أنا و”صديقي اليساري”

منذ سنوات الجامعة، حين كنت منسقًا لرابطة الطلاب الليبراليين، مرورًا بكل محطاتي في العمل العام وتجربتي الحزبية، وأنا أحاول بناء مساحات مشتركة مع اليسار.

كنت أظن أن التنوع في المرجعيات لا يمنع الالتقاء حول القضايا الوطنية الكبرى، وأن الخلاف الأيديولوجي يمكن تجاوزه إذا حضرت النوايا الصادقة. لكن التجربة، في كل مرة وبكل سياق، أثبتت لي العكس.

لا شراكة أو تكامل

الأمور تتكرر بنمط يكاد يكون ثابتًا. العلاقة لا تُبنى على شراكة أو تكامل، بل على تصور أن الآخر مجرد أداة. اليساري يحدد المسار، يضع الشعارات، يدعو إلى المبادرة، ثم يتوقع أن تنفذ بلا نقاش.

وحين يبرز أي خلاف حول آلية أو وجهة نظر، يتحول النقاش من حوار طبيعي إلى سيل من الاتهامات: برجوازية متعفنة، أو رأسمالية جشعة تتغذى على لحوم العمال والكادحين، ومزايدات لا حصر لها، وكأن امتلاك الحق في “التنظير والنضال” حكرٌ على اليسار وحده.

جبهة حق الناس تجمع لأحزاب اليسار في مصر
جبهة حق الناس تجمع لأحزاب اليسار في مصر

والمفارقة أن هذه الصلابة تتحول فجأة إلى ليونة مفرطة عندما يكون الطرف الآخر إسلاميًا أو إخوانيًا. هنا نجد استعدادا للتعاون الكامل، وتنفيذ التعليمات، وتقديم التنازلات بلا نقاش، حتى لتكاد ترى يساريين يتعاملون مع الإسلاميين كما لو كانوا “حلفاء طبيعيين”.

هذه الظاهرة ليست جديدة؛ فمنذ سبعينيات القرن الماضي، شهدنا تحالفات متكررة بين بعض التيارات اليسارية والإسلامية في الجامعات المصرية، بل وحتى في النقابات المهنية. وعلى الرغم من أن المرجعيات الفكرية كانت متناقضة، فإن المصالح السياسية العابرة جعلت هذا التقارب ممكنًا، بينما ظل التعامل مع التيارات الليبرالية أو المدنية عدائيًا واقصائيًا.

خلل في البنية الفكرية

هذه ليست مفارقات عابرة، بل تكشف خللًا أعمق في البنية الفكرية.”نظرية الطليعة” التي ورثها كثير من اليساريين تجعلهم ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم المالك الوحيد للوعي الصحيح.

من هنا تأتي عقلية التوظيف: الحلفاء أدوات، والخلاف معهم لا يدار بالحوار بل بالإقصاء والاتهام. وهو منطق نجد جذوره في التجربة السوفييتية التي رفعت شعارات تمثيل العمال بينما مارست عليهم أقسى أشكال التسلط، ونرى انعكاساته في التجارب العربية حيث تحالف اليسار مع أنظمة قمعية أو مع الإسلاميين ضد خصوم آخرين، ثم دفعوا الثمن لاحقًا.

اجتماع بحزب المحافظين (ليبرالي التوجه) - فيس بوك
اجتماع بحزب المحافظين (ليبرالي التوجه) – فيس بوك

شخصيًا، لم أتعامل يوما مع الصراعات الأيديولوجية باعتبارها أولوية في اللحظة الحالية. أراها رفاهية لا نمتلكها أمام تحديات وطنية واجتماعية أعمق. وكنت طوال الوقت أسعى للمساحات المشتركة، لوحدة الصف، ولتجميع الجهود حول قضايا جوهرية.

لكن الواقع يُظهر أن نمط الخداع والتلاعب ما زال حاضرا، والأدهى أن الأجيال الجديدة التي راهنت على اختلافها يعتبرون هذه الأساليب مجرد “تكتيكات سياسية” لا بديل عنها، وكأنها قواعد طبيعية للعمل العام. وهكذا تواصل المدرسة القديمة إنتاج دفعات جديدة بعقلية لا تعرف إلا الإقصاء والمساومة والخداع، لتعيد إنتاج نفس التجربة مرة بعد أخرى.

سؤال مُر

طوال سنوات، أقنعت نفسي أن ما أراه مجرد أعراض لمرض قديم يمكن تجاوزها بالوعي، وأن الجيل الجديد سيصنع مساره ويعالج القصور ويتلافي الاخطاء. ولكن بما أنهم أسرى ذات السلوكيات ويسيرون في نفس المسار، فقد وصلنا لنقطة اللاعودة.

أحد اجتماعات الحركة المدنية الديمقراطية يجمع بين قيادات ليبرالية ويسارية بالحركة - فيس بوك الحركة
أحد اجتماعات الحركة المدنية الديمقراطية يجمع بين قيادات ليبرالية ويسارية بالحركة – فيس بوك الحركة

وعند هذه النقطة، رأيت الحقيقة عارية. اليسار وحده يتحمل مسئولية قتل كل محاولة للتقارب مع الليبراليين، بإصراره على إعادة إنتاج نفس أنماط التلاعب والإقصاء. لقد خسروا ثقتي سياسيا – أما انسانيا فستبقي الصداقة ويبقي كل ود، وخسرت أنا آخر ما تبقى من أمل.

واليوم لا أملك إلا أن أواجه نفسي بسؤال مُر: هل يحمل الغد شيئًا مختلفًا، أم سنظل ندور في نفس الحلقة المفرغة؟

|الآراء الواردة لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لمنصة فكر تاني

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة