كم يدفع المرشح “محدود الدخل” في تذكرة العبور إلى “برلمان الساحل”؟

في قلب المفارقة الصارخة التي ترسم المشهد السياسي المصري، وقف مرشحون محتملون لانتخابات مجلس النواب 2025 عاجزين عن تدبير تكاليف أولية لا تتجاوز 41 ألف جنيه، مقسمة بين كشف طبي (11 ألف جنيه) وتأمين انتخابي (30 ألف جنيه)، بينما ألقت حنان فايز القيادية بحزب حماة وطن، بقنبلة سياسية، كاشفةً أن ثمن “تذكرة العبور” إلى مقعد البرلمان عبر حزبها قد يصل إلى 50 مليون جنيه.

هذه ليست مجرد شكوى فردية أو زلة لسان عابرة، بل هي قمة جبل الجليد لأزمة تمويل خرجت مبكرًا إلى العلن. فقبل أكثر من شهر، أعلنت الأمانة العامة لحزب التجمع، أحد أعرق الأحزاب المصرية، انسحابها من المنافسة على المقاعد الفردية بانتخابات مجلس الشيوخ، موجهةً أعضاءها نحو مجلس النواب، ومعترفةً صراحةً بأن النفقات المالية المطلوبة “تفوق قدرات الحزب ومرشحيه”.

وهذا الشعور بالعجز المالي ليس حكرًا على حزب بعينه. فبحسب شهادات متعددة حصلت عليها فَكّر تاني من مرشحين ينتمون لتيارات مختلفة، تسود حالة من الإحباط والشكوى من افتقارهم وأحزابهم للقدرات المالية التي تضاهي ما يُتداول في الأوساط السياسية عن أحزاب الموالاة، مؤكدين أن أي تمويلات متاحة لهم لا تتعدى كونها “رمزية” مقارنة بذلك “الشكل الفاحش المُعلن عنه”.

“يافطة” و”شارع”.. تشريح فاتورة الدعاية الانتخابية

بعيدًا عن الأرقام المليونية التي تبدو كأنها من عالم آخر، ما هي التكلفة الواقعية لخوض معركة انتخابية نزيهة؟

هيثم الحريري عضو مجلس النواب السابق والمرشح الحالي عن حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، يؤكد لـ فَكّر تاني، أن “تكلفة الدعاية الانتخابية عملية نسبية بالأساس”، تتشكل بناءً على عدة عوامل حاسمة.

هيثم الحريري - تصوير هيثم محجوب
هيثم الحريري – تصوير هيثم محجوب

يشرح الحريري أن جغرافية الدائرة تلعب الدور الأول؛ فالمرشح في منطقة ريفية قد تكفيه لافتتان كبيرتان لكل قرية، بينما يحتاج مرشح الحضر إلى تغطية مساحات شاسعة.
ويلي ذلك عامل ثان متمثل في رصيد المرشح الشعبي المسبق، فذو الاسم المعروف أو المنتمي لأسرة كبيرة يحتاج لإنفاق أقل على التعريف بنفسه.

وأخيرًا، تأتي استراتيجية الدعاية نفسها، حيث يفرق الحريري بين “نائب اليافطة”، الذي يعتمد على اللافتات الضخمة باهظة الثمن، و”نائب الشارع”، الذي يركز على التواصل المباشر. ويقدم تفصيلًا من أرض الواقع قائلًا: “نحن نلجأ لما نسميه يافطة فانوس، متر في متر، تعلق على الأعمدة، بدلًا من يافطة بعرض الشارع”. ويقدم تجربته كدليل: “في 2015 كلفتني الحملة 100 ألف جنيه، وفي 2020، ورغم اتساع الدائرة، وصلت إلى 300 ألف”.

يعزو الحريري هذا السقف المنخفض من الإنفاق إلى الواقع المالي لأحزاب المعارضة، قائلًا: “لا يوجد رجل أعمال يدخل حزبًا معارضًا فيؤثر على نشاطه التجاري. حزبنا اشتراكه 50 جنيهًا، وليس له أي مقر في الإسكندرية غير مكتبي الشخصي، فلك أن تتخيل حالته الاقتصادية”.

هذه الأرقام التي ذكرها الحريري تترجمها وفاء عشري عضو المكتب السياسي لحزب العيش والحرية (تحت التأسيس) والمرشحة السابقة، إلى بنود مفصلة. تقول في حديثها لـ فَكّر تاني، إن تكلفة المرشح الذي يريد “المنافسة” فعليًا تتراوح بين 250 و300 ألف جنيه كحد أدنى.

وتفصّل المرشحة السابقة فتضيف: “تعليق بانر واحد في مكان عام يكلف 300 جنيه يوميًا، ويقفز إلى 750 جنيهًا في الأيام الأخيرة. المطبوعات الورقية وحدها قد تكلف 50 ألفًا. أما يومي الانتخابات، بين سيارات لنقل الناخبين ومندوبين وطعام وشراب، فالتكلفة تصل بسهولة إلى 150 ألف جنيه”.

وهكذا، حتى بعيدًا عن الأرقام الفلكية، تتكشف فاتورة واقعية للمنافسة الانتخابية، فاتورة لا تقل عن ربع مليون جنيه، لتشكل بحد ذاتها جدارًا ماليًا عازلًا أمام أي مرشح لا يمتلك ثروة شخصية أو دعمًا استثنائيًا.

مي سليم
مي سليم

ولكن هل يعني هذا انسداد الأفق تمامًا؟ مي سليم مرشحة حزب العدل عن دائرة أجا بالدقهلية، تقدم رؤية للمواجهة. إذ تُقر بأن “المال السياسي عامل أساسي”، وأنها لا تملك الملايين، لكنها تطرح معادلة بديلة: “سلاحي الحقيقي هو أفكاري، وبرنامجي، والتواصل المباشر في الشارع”.

وتوضح أن النقص المالي يمكن تعويضه “بالموارد البشرية من المتطوعين المؤمنين بالقضية”، مراهنةً على “وعي أهل دائرتها القادرين على التفريق بين الكلام الحقيقي والشعارات الفارغة”.

“برلمان الساحل”.. مقعد نيابي للاستثمار لا التمثيل

إذا كانت مئات الآلاف هي “تكلفة المنافسة”، والملايين هي “ثمن المقعد”، فما هي النتيجة الحتمية؟ النتيجة، كما يصفها أصحاب الشهادات، هي برلمان يتحول من ساحة لتمثيل الشعب إلى بورصة لخدمة مصالح من يدفع أكثر.

“من يجلس على كرسي النواب يفعله بالوكالة عن الشعب، لا بالمال”؛ يقول النائب أحمد بلال عضو مجلس النواب عن حزب التجمع. ويضيف في حديثه لـ فَكّر تاني: “من يدفع مالًا لا يحمل هموم الشعب المصري، بل يدفع لمصالح خاصة يسعى لتحقيقها من هذا المكان”.

النائب أحمد بلال
النائب أحمد بلال

يرى بلال أن الأرقام المتداولة ليست صادمة للنواب فحسب، بل “صادمة للشعب المصري كله”. ويربط بين هذه الملايين وبين الواقع المعيشي للمواطن قائلًا: “هذه المبالغ صادمة لشعب أدت الحكومات المتعاقبة إلى إفقاره، بينما كانت الأغلبية البرلمانية من مثل هذه الأحزاب تسن القوانين التي أدت لهذا الشكل”.

ومن هنا، فإن النتيجة مباشرة ومدمرة، كما يقول: “المواطن يعزف عن المشاركة لأنه اكتشف أن مقعد البرلمان للبيع، وأن صوته لا قيمة له”.

هذا التحول في دور النائب هو ما يخشاه كرم عبد الحليم النقابي العمالي والمرشح عن دائرة الإسماعيلية، الذي يرى أن البرلمان يجب أن يكون ممثلًا “لكل فئات الشعب، لا ساحة لمن يدفع الملايين”. ويحذر من أن “من يدفع الملايين لن يخدم الناس، بل سيخدم مصالحه، وسيضاعف الفساد ليعوض ما أنفقه، ولن يصبح البرلمان للشعب، بل يبقى برلمان الساحل الشمالي”.

كرم عبد الحليم المرشح المحتمل لمجلس النواب 2025 - تصوير طارق وجيه - فكر تاني
كرم عبد الحليم المرشح المحتمل لمجلس النواب 2025 – تصوير طارق وجيه – فكر تاني

التأثير لا يتوقف عند خدمة المصالح الشخصية، بل يمتد إلى طبيعة التشريعات التي تصدر عن برلمان كهذا. أشرف عبد الونيس المرشح عن حزب العيش والحرية (تحت التأسيس)، يوضح هذا فيقول إن تحكم المال السياسي “سينعكس على الشعب بالمعاناة، نتيجة القوانين التي يشرعها هؤلاء النواب القادمون بالمال”.

أشرف عبد الونيس
أشرف عبد الونيس
حامد جبر
حامد جبر

ويضيف أن هذه الأموال، سواء كانت تحت مسمى “تبرع للحزب أو غيره”، ستؤدي حتمًا إلى “تشريع قوانين تخدم الرأسمالية، تزيد مكاسب أصحاب الأموال، وتزيد الفقراء فقرًا”.

وفي شهادة تجمع بين الأبعاد الأخلاقية والقانونية، يصف حامد جبر العضو المؤسس بحزب الكرامة، هذه الظاهرة بأنها “جريمة أخلاقية قبل أن تكون قانونية”، لأنها تجعل النائب “يتخلى تمامًا عن دوره في الرقابة والتشريع” من أجل تعويض ما دفعه.

الانتخابات بالإيمان.. “الكرسي ينادي صاحبه”

بعيدًا عن لغة الأرقام والحسابات السياسية، وضجيج التحالفات والمؤتمرات الانتخابية، يقدم الدكتور حسن هجرس مرشح حزب الجيل الديمقراطي، رؤية مغايرة لما سبق.

حسن هجرس
حسن هجرس

في حديثه لـ فَكّر تاني، يرى هجرس أن مفتاح الوصول للبرلمان ليس في الجيب، بل في القلوب. يقول: “المطلوب من المرشح حب الناس، وتواجده بين أهله، وأن يكون له شغل حقيقي على الأرض”.

ويختتم رؤيته بلمسة إيمانية، موضحًا أن على المرشح أن يكون صادقًا مع الناس ومع خالقه، ففي النهاية “اللي ربنا كاتب له إنه يدخل المجلس هيدخل، ومكتوبة من قبل ما يتولد كمان. مش بالفلوس ولا بالمؤامرات، ولكن بالسعي وبأن يكون ربنا مسخرلك الطريق ده”.

“فقراء ولكن شرفاء”.. مواجهة أخيرة في غياب الرقابة

في مواجهة هذا الطوفان المالي، كيف يمكن خوض المعركة؟ يقدم الدكتور زهدي الشامي مرشح حزب التحالف الشعبي الاشتراكي والقيادي بالحركة المدنية، ما يشبه “بيان المبادئ” لهذه المواجهة. يقول لـ فَكّر تاني: “نحن نخوض الانتخابات بأسلوب حملة الفقراء الشرفاء، وهذا أسلوب مختلف جدًا. نحن لا ننافسهم في الإنفاق المالي، وإذا كانوا هم يستطيعون منافستنا في حب الوطن والشعب والدفاع عن مصالحه فليتفضلوا، ولكن فاقد الشيء لا يعطيه”.

الدكتور زهدي الشامي رئيس مجلس أمناء حزب التحالف الشعبي الاشتراكي - تصوير هيثم محجوب - فكر تاني
الدكتور زهدي الشامي رئيس مجلس أمناء حزب التحالف الشعبي الاشتراكي – تصوير هيثم محجوب – فكر تاني

هذا التحدي الأخلاقي يصطدم بواقع مرير قوامه مرض متجذر في الحياة السياسية المصرية، مرض يزداد شراسة في ظل غياب شبه كامل للرقابة والمحاسبة.

ويذكّر الشامي بأن الاتهامات الحالية ليست جديدة، بل هي صدى لما حدث في انتخابات 2015 و2020. ويشير إلى وقائع سابقة حين “تقدم أعضاء في حزب مستقبل وطن ببلاغ للنائب العام بأقوال مشابهة”، وحين ثار جدل واسع حول مرشح أقر بدفع 8 ملايين جنيه، بينما اكتفى الحزب آنذاك بنفي العلاقة بين التبرع والترشيح.

ويرى الشامي أن المشكلة الحقيقية تكمن في أن هذه “التساؤلات الكبيرة حول تأثير رأس المال والفساد السياسي تظل دائمًا بلا إجابات قاطعة”، في غياب أي تحقيق جاد من جهات مستقلة.

ويختتم القيادي بالحركة المدنية بتحذير شامل، موضحًا أن هذه الاتهامات ليست سوى “جانب واحد من ظاهرة المال السياسي، الذي يسعى بقوة للسيطرة على مقاعد البرلمان”. ويضيف بأسف أن “تزايد حجم الإنفاق والرشاوى الانتخابية بشكل فلكي” في ظل الغياب الكامل لنظام الإشراف والمحاسبة، يمكّن من “شراء أصوات ملايين الفقراء”.

وهكذا، يخلص الشامي إلى نتيجة قاتمة، وهي أن كل هذه الظواهر مجتمعة “تقوّض بشدة أسس أي ممارسة ديمقراطية حقيقية في مصر”.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة