المساءلة المعلّقة: قراءة في عجز البرلمان عن محاسبة الحكومة (2-2)

ظهر دستور 2014 في سياق موجة ارتدادية هدفت إلى احتواء الزخم الثوري الذي انطلق منذ يناير 2011. فبينما بدا أن مصر في طريقها لتأسيس “جمهورية ثانية” أكثر تعددية، سعت السلطة إلى إعادة إحكام السيطرة الأمنية والسياسية عبر بناء مؤسسات دستورية صيغت تحت سقف استقرار وبقاء الحكم لا تحت منطق التنافس الديمقراطي.

اقرأ أيضًا: المساءلة المعلّقة: قراءة في عجز البرلمان عن محاسبة الحكومة (1-2)

 2. الجمهورية الثانية وتحييد البرلمان: كيف صادرت البيئة السياسية أدوات الرقابة البرلمانية؟

هذا السياق جعل البيئة السياسية غير مواتية لتفعيل النصوص التقدمية التي حملها الدستور، خصوصًا ما يتعلق بالرقابة البرلمانية والفصل بين السلطات، إذ هيمنت ضرورات الضبط الأمني وإعادة ترتيب النظام السياسي على حساب تأسيس عملية تنافسية حقيقية أو فضاء برلماني مستقل قادر على ممارسة دوره.

2.1- تجفيف التنافسية السياسية عبر التضييق على المعارضة

منذ 2013 أخذت الدولة المصرية في إعادة تشكيل المجال السياسي واستعادت القواعد القديمة التي تأسست عليها جمهورية يوليو الأولى منذ إعلان الجمهورية في يونيو 1953  وهي القواعد التي تم استعادتها بشكل تدريجي في 2013 و2014 على نحو جعل المعارضة جزءًا من معادلة أمنية أكثر من كونها عنصرًا طبيعيًا في عملية تداول السلطة.

الحركة المدنية الديمقراطية (أرشيفية - وكالات)
الحركة المدنية الديمقراطية (أرشيفية – وكالات)

فقد سارت الاستراتيجية الرسمية في اتجاه ربط النشاط السياسي السلمي بتهديد الأمن القومي، من خلال توسع تشريعي شمل قوانين مكافحة الإرهاب لسنة 2015 وقانون الجرائم الإلكترونية لسنة 2018، التي صيغت بعبارات فضفاضة تسمح بتجريم الانتقاد أو التعبير عن الرأي باعتباره “نشر أخبار كاذبة” أو “انضمامًا إلى جماعة محظورة”, بهذا المعنى، أُعيد تعريف المعارضة لا باعتبارها مكوّنًا من مكونات التعددية، بل باعتبارها تهديدًا محتملًا لاستقرار الحكم يُستدعى لمواجهته منطق الطوارئ.

الأحزاب نفسها كانت في صميم هذه العملية. فقد، واجهت أحزاب مثل الدستور والكرامة والتحالف الشعبي وتيار الأمل ومصر القوية والوسط والعيش والحرية، وغيرها تضييقًا ممنهجًا شمل منع أنشطة ميدانية، وإغلاق مقار، واعتقالات استهدفت الكوادر التنظيمية. هذا التآكل التنظيمي لم يكن عرضيًا، بل رافقه ضخ إعلامي ومؤسسي لصالح أحزاب موالية للدولة حيث استبدلت الجمهورية الجديدة الصيغة القديمة للحكم (تنظيم أو حزب حاكم واحد مثل الاتحاد الاشتراكي أو الحزب الوطني) بصيغة أحزاب موالية متعددة تخدم نفس الهدف، والذين سرعان ما تحوّلوا لبدائل وظيفية للحزب الوطني الديمقراطي السابق، ليقدموا صورة “التعددية” دون منافسة حقيقية.

أظهر تمرير قانون الإيجار القديم في يوليو 2025 كيف يعمل البرلمان كأداة لتمرير الرغبات الحكومية حتى في القوانين الأكثر جدلاً اجتماعيًا واقتصاديًا.

السردية الرسمية دعمت هذا التوجه بإطار تبريري يصوّر المعارضة كأداة في “حروب الجيل الرابع” أو كجزء من حملات تستهدف “إضعاف الجبهة الداخلية بذلك جرى إقناع الرأي العام بأن القمع ليس مجرد صراع على السلطة، بل معركة لحماية الدولة ذاتها. هذه السردية سمحت بتبرير حزم من الممارسات التي لم تقتصر على تقليص المساحات السياسية، بل امتدت لتجريم المعارضة، فبات الانخراط الحزبي المستقل والمعارض فعلًا عالي التكلفة قد يؤدي إلى السجن أو الملاحقة القضائية.

النتيجة المباشرة لهذه السياسات كانت تجفيف التنافس الحزبي وتفريغ البرلمان من أي قدرة على التعددية الفعلية. الأحزاب المعارضة صارت شبه معطلة، بلا أدوات تنظيمية أو قواعد جماهيرية، فيما تركزت المقاعد في يد قوى موالية لا تتنافس في البرامج والسياسات بقدر ما تتسابق على إعلان الولاء للدولة. وهكذا تعطلت إمكانات الرقابة البرلمانية التي نص عليها دستور 2014، لأن البرلمان وجد نفسه في معادلة سياسية بلا معارضة مؤسسية قادرة على تفعيل هذه النصوص أو اختبارها.

البرلمان المصري، رغم ما حملته الدساتير المتعاقبة من نصوص واضحة بشأن مسؤوليته السياسية في مساءلة الحكومة، ظل أسير معادلة هيمنة السلطة التنفيذية على المجال السياسي.

2.2- هندسة العملية الانتخابية

لم يقتصر تضييق المجال السياسي بعد 2014 على ملاحقة المعارضين وتجريم نشاطهم، بل امتد إلى تصميم قواعد اللعبة الانتخابية بما يضمن نتائج محددة مسبقًا. فجاء النظام الانتخابي عقب دستور 2014 ليعكس فلسفة ترى في التعددية تهديدًا لا إثراءً. أبرز أدوات هذه الهندسة اعتماد القائمة المغلقة المطلقة، أو نظام “الفائز يحصد كل شيء”، الذي ألغى التمثيل النسبي وحوّل الانتخابات إلى سباق محسوم لصالح قوائم مدعومة من أجهزة الدولة. هذه الآلية أغلقت أبواب البرلمان أمام المعارضة، إذ إن فوز قائمة كان يعني استحواذها على جميع المقاعد دون تمثيل للأقليات السياسية، ما أفقد المجلس أي تنوع.

أحمد قناوي وعلاء عبد النبي القياديين البارزين في حزبي العدل والاصلاح والتنمية في اجتماع القائمة الوطنية بحزب مستقبل وطن - مواقع التواصل الاجتماعي
أحمد قناوي وعلاء عبد النبي القياديين البارزين في حزبي العدل والاصلاح والتنمية في اجتماع القائمة الوطنية بحزب مستقبل وطن – مواقع التواصل الاجتماعي

منذ 2014، خضع النظام الانتخابي لسلسلة تعديلات على قوانين الانتخابات ومجلس النواب (القانون 46 لسنة 2014؛ القانون 45 لسنة 2014؛ القانون 92 لسنة 2015؛ تعديلات 2019؛ تعديلات قانون 2020) أدت إلى إعادة هيكلة المقاعد وآليات الانتخاب. أبرز التعديلات شملت رفع عدد مقاعد المجلس إلى 568، تخصيص 25% منها للمرأة، منح الرئيس سلطة تعيين 5% من الأعضاء، وإعادة إنشاء غرفة عليا باسم مجلس الشيوخ تضم 300 عضوًا يعيّن الرئيس 10% منهم. كما أُقر نظام مختلط يقوم على القائمة المطلقة المغلقة بالمناصفة مع المقاعد الفردية. هذه الترتيبات أثارت جدلاً حول تهميش المعارضة، إضعاف التعددية الحزبية، التوزيع الجغرافي غير العادل، وتعزيز تبعية البرلمان للسلطة التنفيذية على حساب دوره الرقابي.

انتخابات برلماني 2015، و2020 جسّدت نمطًا ممنهجًا لإدارة المجال السياسي؛ إذ أظهرت تقارير أن أحزاب الموالاة نسّقت مع أجهزة أمنية في الترشيحات وتمويل الحملات، ما يعكس استراتيجية متصلة تهدف لمنع تشكّل أي كيان سياسي مستقل بذريعة مواجهة الإرهاب أو “المتسللين”. في هذا السياق، تولى جهاز الأمن إدارة المشهد الانتخابي برمته: من تعديل القوانين وانتقاء المرشحين إلى توجيه الموارد وتنسيق الدعم المالي مع رجال الأعمال. النتيجة كانت عملية سياسية مغلقة الشكل، مفتوحة فقط لمصالح النظام، جعلت البرلمان واجهة تمثيلية خاضعة للهندسة الأمنية.

ضمن هذا السياق ظهر “ائتلاف تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين” (2018) كممر رسمي لإدماج جيل جديد فيما يمكن ان نسميه “معارضة آمنة”؛ إذ جاء تأسيسه بتوصية من المؤتمر الوطني للشباب، عقب مبادرة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لتنمية الحياة السياسية. دمج هذا الكيان أحزاب معارضة مع أحزاب موالية فيما يظهر شكل من أشكال التعددية تحت إدارة أجهزة الدولة، إلا أن هذه التعددية بقيت شكلية، بما يعكس رغبة للدولة في صناعة معارضتها بنفسه.

إلى جانب ذلك، شكّل العامل المالي ركيزة حاسمة في هندسة المشهد الحزبي؛ إذ جرى التضييق على مصادر تمويل الأحزاب المعارضة، في حين فُتحت أمام الأحزاب الموالية قنوات تمويل واسعة عبر رجال أعمال وشبكات اقتصادية تسعى إلى النفوذ السياسي، الأمر الذي مكّنها من السيطرة على الحملات الانتخابية وترسيخ هيمنتها داخل البرلمان، ما أعاد إنتاج نموذج “الحزب الحاكم” لكن في صورة تحالف من أحزاب موالية أكدت أن توزيع المقاعد تم بالتنسيق مع أجهزة سيادية، بما يضمن أغلبية مطلقة لأحزاب الموالاة مع ترك مساحات هامشية لوجوه محسوبة كمعارضة مقبولة.

2.3 الأحزاب الممثلة في البرلمان

أ.  هيمنة أحزاب الموالاة

منذ برلمان 2015، برز حزب مستقبل وطن كقوة رئيسية وعزز مكاسبه كحزب اغلبية في برلمان 2020، ب 315 مقعد بنسبة تزيد عن 55% متحولًا بسرعة من حزب هامشي إلى كيان يسيطر على أغلبية المقاعد. تلاه أحزاب أعلنت مواقف موالية للنظام مثل أحزاب “الشعب الجمهوري “،”حماة الوطن”، “مصر الحديثة”، “المؤتمر”، “الحرية”.

هذا الصعود لم يكن نتاج تنافس سياسي طبيعي، بل جاء مدعومًا بموارد مالية ضخمة، وتنظيم مركزي محكم، وعلاقات مباشرة مع أجهزة الدولة. وبمرور الوقت، تحول هذه الأحزاب إلى نسخ مختلفة الأسماء من “الحزب الوطني الجديد” من حيث الهيمنة على البرلمان، وصياغة التشريعات بما يتماشى مع أولويات السلطة التنفيذية.

ب. تغييب المعارضة المؤسسية

تكشف البيانات عن محدودية التمثيل البرلماني؛ إذ لم ينجح سوى 13 حزبًا من أصل 36 خاضت الانتخابات في الوصول إلى البرلمان. ورغم اعتماد النظام الانتخابي على صيغة تجمع بين الفردي والقوائم، فإن 8 أحزاب فقط تمكنت من دخول البرلمان عبر النظامين، القائمة والفردي منها مستقبل وطن، الشعب الجمهوري، الوفد، حماة وطن، مصر الحديثة، المؤتمر، الحرية، التجمع.

وكلها أحزاب أعلنت مواقف موالية للنظام ومتماهية مع سياساته، بينما اقتصرت 4 أحزاب أخرى على دخول البرلمان داخل القائمة الموحدة المدعومة من الدولة (الإصلاح والتنمية، المصري الديمقراطي، إرادة جيل، العدل) في المقابل، لم يصل عبر النظام الفردي سوى حزب واحد فقط هو النور (قنديل، 2023).

هذا التوزيع يعكس خللاً واضحًا في قدرة الأحزاب على التنافس ويؤكد استمرار تحكم النظام الانتخابي في صياغة المشهد البرلماني.. فبدلاً من لعب دور الوسيط بين الشارع والدولة، اختارت معظم الأحزاب الممثلة في البرلمان التموضع كمجرد أذرع للسلطة التنفيذية.

ج. القائمة الوطنية الموحدة- علاقة تبعية بين الحكومة والمعارضة

عبرت السلطة عن فلسفتها التي تميل إلى تقويض التنافسية حين أعلن الرئيس السيسي عن رغبته في أن تخوض الأحزاب السياسية (المتنافسة) الانتخابات في قائمة وطنية موحدة. وهو ما حدث في انتخابات 2015 بفوز ما يعرف بقائمة “في حب مصر” بكل المقاعد المخصصة للقوائم. وفوز القائمة “الوطنية من أجل مصر” بنفس الشكل في انتخابات 2020.

القائمة الوطنية الموحدة - مواقع الكترونية
القائمة الوطنية الموحدة – مواقع الكترونية

كما أسلفنا فأن أحزاب المعارضة الممثلة في مجلس نواب 2020-2025 قد حصلت على مقاعدها بالمشاركة بالقائمة الموحدة المدعومة من الدولة. هذا النمط من توزيع المقاعد داخل قائمة “وطنية” قيد استقلالية هذا الأحزاب إذ باتت حريصة على الحفاظ على نصيبها داخل القوائم المدعومة أكثر من ممارستها لدور رقابي فعّال.. بعبارة أخرى، أقامت القائمة الموحّدة علاقة تبادل مصالح وثيقة وكذلك علاقة تبعية بين الأحزاب المنضوية فيها وأجهزة الدولة، وهو ما حدّ من قدرة هذه الأحزاب على مراقبة الحكومة، فضلاً عن ممارسة أدوات أقوى مثل سحب الثقة.

ظهر “ائتلاف تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين” (2018) كممر رسمي لإدماج جيل جديد فيما يمكن ان نسميه “معارضة آمنة”؛ إذ جاء تأسيسه بتوصية من المؤتمر الوطني للشباب

2.4.  تفريغ الأدوات الرقابية

منح دستور 2014 ولائحة مجلس النواب 2016 ثمانية أدوات أساسية للرقابة البرلمانية (مرعي 2019)، وهي:

1- سحب الثقة من الحكومة (المسؤولية السياسية) وكذلك نص الدستور على الحق في سحب الثقة من الرئيس وفقا لشروط معينة.

2- الاستجواب وهو حق توجيه استجواب لرئيس مجلس الوزراء او الوزراء لمحاسبتهم في اختصاصاتهم

3- لجان التحقيق البرلماني وتقصي الحقائق وهو حق البرلمان في التحقيق في موضوع عام لتقصي حقائقه أو فخص نشاط أحد الجهات العامة.

اجتماع برلماني لمناقشة ابعاد قانون الايجار القديم
اجتماع برلماني لمناقشة ابعاد قانون الايجار القديم

4- طلبات المناقشة العامة المقدمة من عشرين عضو لاستيضاح سياسيات الحكومة حول موضوع ما.

5- الأسئلة البرلمانية بمعنى توجيه سؤال للحكومة حول موضوع يدخل في اختصاصاتها.

6-    الاقتراحات برغبات أو بقرارات   حيث يحق لكل عضو من أعضاء البرلمان إبداء رغبات للحكومة في موضوعات عامة.

7- لجان الاستطلاع المواجهة وهي اجتماعات استطلاع ومواجهة علنية بمقر المجلس، أو خارجه عند الحاجة، ویدعى لحضورها ممثلو أجهزة الدولة والمتخصصون من ذوي الخبرة والشخصيات العامة ، کما یحضرها کل من له مصلحة من المواطنين أو الهيئات والأشخاص المعنوية.

8- متابعة شؤون الإدارة المحلية.

بفعل هيمنة التركيبة الحزبية الموالية للحكومة على المجلس، تراجعت الأدوات الرقابية الأكثر صدامية؛ فقد قُدّم 13 استجواباً في الفصل التشريعي (2015–2020) سقطت جميعها دون استكمال، بينما غابت الاستجوابات في الفصل التشريعي الثاني (2020–2025) إلا محاولات لم تكتمل، مثل استجواب تم حفظه بعد محاولتين لتقديمه في يناير وفبراير 2021 حول مسؤولية الحكومة عن تصفية شركة الحديد والصلب المصرية بحلوان.  ومحاولة استجواب لوزير الإعلام إسامة هيكل في مارس 2021 سقط بعد استقالة الوزير،. ومحاولة ثالثة في ديسمبر من نفس العام لم تكتمل أيضا لاستجواب وزير التنمية المحلية حول اهدار المال العام في صفقة بيع أحد الفنادق.  ونية لم تكتمل في أغسطس 2023 بتقديم استجواب سبب تأخير صرف تعويضات نزع الملكية للمنفعة العامة.  ومحاولة لم تكتمل في أكتوبر 2023 حول مسابقات تعيين المعلمين. وهو تحول لافت في الثقافة البرلمانية يعكس رغبة متزايدة في عدم الصدام مع السلطة التنفيذية حتى ولو بشكل اجرائي.

مجلس النواب

كما اقتصر استخدام لجان تقصي الحقائق على لجنة وحيدة في الفصل التشريعي (2015-2020) حول وزارة التموين، كما غابت لجان الاستطلاع والمواجهة. (قنديل، 2023).

أما أداة سحب الثقة (المسؤولية السياسية للحكومة) فقد غابت تماماً حتى كمجرد موضوع للنقاش، إذ جرى التعامل معها كـ “تابو” سياسي محظور الاقتراب منه.. هذا الانحسار الرقابي عكس تماهي البرلمان مع سياسات الحكومة، فبات أقرب إلى أداة لإقرار سياساتها منه إلى مؤسسة رقابية عليها.

يمكن القول إن العوامل الثلاثة – تجفيف التنافسية السياسية عبر قمع المعارضة، والهندسة المسبقة للعملية الانتخابية، وتماهي الأحزاب مع السلطة داخل البرلمان – لم تكن مسارات متوازية فحسب، بل حلقات متشابكة في بنية واحدة. فالقمع الأمني والسياسي أفرغ الساحة من بدائل حقيقية، بينما صمّم النظام الانتخابي لضمان نتائج محسومة سلفًا، لتأتي الأحزاب الممثَّلة في البرلمان بوصفها انعكاسًا لإرادة السلطة لا لإرادة الناخبين. بهذا، يصبح البرلمان مؤسسة محكومة مسبقًا بحدود ضيقة للحركة، عاجزًا عن تفعيل أدواته الرقابية التي نصّ عليها الدستور، ومفرغًا من جوهر وظيفته التمثيلية.

انتخابات برلماني 2015، و2020 جسّدت نمطًا ممنهجًا لإدارة المجال السياسي

3-    دراستا حالة في برلمان ما بعد 2014: من الرقابة إلى التمرير

تكشف دراسة حالتي التصويت على اتفاقية تيران وصنافير وقانون الإيجار القديم عن نمط متكرر في عمل البرلمان المصري بعد 2014؛ إذ تتجلى فيه ثلاث آليات حاسمة: انحياز رئاسة المجلس للتوجه الحكومي، وسيطرة الأغلبية الموالية على تمرير السياسات، وتقييد آليات النقاش والتصويت. ومن خلالهما يمكن فهم كيف تحوّل البرلمان من مؤسسة رقابية إلى أداة تمرير للسلطة التنفيذية.

