تضمن آليات تبدو تقدمية – مثل تخصيص مقاعد للمرأة – إلا أن هذه الآليات كانت في جوهرها جزءًا من عملية الضبط لا الانفتاح. فهي تُقدَّم في الخطاب الرسمي على أنها دليل على الالتزام بالمساواة والإصلاح، لكنها عمليًا تعمل كـ «واجهة تقدمية» (progressive façade) وفق ما وصفه Schedler (2006) وGandhi (2008): أي إجراءات ذات مظهر إصلاحي تُستخدم لإخفاء طبيعة سلطوية.
فالإدارة الفعلية لهذه الكوتة لم تُسهم في توسيع المشاركة السياسية أو تعزيز التعددية، بل أعادت إنتاج نفس شبكات الولاء والسيطرة، لتصبح جزءًا من عملية أوسع هي ما يسميه Levitsky & Way (2010) وDiamond (2002) بـ«ترسيخ السلطوية عبر مؤسسات شكلية» (authoritarian entrenchment). وهكذا تحوّل القانون من إطار تنظيمي يُفترض أنه يتيح التنافس، إلى أداة محسوبة بدقة لإغلاق المجال السياسي وإقصاء أي محاولة لبناء بديل.

وتعمّق قواعد انتخابات 2025 هذا الانسداد باعتمادها نظام القوائم المغلقة، المشروط بالحصول على 5% من الأصوات الصحيحة كحد أدنى للفوز. وهو نظام لا يتيح أي درجة من التمثيل النسبي، بل يؤدي إلى الإقصاء التام لكل قائمة لا تجتاز العتبة. النتيجة بدت محسومة سلفًا: قائمة واحدة فقط—”القائمة الوطنية من أجل مصر”— كقائمة وحيدة وموحدة احتكرت المقاعد المئة المخصصة للقوائم دون أي منافسة.
هكذا يتضح أن غياب القوائم المعارضة في انتخابات 2025 لم يكن مفاجئًا أو استثنائيًا، بل كان انعكاسًا مباشرًا لبنية قانونية وتنظيمية أُحكم تصميمها لتقليص التعددية. فاشتراط عشرات المرشحين الأساسيين والاحتياطيين، واستيفاء حصص جندرية إلزامية، وتجاوز عتبة انتخابية مرتفعة، في ظل محدودية الكوادر وضعف الانتشار الحزبي والضغوط الأمنية، يجعل تكوين قائمة معارضة مكتملة مهمة شبه مستحيلة. لكن الأهم أن نظام القائمة المغلقة ظل منذ 2015 مغلقًا على أي تنافس فعلي، ليتحول إلى أداة للاستحواذ الكامل في كل الاستحقاقات الانتخابية، بما يعكس نزعة استحواذية لا تنافسية تحت السيطرة، حيث تُدار اللعبة لإقصاء أي بديل.
الظاهرة الثالثة: المال السياسي وخصخصة المجال الانتخابي
من أبرز التحولات البنيوية التي كرّستها انتخابات مجلس الشيوخ المصري لعام 2025 هو الإزاحة المنهجية للسياسيين التقليديين، أو المرشحين الذين يتمتعون بتمثيل اجتماعي فعلي، لصالح نخبة من رجال الأعمال المرتبطين بشبكات ولاء مع السلطة وأحزابها الموالية. هذا التحول لا يُعَد مجرد تغير في الخلفية المهنية للمرشحين، بل يمثل إعادة هيكلة متعمدة للمجال السياسي، تُفرغ العملية الانتخابية من مضمونها التعددي، وتحوّلها إلى أداة للاستحواذ السياسي. فالمقعد النيابي لم يعد يُكتسب عبر التنافس على ثقة الناخبين، بل يُمنح عبر التماهي مع مصالح اقتصادية متحالفة مع الدولة، ما يعني أن التنافس جرى استبداله باستحواذ تحت السيطرة.

