سجل الذهب أعلى مستوى في تاريخه ليبلغ 3957.84 دولارًا للأوقية، مدفوعًا بما يشبه “عاصفة كاملة” من الأزمات المتزامنة التي دفعت المستثمرين والأفراد إلى البحث عن الملاذات الآمنة.
تأتي هذه القفزة التاريخية نتيجة لأربع محركات رئيسية: أزمة الإغلاق الحكومي في الولايات المتحدة، وتوقعات بخفض حاد لأسعار الفائدة، واستمرار التوترات الجيوسياسية، وموجة شراء غير مسبوقة من البنوك المركزية حول العالم.
الشلل الأمريكي.. شرارة أشعلت سوق الذهب
كانت الأزمة السياسية في واشنطن هي الشرارة المباشرة التي أطلقت موجة الصعود الأخيرة، فمع إعلان إدارة الرئيس دونالد ترامب بدء تسريح جماعي للموظفين بالحكومة الاتحادية، سارع المستثمرون إلى الذهب كملاذ آمن.
ويأتي هذا الإغلاق بعد فشل الكونغرس في التوصل لاتفاق حول الموازنة الجديدة بسبب الخلافات الحادة بين الجمهوريين والديمقراطيين على تمويل برامج الرعاية الصحية والإنفاق العام.

تشير التقديرات الأمريكية إلى أن هذا الشلل الحكومي يكلف الاقتصاد خسائر يومية تصل إلى 400 مليون دولار، حيث يُفقد الاقتصاد الأمريكي نحو 0.15 نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي عن كل أسبوع من الإغلاق، مع احتمالية ارتفاع هذه الخسائر إلى 1% من الناتج الفصلي إذا استمرت الأزمة لشهر كامل.
وقد تزامنت هذه الأزمة مع تصريحات من داخل البنك المركزي الأمريكي عززت من جاذبية الذهب، حيث أكد ستيفن ميران، عضو مجلس الاحتياطي الفيدرالي، على ضرورة اتباع مسار خفض حاد لأسعار الفائدة.
وفي عالم الاستثمار، يرتبط الذهب بعلاقة عكسية تاريخية مع الفائدة والدولار، فخفض الفائدة يعني تراجع العائد على الدولار، مما يدفع المستثمرين للتحول نحو المعدن الأصفر.
محركات عميقة.. ما بعد الشرارة الأمريكية
أزمة واشنطن لم تكن سوى الشرارة التي أشعلت نارًا كانت تشتعل بالفعل تحت السطح، بفضل محركات أعمق وأطول أمدًا، قادت الذهب لتسجيل زيادة بنحو 75% خلال عامين فقط، حيث ارتفع بنسبة 27% في 2024 ثم قفز بنسبة 49% في 2025.
ويقف خلف هذا الصعود موجة شراء تاريخية من البنوك المركزية حول العالم، التي تواصل شراء الذهب منذ عامين. ففي أغسطس الماضي وحده، اقتنصت البنوك المركزية 15 طنًا، بينما راكمت أكثر من ألف طن من الذهب في كل سنة من السنوات الثلاث الماضية (2022 – 2024)، وهي زيادة ضخمة مقارنة بمتوسط 400 طن خلال العقد السابق.
هذا التحول، الذي بدأ خلال الأزمة المالية العالمية، تسارع بشكل كبير منذ عام 2022، عندما تم تجميد احتياطيات روسيا من العملات الأجنبية بعد غزوها لأوكرانيا، وهو ما دفع البنوك المركزية، خاصة في الأسواق الناشئة، إلى زيادة مشترياتها من الذهب كبديل آمن للدولار.

