يمسح محمد بكر الغبار عن وجه أبيه المسجى على فراش بالٍ في زاوية الغرفة المظلمة. كل خط تجعيدة في وجه الأب يروي قصة صمود وعمر أفناه في مخيم الشاطئ، لكن الأنين الخافت الذي يخرج الآن من بين شفتيه يروي قصة واحدة فقط: الألم. وهي كلمة ربما لم تعد كافية لوصف ما يشعر به.
يعاني والده الثمانيني من مرض في القلب، وكل ما يحتاجه هو كشف طبي في أحد مستشفيات الجنوب، قد يكون بوابته الضيقة للسفر والعلاج في الخارج. لكن الجنوب، الذي لا يبعد سوى بضعة كيلومترات، يبدو الآن أبعد من كوكب آخر.
حاول محمد مرتين قطع الطريق الساحلي، في محاولة إيجاد وسيلة تنقل بسعر زهيد، وفي كل مرة كان يعود مهزومًا بعد ساعات من الانتظار في طابور لا نهائي من البؤس، ليجد والده قد ازداد شحوبًا، وأطفاله الثلاثة قد ازدادوا جوعًا. “إيش أسوي بحالي؟” يهمس محمد لنفسه في عتمة الغرفة التي تفوح منها رائحة الخوف والغبار والموت المعلّق.
“القعدة هان موت سريع، والروحة في النزوح موت بالبطيء”، يقول بكر لـ فَكّر تاني. وقصته ليست سوى نقطة في بحر المعاناة التي يعيشها مئات الآلاف من سكان مدينة غزة وشمالها، الذين وجدوا أنفسهم، مع دخول العملية البرية الإسرائيلية مراحلها الأولى في 15 سبتمبر الجاري -والتي سبقها أسابيع من القصف المكثف والوحشي- محاصرين بين مطرقة قصف لا يهدأ وسندان نزوح مستحيل.
لقد حوّلت حرب الإبادة الإسرائيلية القطاع إلى مشهد من الدمار الشامل، حيث تجاوزت حصيلة الضحايا 64,964 شهيدًا و165,312 مصابًا، بينما لا يزال آلاف المفقودين تحت الأنقاض. وغيرهم الآلاف ممن أصبح موتهم مسألة وقت في غياب الدواء والرعاية الصحية؛ كوالد محمد.

طريق الموت.. شريان غزة الأخير
قبل الهجوم البري مباشرةً، كثف الجيش الإسرائيلي غاراته الجوية على مدينة غزة على مدار الأسبوع، وسوّى عشرات الأبراج الشاهقة بالأرض، مدعيًا أنها كانت تُستخدم لأغراض عسكرية من قبل حركة حماس. ودعا الاحتلال مليون فلسطيني في المدينة إلى الانتقال جنوبًا إلى “مناطق إنسانية”، وقد غادر أكثر من 300 ألف فلسطيني حتى الآن.
لكن شارع الرشيد، الطريق الوحيد للاتجاه جنوبًا، لم يعد مجرد طريق يلامس زرقة البحر، بل تحول إلى رمز لأضخم عملية تهجير قسري في التاريخ الحديث. بعد أن دمرت الطرق الأخرى وأغلقتها القوات الإسرائيلية المتوغلة، أصبح هذا المسار الساحلي الضيق هو السبيل الوحيد نحو الجنوب، وهو ما حوّله إلى مصيدة جماعية تختنق فيها الأنفاس وتموت الأحلام.

شهادات الفارين تصف رحلة لا تتجاوز في الأيام العادية نصف ساعة، بأنها تستغرق الآن ما بين ست إلى اثنتي عشرة ساعة من العذاب المتواصل.
“طلعنا الفجرية على كارو بجرّه حمار، فكرنا حالنا بنلحق الطريق قبل الزحمة، بس لقيناه مسكر بالسيارات وآلاف الناس الشاردة. المية خلصت بعد كم ساعة، وصوت ولادي وهم بعيطوا من العطش ما سكت طول الرحلة اللي قعدت عشر ساعات”، تحكي فاطمة، وهي أم لأربعة أطفال، لـ فَكّر تاني.
هذا الطابور الطويل من السيارات والعربات التي تجرها الحمير ليس مجرد أزمة سير، بل هو معرض مفتوح للبؤس الإنساني، حيث يصبح كل متر يتقدمه النازحون خطوة نحو المجهول، وكل ساعة تمر تسرق منهم ما تبقى من كرامة وإنسانية.
اضطرت المرأة الثلاثينية للنزوح في أول الشهر الجاري من حيّها الزيتون -بعد قصف إسرائيلي مكثف- إلى حي النصر غرب المدينة، قبل أن تضطر للنزوح مجددًا جنوبًا نحو مدينة حمد في خانيونس حيث شقة متهالكة لأقارب زوجها.
وتضيف “بنص الطريق، الحمار تعب ووقع. سيبنا الكارو وكل إشي إلنا ومشينا على رجلينا. كل خطوة كانت تبعدنا عن دارنا للأبد اللي ما ضل إلنا غيرها، وتقربنا من مصير ما بنعرفوش”.
هذا الاختناق في مسارات النزوح ليس طبيعيًا بل هو نتيجة مباشرة لتكتيك عسكري إسرائيلي يعتمد على سياسة الأرض المحروقة. فبحسب منظمات حقوقية دولية، فإن الاحتلال يتعمد تكثيف القصف الجوي والبري والبحري، وتدمير الأبراج السكنية، واستهداف مراكز الإيواء والمرافق الصحية، بهدف إجبار السكان على الفرار عبر هذا المنفذ الوحيد.
إنها عملية “ترهيب مكثف”، كما تصفها الأمم المتحدة، حيث تُستخدم القنابل الحرارية ليلاً لتحويل السماء إلى كتلة من اللهب، وتُرسل الروبوتات المفخخة لتنفجر قرب المنازل، مما يدفع السكان إلى الهرب بملابسهم فقط، تاركين وراءهم كل شيء.

النجاة ثمن باهظ
من ينجح في عبور طريق الموت، يكتشف أن النجاة لها ثمن باهظ، وأن الجنوب ليس أرض الميعاد، بل سوق سوداء ضخمة تزدهر على أنقاض البيوت وآلام البشر. كل شيء له سعر، من شربة ماء نظيفة إلى قطعة أرض صغيرة لنصب خيمة.
يوسف المصري، طالب الهندسة الذي لم يتبق من جامعته سوى ركام، يروي لـ فَكّر تاني كيف انهارت أحلامه حين قرر الخروج من حي الشيخ رضوان: “أبوي قرر ننزح عشان نعيش. بعد رحلة بهدلة قعدت 12 ساعة وصلنا المواصي وانصدمنا بالواقع المر”.
منطقة المواصي، التي طُلب من فلسطينيي مدينة غزة الانتقال إليها تعرضت لغارات جوية إسرائيلية رغم إعلانها “منطقة إنسانية”، وقالت اليونيسف إن الأوضاع في المواصي بالغة السوء لدرجة أن بعض الأطفال لقوا حتفهم هناك أثناء جمعهم المياه.
“سماسرة الحرب مسيطرين على كل شبر، وطلبوا منا 600 دولار عشان حتة أرض ننصب فيها خيمتنا. أبوي اتطلع فينا بعجز، وقال بصوت مكسور: ‘كنا نموت في دارنا بكرامتنا، ولا نعيش على شحدة كرامة من حدا'”، يقول يوسف، موضحًا أن عائلته اضطررت للبحث عن مكان آخر بجوار مستشفى ناصر.
وبرزت طبقة من سماسرة الحرب تستغلّ معاناة الفلسطينيين لجني أرباح طائلة. هذه الطبقة تسيطر على كلّ جانب من جوانب الحياة الاقتصادية في القطاع في أعقاب انهيار النظام الحكومي. وهي طبقة تتحكم في السيولة النقدية والعمولات، والبضائع والمساعدات الغذائية، مرورًا بالخيام وإيجارات المنازل.

وقصة يوسف ليست استثناء. فالأرقام الفلكية أصبحت هي القاعدة. الإيجارات في خان يونس ودير البلح قفزت من 100 دولار شهريًا قبل الحرب إلى ما بين 2000 و3000 دولار لشقة بالكاد تصلح للسكن، وغالباً ما تكون بلا ماء أو كهرباء.
وحتى الخيمة، رمز اللجوء والفقر، أصبحت سلعة فاخرة يتراوح سعرها بين 1000 و1500 دولار بسبب منع دخولها عبر المعابر. هذا الواقع الصادم يحول النزوح من ضرورة إنسانية إلى سلعة لا يقدر عليها إلا القلة.
إنه حصار اقتصادي يضاف إلى الحصار العسكري، وهو ما يجبر آلاف الأسر على البقاء في مرمى النيران، ليس تمسكًا بالأرض بقدر ما هو عجز عن شراء الحياة في مكان آخر. وقد وصفت وكالة “الأونروا” منطقة المواصي، بأنها “مخيم ضخم ومتزايد يُحشر فيه الفلسطينيون الجائعون في حالة يأس”، مؤكدة أنه لا يوجد مكان آمن في قطاع غزة.
وتأتي هذه المأساة تتويجًا لأكثر من 17 عامًا من الحصار الخانق الذي حوّل القطاع إلى أكبر سجن مفتوح في العالم، وأضعف اقتصاده وبنيته التحتية بشكل ممنهج. لكن هذه الحرب، بحسب شهادات المراقبين الدوليين وتقارير ميدانية، تجاوزت في شدتها التدميرية كل ما سبقها؛ لتفرض واقعًا جديدًا من التهجير والموت على نطاق لم يشهده الفلسطينيون من قبل.

أجيال تحت الإبادة
المأساة الأكبر لا تكمن فقط في الحاضر المدمر، بل في المستقبل الذي يُغتال كل يوم. في حي الرمال، الذي كان يومًا قلبًا لغزة ينبض بالحياة، تجلس ندى شُرّاب في ركن من منزل مدمر جزئيًا، تحتضن رضيعتها “أمل” التي ولدت قبل أسابيع.
تقول ندى لـ فَكّر تاني وصوتها يختنق بالدموع: “كل ما يصير انفجار بهز المكان، بضم أمل على صدري وبدعي ربنا يحميها من هالجحيم. إجت عالدنيا على ضو جوال، والحيطان بتتكسر حوالينا”. وتعتبر ندى النزوح “إشي مش وارد. كيف بدي أقطع كل هالمسافة مع طفلة لسة لحم أحمر؟!”.

وهمها الأكبر هو تأمين الحليب لرضيعتها “حليبي نشف من الرعب والجوع، وحليب الأطفال صار أغلى من الدهب. بطحن شوية رز وبخلطه بمية مالحة وأنا بترجى ربنا إنها ما تمرض. سميتها أمل، بس خايفة إنها انولدت في عالم ما بعرف معنى الأمل”.
صرخة ندى هي صرخة آلاف الأمهات. إذ حذرت منظمة “يونيسف” في تقريرها الأخير من أن أكثر من 26 ألف طفل في القطاع بحاجة إلى علاج من سوء التغذية الحاد، منهم أكثر من 10 آلاف في مدينة غزة وحدها.
وأظهرت البيانات أن نسبة الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية الحاد ارتفعت بشكل مقلق. هذه الأرقام المفزعة تؤكد أن جيلاً كاملاً معرض لخطر الموت أو الإصابة بأمراض مزمنة وتأخر في النمو لا يمكن علاجه.
في الوقت نفسه، يعود محمد بكر إلى غرفته المهدمة، بعد رحلة فاشلة أخرى للبحث عن طريقة للنزوح. يتذكر بقالته التي تحولت إلى كومة ركام في الأسابيع الأولى من الحرب وكيف كانت مليئة بالبضاعة، وإلى يديه اللتين كانتا تبنيان البيوت كمهنة والآن لا تجد ما تبنيه أو تطعمه.

لقد انهار كل مورد رزق له ولا يستطيع علاج والده أو توفير وسيلة آمنة لنقله إلى الجنوب. وأصبح الوقود اللازم لحركة السيارات باهظ جدًا، إذ يبلغ سعر اللتر الآن 100 شيكل (أكثر من 30 دولارًا)، ويضطر الناس لاستخدام وقود محلي الصنع عن طريق حرق البلاستيك، ويكلف اللتر 50 شيكلاً (15 دولارًا)، ولكنه “خطير وسام”.
تؤكد منظمة الصحة العالمية أن النظام الصحي في غزة قد انهار، حيث دُمرت أو تضررت 94% من المستشفيات. ولم يتبق سوى عدد قليل من المستشفيات التي تعمل بشكل جزئي، وتفتقر بشدة للطواقم الطبية والإمدادات الحيوية، تاركةً والد محمد وأكثر من 10,000 مريض بالسرطان وأمراض القلب والكلى يواجهون الموت البطيء دون دواء أو رعاية.
وتم تدمير 70% من البنية التحتية الاقتصادية بفعل القصف الإسرائيلي، بالإضافة إلى إغلاق البنوك وتعطيل أجهزة الصراف الآلي منذ الأسابيع الأولى للحرب ليستغل تجار السيولة النقدية ذلك إذ يفقد المواطنون 40-50% من أموالهم كعمولة الحصول على النقد. فيما وصل معدل البطالة إلى 80% بنهاية 2024 وارتفع أكثر في 2025.
حين تصبح الحياة تهمة
مع بدء العملية البرية الإسرائيلية لم تعد المسألة مجرد عملية عسكرية، بل أصبحت، كما تصفها المقررة الأممية الخاصة فرانشيسكا ألبانيزي، محاولة لجعل المدينة “غير صالحة للعيش”، وسط اتهامات أممية لإسرائيل لأول مرة بارتكاب “إبادة“.
إن سياسة “الأرض المحروقة” المتبعة، والتي تهدف إلى تدمير كل مقومات الحياة، من أبراج سكنية ومستشفيات ومخابز وشبكات مياه، لا تترك للسكان خيارًا سوى النزوح القسري، وهو ما تعتبره منظمة العفو الدولية “جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية”.
ورغم كل محاولات الترهيب، لا يزال نحو مليون فلسطيني، بحسب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، يرفضون مغادرة المدينة وشمال القطاع، يخوضون معركة بقاء وجودية ضد آلة الحرب والجوع والمرض.
وقال مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، إن هناك مخاوف كبيرة من نفاد مخزون الوقود والغذاء في الشمال في غضون أيام، إذ لا توجد الآن نقاط دخول مباشرة للمساعدات، كما أن نقل الإمداد من الجنوب إلى الشمال “يشكّل تحديًا متزايدًا” بسبب الازدحام المتزايد على الطرقات وانعدام الأمن. وقد جرى إغلاق معبر “زيكيم” في 12 سبتمبر الجاري، ولم تتمكن منظمات الإغاثة من إدخال الإمدادات منذ ذلك الحين.
في عتمة الليل، وبعد أن ينام أطفاله الثلاثة على حصيرة بالية، يجلس محمد بكر بجوارهم. يمد يده ليمسح الغبار عن جبين أصغرهم، ويقول لنفسه بصوت لا يسمعه أحد: “ربي الموت أحب إليّ مما يدعونني إليه من نزوح”.
