مع استمرار الحرب الوحشية في غزة، تتزايد الضغوط الدولية لوضع رؤية واضحة لـ”اليوم التالي”. وفي هذا السياق، برزت خطة أخرى مثيرة للجدل يدعمها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ويُقترح أن يقودها رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير.
الخطة، التي طورها “معهد توني بلير للتغيير العالمي”، تقترح إنشاء هيئة دولية مؤقتة تُعرف باسم “السلطة الانتقالية الدولية لغزة” (Gaza International Transitional Authority – GITA). هذه السلطة ستعمل بموجب تفويض من مجلس الأمن الدولي لتكون “السلطة السياسية والقانونية العليا” في غزة لمدة تصل إلى خمس سنوات.
هذه الخطة، التي تهدف إلى إدارة القطاع المدمر في مرحلة انتقالية، كشفت عن تفاصيل دقيقة لهيكل حكم جديد، وفي الوقت ذاته أثارت ردود فعل متباينة بين الأطراف المعنية. والفكرة مستوحاة من نماذج الإدارات الانتقالية التي أشرفت عليها الأمم المتحدة في تيمور الشرقية وكوسوفو.
الهيكل الإداري المقترح للسلطة الانتقالية
مجلس الإدارة: هو الهيئة العليا، ويتكون من 7 إلى 10 أعضاء. سيضم المجلس ممثلين عن الأمم المتحدة، وشخصيات دولية ذات خبرة تنفيذية أو مالية، وممثل فلسطيني واحد على الأقل (من قطاع الأعمال أو الأمن)، مع “تمثيل قوي للأعضاء المسلمين”. وقد طُرح اسم توني بلير لرئاسة هذا المجلس.
الأمانة العامة: لدعم عمل المجلس، سيتم إنشاء أمانة عامة تتألف من حوالي 25 موظفًا، ويرأسها بلير في حال توليه المنصب.
المفوضون الخمسة: سيعين المجلس خمسة مفوضين للإشراف على قطاعات حيوية: الشؤون الإنسانية، إعادة الإعمار، الشؤون التشريعية والقانونية، الأمن، والتنسيق مع السلطة الفلسطينية.
السلطة التنفيذية الفلسطينية: ستكون هذه الهيئة مسؤولة عن الإدارة اليومية للخدمات في غزة عبر “إدارة مهنية غير حزبية”. يرأسها رئيس تنفيذي يعينه مجلس إدارة السلطة الانتقالية، وستشرف على وزارات تكنوقراطية (صحة، تعليم، مالية، بنية تحتية، شؤون قضائية).
الهيكل الأمني: تتضمن الخطة إنشاء “قوة استقرار دولية” متعددة الجنسيات وبقيادة عربية، “لضمان أمن الحدود ومنع عودة الجماعات المسلحة”. بالإضافة إلى ذلك، سيتم تشكيل “قوة شرطة مدنية في غزة” من ضباط فلسطينيين “تم فحصهم مهنيًا وغير حزبيين”.
الجدير بالذكر أن الخطة تؤكد على مبدأ “غزة للغزيين” مع عدم وجود أي نية لتهجير السكان. ولضمان ذلك، تقترح إنشاء “وحدة الحفاظ على حقوق الملكية” لضمان حق العودة والملكية لأي شخص يغادر القطاع طواعية.

21 بندًا يرسمون ملامح المستقبل
كشف ستيف ويتكوف، المبعوث الخاص للرئيس ترامب، عن خطة من 21 نقطة لإنهاء الحرب، والتي تتكامل مع رؤية بلير المقترحة. على الرغم من أن البنود الكاملة لم تُنشر رسميًا، إلا أن صحيفة “تايمز أو إسرائيل” كشفت عن نسخة مسربة من الخطة.
وتُظهر الخطة أن اقتراح ويتكوف يتضمن إطلاق سراح جميع الرهائن خلال أول 48 ساعة، و”منح العفو لأعضاء حماس الملتزمين بالسلام”، وتشجيع سكان غزة على البقاء، وتشجيع الولايات المتحدة على إقامة حوار إسرائيلي فلسطيني.
القرار بتشجيع الفلسطينيين صراحة على البقاء في غزة يشكل تتويجًا لتطور كبير بالنسبة لواشنطن بشأن هذه القضية، نظرًا لأن الرئيس الأميركي دونالد ترامب صدم الكثير من العالم في فبراير الماضي عندما تحدث عن استيلاء الولايات المتحدة على غزة ونقل سكانها بالكامل، والذين يبلغ عددهم نحو مليوني نسمة، بشكل دائم.
ولكن يبدو أن ضغوط الدول العربية في هذا الإطار بشأن رفض التهجير قد أسهمت في هذا التحول. كما ستقيم الولايات المتحدة حوارًا مع الإسرائيليين والفلسطينيين للاتفاق على “أفق سياسي” من أجل “التعايش السلمي”.
تتضمن الخطة أيضًا بنودًا طالبت بها إسرائيل منذ فترة طويلة. وتشمل التزام حماس بنزع سلاحها، ونزع السلاح من غزة، وإنشاء عملية “لإزالة التطرف من السكان”. ولم يتم تحديد التسلسل الدقيق لهذه الخطوات، لكن يبدو أنها تهدف إلى دخول حيز التنفيذ بالتوازي مع نهاية الحرب.
وستبدأ الهيئة الانتقالية، بحسب الخطة، عملها من العريش عاصمة محافظة شمال سيناء بالقرب من الحدود الجنوبية لغزة، قبل الدخول إلى القطاع رفقة قوة متعددة الجنسيات تحت مظلة الأمم المتحدة.

وجاءت البنود كالآتي:
1- ستكون غزة منطقة خالية من التطرف والإرهاب ولا تشكل تهديدًا لجيرانها.
2- سيتم إعادة تطوير غزة لصالح سكانها.
3- إذا وافق الطرفان على الاقتراح، فستنتهي الحرب على الفور، وستوقف القوات الإسرائيلية جميع عملياتها وتنسحب تدريجيًا من القطاع.
4- في غضون 48 ساعة من قبول إسرائيل للاتفاق علنًا، سيتم إعادة جميع الرهائن الأحياء والمتوفين.
5- بمجرد إعادة الرهائن، ستفرج إسرائيل عن عدة مئات من السجناء الأمنيين الفلسطينيين المحكوم عليهم بالسجن مدى الحياة وأكثر من 1000 من سكان غزة الذين تم اعتقالهم منذ بداية الحرب، بالإضافة إلى جثث عدة مئات من الفلسطينيين.
6- بمجرد إعادة الرهائن، سيتم منح العفو لأعضاء حماس الذين يلتزمون بالتعايش السلمي، بينما سيتم منح الأعضاء الذين يرغبون في مغادرة القطاع ممرًا آمنًا إلى البلدان المستقبلة.
7- بمجرد التوصل إلى هذا الاتفاق، ستتدفق المساعدات إلى القطاع بمعدلات لا تقل عن المعايير المحددة في اتفاق الرهائن المبرم في يناير 2025، والذي تضمن 600 شاحنة مساعدات يوميًا، إلى جانب إعادة تأهيل البنية التحتية الحيوية ودخول معدات لإزالة الأنقاض.
8- سيتم توزيع المساعدات – دون تدخل من أي من الطرفين – من قبل الأمم المتحدة والهلال الأحمر، إلى جانب منظمات دولية أخرى غير مرتبطة بإسرائيل أو حماس.
ويبدو نص هذه الفقرة غامضًا عن قصد، ويبدو أنه يترك الباب مفتوحًا لاستمرار عمل مؤسسة غزة الإنسانية، حيث إنها من الناحية الفنية منظمة أمريكية، حتى لو كانت من بنات أفكار إسرائيليين مرتبطين بالحكومة وصُممت لتتناسب مع حرب الحكومة الإسرائيلية.
9- ستحكم غزة حكومة انتقالية مؤقتة من التكنوقراط الفلسطينيين الذين سيكونون مسؤولين عن توفير الخدمات اليومية لسكان القطاع. ستشرف على اللجنة هيئة دولية جديدة تنشئها الولايات المتحدة بالتشاور مع الشركاء العرب والأوروبيين. وستضع إطارًا لتمويل إعادة إعمار غزة حتى تنتهي السلطة الفلسطينية من برنامجها الإصلاحي.
10- سيتم وضع خطة اقتصادية لإعادة إعمار غزة من خلال عقد اجتماعات لخبراء ذوي خبرة في بناء المدن الحديثة في الشرق الأوسط ومن خلال النظر في الخطط الحالية التي تهدف إلى جذب الاستثمارات وخلق فرص العمل.
11- سيتم إنشاء منطقة اقتصادية، مع تخفيض التعريفات الجمركية ومعدلات الوصول التي ستتفاوض عليها الدول المشاركة.
12- لن يُجبر أحد على مغادرة غزة، ولكن سيُسمح لمن يختارون المغادرة بالعودة. علاوة على ذلك، سيتم تشجيع سكان غزة على البقاء في القطاع وتوفير فرصة لهم لبناء مستقبل أفضل هناك.