ويوضح البروفيسور أندريا بوبولا، أستاذ التحليل الاقتصادي بجامعة كولومبيا، أن “البنوك المركزية أدركت أن الوقت قد حان للتوقف عن اقتصار احتياطياتها على الدولار الأمريكي، واقتناء الذهب أيضًا”.
وقد تزامنت هذه السياسة مع ضغوط الرئيس ترامب المستمرة على البنك المركزي، والتي دفعت الدولار الأمريكي لتحقيق أسوأ موجة تراجع له منذ عقود، حيث تراجع عالميًا بأكثر من 10% خلال 2025، ليسجل أكبر انخفاض له في ستة أشهر منذ عام 1973.
ويهدف ترامب من وراء ذلك إلى منح السلع الأمريكية تنافسية أكبر في الخارج، خاصة أمام السلع الصينية.
إلى جانب ذلك، لعبت التوترات الجيوسياسية دورًا رئيسيًا، حيث يتخوف المستثمرون من حالة الحشد الكبير لطائرات التزود بالوقود الأمريكية في الشرق الأوسط، وما تحمله من دلالات على إمكانية نشوب حرب جديدة على إيران.
ويوضح بوبولا أن الذهب “جيد لأنه عادةً ما يرتبط سلبًا بالأسواق، فعندما تسوء الأسواق، يتحسن أداء الذهب”، مضيفًا أن المستثمرين، من الشركات العائلية إلى الأفراد، كانوا يشترون الذهب لتنويع محافظهم الاستثمارية وتوقع خسارة أقل مقارنة بالأسهم والسندات.
بوصلة المستقبل.. إلى أين يتجه الذهب؟
في ظل هذه “العاصفة الكاملة”، تتجه الأنظار نحو المستقبل، حيث تتوقع لينا توماس، المحللة في جولدمان ساكس للأبحاث، أن يواصل المعدن الأصفر صعوده ليصل إلى 4000 دولار للأونصة بحلول منتصف العام المقبل.
تستند هذه التوقعات إلى استمرار عاملين رئيسيين: طلب البنوك المركزية القوي، وتخفيف السياسة النقدية من جانب الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي.

ويقسم “جولدمان ساكس” مشتري الذهب إلى مجموعتين رئيسيتين: الأولى هي “المشترون المقتنعون”، وتشمل البنوك المركزية وصناديق الاستثمار المتداولة والمضاربين، وهؤلاء يشترون المعدن باستمرار بغض النظر عن السعر، وتحدد تدفقاتهم اتجاه السعر العام، حيث يقابل كل 100 طن من صافي مشترياتهم ارتفاعًا بنسبة 1.7% في سعر الذهب.
أما المجموعة الثانية فهي “المشترون الانتهازيون”، مثل الأسر في الأسواق الناشئة، الذين يشترون عندما يعتقدون أن السعر مناسب، وهم يوفرون أرضية للأسعار في طريقها للانخفاض ومقاومة في طريقها للارتفاع.
وتتوقع “جولدمان ساكس” أن تستمر البنوك المركزية في مراكمة الذهب لثلاث سنوات أخرى، وهو ما تؤكده استطلاعات حديثة لمجلس الذهب العالمي كشفت أن حوالي 95% من البنوك المركزية تتوقع زيادة احتياطياتها من الذهب خلال الـ 12 شهرًا المقبلة.
وبالتزامن مع صعود الذهب، دخلت الفضة أيضًا على خط الملاذات الآمنة، مدعومة بكونها مدخلًا رئيسيًا للاستخدام الصناعي في قطاعات سريعة النمو مثل الطاقة الشمسية، والإلكترونيات، وشبكات الجيل الخامس، والمركبات الكهربائية، حيث يمثل الطلب الصناعي نحو 60% من إنتاجها.
وقد أصبحت روسيا أول دولة تعلن عن مشتريات من الفضة لاحتياطياتها، كما اتخذ البنك المركزي السعودي موقفًا مبدئيًا بقبول صناديق المؤشرات المتداولة الخاصة بها.
ماذا عن السوق المحلية؟

تتأثر سوق الذهب المحلية بشكل مباشر بهذه التحركات العالمية. ووفقًا لهاني ميلاد، رئيس شعبة الذهب باتحاد الغرف التجارية، فإن أسعار الذهب مرشحة للارتفاع محليًا، خاصة بعد أن ربح سعر الذهب العالمي 50 دولارًا للأونصة منذ إغلاق تعاملات الجمعة الماضية.
وأضاف أن لجوء المستثمرين إلى الذهب كملاذ آمن سيستمر مع استمرار التوترات الاقتصادية والجيوسياسية، وأزمة الإغلاق الحكومي في أمريكا.