في هذا النموذج، لم يعد الترشح مشروطًا بالكفاءة السياسية أو الانخراط المجتمعي، بل مرهونًا بالقدرة على التمويل والانتماء إلى شبكات النفوذ الاقتصادي–السياسي. وقد أظهرت تقارير وشهادات ميدانية أن تكاليف الترشح والدعاية ارتفعت إلى مستويات مانعة: رسوم إلزامية مرتفعة، إنفاق دعائي قد يصل إلى ملايين الجنيهات في الدائرة الواحدة، إضافة إلى تكاليف الحشد والتنظيم. هذه البنية جعلت المعارضة عاجزة عن المنافسة، بينما عززت قدرة رجال الأعمال المتحالفين مع النظام على احتكار المشهد الانتخابي، لترسيخ الاستحواذ المالي–السياسي كبديل عن التعددية.
ولم يتوقف المال السياسي عند الترشح فقط، بل امتد إلى يوم الاقتراع ذاته، حيث ترددت شكاوى متكررة من ممارسات شراء الأصوات. فالقيمة السوقية للصوت الانتخابي قُدِّرت في بعض الدوائر بما بين 200 و300 جنيه، إلى جانب توزيع سلع غذائية أو تقديم خدمات نقل جماعية للناخبين، في صورة “مساعدات انتخابية” مشروطة بالتصويت. هذه الآليات حولت الاقتراع نفسه إلى أداة ضمن منطق الاستحواذ، لا اختبارًا للتفضيلات السياسية.
كما أشارت شهادات أخرى إلى أن بعض الأحزاب تحولت إلى منصات وسيطة تمنح فرص الترشح مقابل مبالغ مالية ضخمة، في ما يشبه “بيع المقاعد”، وهو ما عمّق خصخصة المجال السياسي لصالح شبكات الولاء الاقتصادي. النتيجة أن المال السياسي لم يعد مجرد عامل مساعد في العملية الانتخابية، بل صار الآلية التي تعيد إنتاج الاستحواذ السياسي الكامل، حيث يُفرغ الشكل الديمقراطي من مضمونه، وتُحكم السيطرة عبر أدوات تبدو تنافسية لكنها مصممة لإقصاء أي بديل.

ما شهدته انتخابات مجلس الشيوخ يعكس منطقًا سلطويًا متجذرًا؛ فبدلًا من أن تكون العملية الانتخابية ساحة لتفويض شعبي، أصبحت آلية للتفاوض المالي. وبذلك يُعاد إنتاج السلطة عبر أدوات تبدو ديمقراطية في الشكل لكنها مفرغة من مضمونها، وهو ما يتقاطع مع ما طرحته جينيفر جاندي (2008) حول المؤسسات السلطوية المفرغة، ومع تحليل ليفيتسكي وواي (2010) للأنظمة السلطوية التنافسية التي تُعيد إنتاج نفسها عبر التحكم في المجال المؤسسي والسياسي.
الظاهرة الرابعة: سياسة الدمج والإقصاء وتفتيت المعارضة
محاولات بعض الأحزاب المعارضة لتشكيل قوائم مستقلة خلال انتخابات مجلس الشيوخ 2025 لم تصطدم فقط بالعوائق القانونية والمالية، بل أُجهضت بفعل الضغوط السياسية والأمنية التي فاقمت الانقسام الداخلي. فبدلًا من أن تتوحد المعارضة في جبهة واحدة، انقسمت إلى تحالفات أصغر. هذا الانقسام لم يكن مجرد تباين تنظيمي، بل نتيجة مباشرة لاستراتيجية الدولة عبر الدمج والإقصاء: دمج بعض أحزاب “الحيز المتاح” في القائمة الوطنية الموحدة، وإقصاء أخرى رفضت الانخراط، بما ولّد خلافات حول حدود القرب من السلطة ومعنى الاستقلال المعارض.
في قلب هذه الخلافات ظهرت أفكار ما عُرف بـ”التحالفات الآمنة”. بهدف تحالف مزيد من أحزاب المعارضة مع الأحزاب القريبة من السلطة، بحجة أن البقاء خارج اللعبة يعني العزلة الكاملة. لكن هذا الطرح فجّر جدلًا واسعًا داخل الأحزاب المعارضة المشكلة “للحركة المدنية”: فريق رأى أن التعاون مع هذه الأحزاب يفرغ المعارضة من مضمونها، فيما اعتبر فريق آخر أن التمسك بالمقاطعة يعادل الانتحار السياسي. أمام هذه المعضلة، اختارت بعض الأحزاب تجميد نشاطها أو الانسحاب من الحركة المدنية، وهو ما عمّق الانقسام وأفشل أي محاولة لتشكيل قائمة موحدة.
بهذا المعنى، لم يكن فشل المعارضة في تقديم بديل انتخابي تعبيرًا عن ضعف ذاتي فحسب، بل عن بيئة مُصممة لتفتيت وحدتها: الدولة تستدعي بعض الأطراف إلى “الحيز المتاح”، وتحدد من تلك الأحزاب له حق المشاركة في القائمة وتقصي آخرين، بينما الضغوط الأمنية تجعل الدخول في مواجهة مفتوحة باهظ التكلفة. النتيجة هي معارضة مفرَّقة، غير قادرة على التماسك، وأُفرغت من أي قدرة على منافسة “القائمة الوطنية” التي احتكرت المشهد، لتكرّس بذلك الاستحواذ الكامل بدل أي تنافس فعلي.
كما أنتج المسار السلطوي انقسامًا داخليًا عميقًا داخل الحزب الواحد بما زاد من فرص الصراعات الداخلية والخلافات التنظيمية، فلم يعد يقتصر على تباينات أيديولوجية بين أحزاب على أطراف الطيف السياسي، بل أصبح انقسامًا هيكليًا في صميم القرار الحزبي وداخل أروقة كل كيان حزبي على حدا. فقد ظهر داخل كل حزب من أحزاب المعارضة مسار أول يتبنى موقفًا مبدئيًا رافضًا للتعاون مع القائمة التي ترعاها الدولة، باعتبار أن الانخراط في هذه الترتيبات يفرغ الحزب من استقلاليته ويحوله إلى ملحق بيروقراطي للسلطة. في المقابل برز مسار آخر أكثر برجماتية يرى أن المشاركة، حتى ضمن الشروط المفروضة، هي السبيل الوحيد لتأمين موطئ قدم سياسي داخل البرلمان وعدم الانتحار التنظيمي بالغياب الكامل.
هذا الانقسام لم يقف عند حدود الموقف السياسي، بل تمدّد إلى وجه آخر أكثر تعقيدًا: التنافس الداخلي على الحصص الضيقة المخصصة لما يُعرف بأحزاب “الحيز المتاح”. فمع ندرة المقاعد التي تُمنح لهذه الأحزاب، تحولت القوائم التي تحددها الدولة إلى ساحة صراع حاد بين قيادات وأجنحة حزبية، كل منها يسعى لتأمين موقعه في اللعبة ولو على حساب وحدة الحزب. وهكذا لم تعد الأزمة مجرد صراع بين معارضة وسلطة، بل أزمة مضاعفة تتفجر في قلب الأحزاب نفسها، حيث يذوب الخط الفاصل بين المبدأ السياسي والمصلحة في البقاء، وتتحول الهوية الحزبية إلى سلعة تفاوضية.
هذا المشهد يتطابق مع ما تصفه الأدبيات حول الاحتواء السلطوي (co-optation)، وهو المفهوم الذي برز في دراسات الأنظمة السلطوية منذ سبعينيات القرن الماضي مع أعمال Juan Linz حول السلطوية (1975)، حين تحدث عن قدرة الأنظمة غير الديمقراطية على دمج معارضتها داخل هياكل شكلية لإضعافها بدلًا من استبعادها الكامل. لاحقًا طوّرت Jennifer Gandhi (2008) هذه الفكرة، مؤكدة أن البرلمانات السلطوية ليست فضاءات للتشريع بقدر ما هي أدوات لاحتواء النخب وتوزيع المنافع عليها، بحيث يتحول الانخراط في المؤسسة إلى آلية لضبط المعارضة لا لتعزيز المشاركة.
كما اوضح Levitsky & Way (2010) في دراستهم عن “الأنظمة السلطوية التنافسية” (Competitive Authoritarianism) أن مشاركة المعارضة في الانتخابات تحت شروط يفرضها النظام لا تؤدي إلى تعددية ولا يعزز التنافسية. فالمعارضة تُمنح فتاتًا من المقاعد أو فرصًا رمزية للتمثيل، بينما يجري في العمق نزع استقلاليتها وتحويلها إلى جزء من بنية السيطرة.
وفي السياق العربي، كتب Holger Albrecht (2013) عن كيف أن الأنظمة السلطوية في المنطقة تستعمل الانتخابات كآلية لفرز ودمج معارضتها: تُكافئ المطيعين بالمقاعد، وتُقصي الرافضين عبر الضغوط الأمنية أو القيود القانونية. وهو ما نراه في الحالة المصرية بوضوح: المعارضة تُدمَج جزئيًا عبر “الحيز المتاح”، لكن هذا الدمج مشروط بقبولها القواعد السلطوية، ما يُنتج معارضة مُدجَّنة ومقسّمة داخليًا.
بذلك لا تكون الأزمة مجرد انعكاس لضعف الأحزاب أو عجزها الذاتي، بل نتيجة مباشرة لاستراتيجية سلطوية راسخة في الأدبيات: استخدام المؤسسات الشكلية لإعادة إنتاج الاستحواذ، حيث يتحول البرلمان من ساحة للتنافس إلى أداة لإضعاف المعارضة وترسيخ السيطرة.
إذن نحن أمام ظاهرة جديدة تتجاوز فشل المعارضة في الفوز بالانتخابات إلى فشلها في مجرد تشكيل قوائم منافسة. لقد أُعيد تعريف التعددية لتصبح مرادفًا للقائمة الرسمية التي تُدار من قِبل الدولة، بينما تُترك المعارضة خارج اللعبة، أو تُدمج في حدود ضيقة تحت إشراف السلطة.
الظاهرة الخامسة: معارضة الحيز المتاح: شريان الحياة عبر الدولة
تكشف نتائج القوائم المغلقة عن حقيقة جوهرية: أحزاب الحيز المتاح –المصري الديمقراطي والعدل والإصلاح والتنمية – لم تتمكن من الفوز بأي مقعد اعتمادًا على قوتها الذاتية أو ثقلها الجماهيري، وإنما عبر شريان المساعدة الحكومي المتمثل في القائمة الوطنية الموحدة.
فقد فازت هذه القائمة بجميع المقاعد المئة، ثم جرى توزيعها داخليًا على نحو يُشبه تقسيم حصص مُسبق أكثر من كونه نتيجة تنافس انتخابي فعلي: حزب مستقبل وطن (44 مقعدًا)، حماة الوطن (19)، الجبهة الوطنية (12)، الشعب الجمهوري والمصري الديمقراطي (5 مقاعد لكل منهما)، وحصل حزب العدل وحزب الإصلاح والتنمية على 4 مقاعد لكل منهما، وحصل حزب الوفد وحزب التجمع على مقعدين لكل منهما. وحصلت أحزاب المؤتمر، وإرادة جيل، وحزب الحرية: على مقعد واحد لكل منها.
اللافت أن الأحزاب المعارضة الثلاثة (المصري الديمقراطي، العدل، الإصلاح والتنمية) التي ارتضت الدخول في القائمة الوحيدة المتاحة، لم تنجح إلا من خلال هذا الإطار المدعوم سياسيًا وأمنيًا من الدولة. بمعنى آخر، المعارضة هنا لا تتقدم إلا بإذن مباشر من النظام وأحزابه، فلا إمكانية لنجاح مستقل خارج حدود الحيز الذي تُحدده الدولة.
هذه الأرقام تعكس بجلاء ما تصوغه الفرضية البحثية: أن غياب التنافسية ليس نتاج ضعف المعارضة الداخلي فقط، بل نتيجة هندسة سياسية متكاملة أعادت تعريف معنى التعددية. فالنظام صاغ انتخابات تتحقق فيها المشاركة الشكلية للعديد من الأحزاب، لكنها مشاركة مشروطة تضمن أن يبقى النفوذ الحقيقي في يد النظام وأحزاب الموالاة التي تحدد من الفائز ومن الخاسر، بل من له حق الدخول في القائمة من داخل “أحزاب الحيز المتاح” نفسها. وبذلك تحقق الهدف الذي حدده سؤال البحث: التنافس لم يعد مسعىً لكسب ثقة الناخبين، بل صراعًا على البقاء داخل الحيز الضيق الذي يحدده النظام.
يتبع
|الآراء الواردة لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لمنصة فكر تاني