13- لن يكون لحماس أي دور في حكم غزة على الإطلاق. سيكون هناك التزام بتدمير ووقف بناء أي بنية تحتية عسكرية هجومية، بما في ذلك الأنفاق. سيلتزم قادة غزة الجدد بالتعايش السلمي مع جيرانهم.
14- سيتم توفير ضمان أمني من قبل الشركاء الإقليميين لضمان امتثال حماس والفصائل الأخرى في غزة لالتزاماتها ووقف غزة عن تشكيل تهديد لإسرائيل أو لشعبها.
15- ستعمل الولايات المتحدة مع الشركاء العرب والدوليين الآخرين لتشكيل قوة دولية مؤقتة لتحقيق الاستقرار، سيتم نشرها على الفور في غزة للإشراف على الأمن في القطاع. ستقوم القوة بتطوير وتدريب قوة شرطة فلسطينية، ستعمل كهيئة أمن داخلي طويلة الأمد.
16- لن تحتل إسرائيل غزة أو تضمها، وستسلم قوات الدفاع الإسرائيلية تدريجيًا الأراضي التي تحتلها حالياً، مع قيام قوات الأمن البديلة بفرض السيطرة والاستقرار في القطاع.
17- إذا أخرت حماس أو رفضت هذا الاقتراح، فستنفذ النقاط المذكورة أعلاه في المناطق “الخالية من الإرهاب”، والتي ستسلمها القوات الإسرائيلية تدريجيًا إلى قوة الاستقرار الدولية.
18- توافق إسرائيل على عدم شن أي هجمات مستقبلية على قطر. وتعترف الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بدور الوساطة المهم الذي تلعبه الدوحة في الصراع في غزة.
19- سيتم إنشاء عملية لإزالة التطرف من بين السكان. وسيشمل ذلك حوارًا بين الأديان يهدف إلى تغيير العقليات والروايات في إسرائيل وغزة.
20- عندما تتقدم عملية إعادة إعمار غزة ويتم تنفيذ برنامج إصلاح السلطة الفلسطينية، قد تتوفر الظروف الملائمة لطريق موثوق نحو إقامة دولة فلسطينية، وهو ما يُعتبر طموح الشعب الفلسطيني.
21- ستقوم الولايات المتحدة بإقامة حوار بين إسرائيل والفلسطينيين للاتفاق على أفق سياسي للتعايش السلمي.
وكان ترامب قد قال إن “جميع دول المنطقة متورطة في هذه المناقشات، وحماس على علم تام بها، وتم إبلاغ إسرائيل على كافة المستويات، بما في ذلك بيبي نتنياهو”، في إشارة إلى رئيس وزراء الاحتلال.
لكن مصدرًا مُطلعًا على الأمر قال لـ”تايمز أوف إسرائيل” إن الاقتراح لم يُعرض بعد بشكل كامل على حماس. وأن الخطة الأميركية تفتقر إلى الكثير من التفاصيل، ومن المرجح أن تكون المفاوضات اللاحقة ضرورية، حتى لو وافقت الأطراف على الخطة.

دور توني بلير المثير للجدل
يعمل بلير وصهر ترامب جاريد كوشنر على ملف غزة منذ أشهر، ويقدمان المشورة لويتكوف. ويأتي ترشيح بلير لهذا المنصب محملاً بتاريخ سياسي سلبي في المنطقة. فبينما يتمتع بعلاقات قوية مع العديد من قادة الخليج والإدارات الأمريكية، يُنظر إليه بعين الريبة من قبل الكثير من الفلسطينيين والعرب.
فدوره في غزو العراق عام 2003، وموقفه الذي اعتُبر منحازًا لإسرائيل خلال فترة عمله كمبعوث للجنة الرباعية الدولية (2007-2015)، جعلا منه شخصية إشكالية. يرى البعض أن عودته للمشهد تذكر بفترة “الانتداب البريطاني”، حيث قد يصبح بمثابة “مندوب سامٍ” جديد.
نيل كويليام، الزميل المشارك في برنامج الشرق الأوسط بمعهد “تشاتام هاوس” ومقره لندن، كان قد قال لـ فكّر تاني في تقرير سابق إن الاستعانة ببلير من قبل إدارة ترامب في نهاية أغسطس الماضي عبر اجتماع مغلق كانت تعود بالأساس إلى أن خطة “ريفييرا غزة” لتهجير الفلسطينيين “جوفاء وتحتاج إلى مفكر استراتيجي مثل بلير لإثراءها بالأفكار؛ ثانيًا يواجه البيت الأبيض صعوبة في إقناع قادة الخليج بخطة المشاركة الزمنية، ويأمل أن تُسهم علاقات بلير معهم في استقطابهم”.
ويبدو أن ما ذكره كويليام قد تحقق بإضافة بلير العديد من الأفكار للخطة كي تقبلها الدول العربية والخليجية، مع إقناعهم بذلك. ويقول الباحث البريطاني لـ فَكّر تاني إن “تاريخ التدخلات الغربية في الشرق الأوسط، يخبرنا أن الخطط الكبرى التي يتم وضعها في العواصم الغربية غالبًا ما تنهار عند اصطدامها بالواقع المحلي المعقد”.
ويعتبر أن الخطة، بتركيزها على الحلول الإدارية والأمنية وتجاهلها للحل السياسي الشامل الذي يعالج جذور الصراع، هي مجرد محاولة أخرى لإدارة الصراع بدلاً من حله.
يعتقد أحمد سلطان، الباحث في الشؤون الأمنية الإقليمية أن بلير بعلاقاته المتشعبة، يقوم بدور “حصان طروادة” لتمرير رؤية قد لا تكون أمريكية بالكامل، بل تحمل بصمات أطراف أخرى.
ويصف سلطان الخطة بأنها “إعادة تدوير لشخصيات ومشاريع قديمة فشلت سابقًا، وأن طرحها في هذا التوقيت يهدف إلى إرباك المشهد ومنع تبلور أي مشروع فلسطيني وطني لإدارة القطاع بعد الحرب، مما يخدم في النهاية الأجندة الإسرائيلية الساعية لفصل غزة عن الضفة الغربية”.
فيما يظن الباحث الفلسطيني محمد الأخرس أن هذه البنود تُعد بمثابة “إطار عام” ولا تتطرق للتفاصيل؛ ما يشير إلى وجود ملاحق أمنية وسياسية أخرى لم يتم الكشف عنها أو أنه لم يتم إنضاجها أصلاً.
“يوجد بند مركزي وسياسي مهم جدًا؛ أنه يمكن الشروع في تنفيذ الخطة دون انتظار موافقة المقاومة؛ وهذا أمر يمكن قراءته من عدة وجوه لكنه يختبر عمليًا مدى انفتاح نتنياهو على التفاعل مع خطط اليوم التالي. والإشكالية بالنسبة له أنه يسيطر على 75% من القطاع؛ وهي مساحة يمكن الشروع فورًا في تنفيذ الخطة فيها”، يلحظ الأخرس.
المواقف الدولية والإقليمية
تدعم إدارة ترامب الخطة بقوة، حيث يراها الرئيس الأمريكي حلاً وسطًا بين مقترحاته الأولية للتهجير وخطة “إعلان نيويورك” التي تدعمها الأمم المتحدة والتي تدعو لتسليم سريع للسلطة الفلسطينية. وقد عرض ترامب الخطة على قادة السعودية وقطر ومصر والإمارات والأردن وإندونيسيا وتركيا.
أما حكومة نتنياهو فلم ترفض الخطة بشكل قاطع، وهو ما اعتبره البعض تكتيكًا لكسب الوقت. إذ تفضل إسرائيل هذه الخطة على عودة السلطة الفلسطينية مباشرة، لكن الوزراء اليمينيين المتطرفين في حكومته، مثل بتسلئيل سموتريتش، لديهم طموحات أخرى للقطاع ويصفونه بأنه “فرصة عقارية كبيرة”.
وعلى الجانب الفلسطيني، تشير التقارير إلى موافقة حماس مبدئيًا على اتفاق لوقف إطلاق النار يشمل الإفراج الفوري عن جميع الرهائن الإسرائيليين مقابل انسحاب الجيش الإسرائيلي التدريجي من قطاع غزة، والإفراج عن مئات الأسرى الفلسطينيين.
تواجه الخطة عقبات قد تمنع تطبيقها. “أولاً، تحتاج إلى تفويض من مجلس الأمن الدولي، وهو أمر صعب في ظل الانقسامات الحالية. بينما شرط نزع سلاح حماس قد يشعل جولة جديدة من الصراع”، بحسب ما يرى الباحث الفلسطيني عمر شعبان في حديثه مع فَكّر تاني.
وأخيراً، يكمن “شيطان” بلير في التفاصيل، كما يصفه البعض، فالغموض حول الجدول الزمني لتسليم السلطة للفلسطينيين يثير مخاوف من أن تكون الخطة مجرد وسيلة لإطالة أمد الوضع الراهن وخلق حقائق جديدة على الأرض.
“الخطة ليست سوى محاولة لإضفاء الشرعية على نتائج الحرب الإسرائيلية، وتوفير غطاء دولي لإعادة تصميم مستقبل غزة بما يخدم المصالح الإسرائيلية والأمريكية، مع استبعاد كامل للفلسطينيين من المعادلة”، كما يختتم شعبان.