3.1. جلسة التصويت على اتفاقية تيران وصنافير: اختبار لدور البرلمان

مثّلت جلسة 14 يونيو 2017 للتصويت على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية لحظة كاشفة لحدود الدور الرقابي لمجلس النواب.  فقد كشفت تمرير الاتفاقية ثلاث اليات حاسمة في السيطرة الحكومية على الدور الرقابي للبرلمان وهي: انحياز رئاسة المجلس بوضوح للتوجه الحكومي، وسيطرة الأغلبية الموالية بشكل لا يعكس انقسام الشارع وجدلية الاتفاقية، وتقييد آليات التصويت.

أولا: انحياز رئاسة المجلس

فقد بدا انحياز رئاسة المجلس واضحًا في ابداء أراء قطعية عن الاتفاقية وأنها تأتي بمباركة أجهزة الدولة في توجيه ضمني للنواب. كما رفض الدكتور علي عبدالعال رئيس المجلس الاستجابة لطلب قانوني من نحو سبعين نائبًا بالتصويت بالاسم، متجاهلًا نص المادة 325 من اللائحة الداخلية، وهو ما قيّد حق النواب في تسجيل مواقف فردية.

ثانيا: سيطرة الأغلبية

كشفت الجلسة عن سيطرة الأغلبية الموالية للحكومة، حيث تحركت كتل مثل “ائتلاف دعم مصر” و”المصريين الأحرار” و”حزب النور” لتأمين تمرير الاتفاقية، ولم يتمكن ممثل كتلة حزب الوفد من القاء كلمته. في مقابل محدودية تأثير الكتل المعارضة، وعلى رأسها تكتل 25–30، بما عكس التوجهات الحكومية أكثر مما عكس الانقسام الفعلي في الشارع حول الاتفاقية.

ثالثا: تقييد إجراءات التصويت

 عقدت لجنة الشئون الدستورية والتشريعية 4 جلسات فقط لنظر الاتفاقية. أما على مستوى الإجراءات، فقد استغرقت المناقشة في الجلسة العامة ساعتين وهو زمن قياسي حد من زمن التداول والمناقشة بشكل كبير. كما اعتمدت الرئاسة على آليات تصويت مقيَّدة—منها التصويت وقوفًا بدلًا من الآليات الأكثر شفافية  مثل التصويت الإليكتروني أو بالاسم، ومن دون حصر دقيق لعدد الحاضرين—الأمر الذي عجّل بتمرير القرار ومنع توثيق معارضة ملموسة.

تكشف هذه العناصر مجتمعة أن البرلمان مارس دورًا أقرب إلى أداة تمرير لرغبات السلطة التنفيذية، بدلًا من كونه سلطة رقابية تعبّر عن التعدد داخل المجتمع، وهو ما يعكس نمطًا مؤسسيًا يجعل إدارة القضايا الخلافية داخل البرلمان انعكاسًا لميزان القوة بين الأجهزة التنفيذية والأغلبية الموالية، أكثر منه تجسيدًا للنقاش العام أو الانقسام المجتمعي.

اقرأ أيضًا: ورقة بحثية: البرلمان يعكس توازنات مسبقة التصميم لا تعبر عن الناخبين

3.2. قانون الإيجار القديم – تمرير حكومي في قضية جدلية

أظهر تمرير قانون الإيجار القديم في يوليو 2025 كيف يعمل البرلمان كأداة لتمرير الرغبات الحكومية حتى في القوانين الأكثر جدلاً اجتماعيًا واقتصاديًا. ينص القانون على إنهاء العقود السكنية خلال سبع سنوات والتجارية خلال خمس سنوات، مع زيادات كبيرة في القيمة الإيجارية: 20 ضعفًا للوحدات في المناطق المتميزة (بحد أدنى 1000 جنيه)، 10 أضعاف في المتوسطة (بحد أدنى 400 جنيه)، و5 أضعاف لغير السكنية، مع زيادة سنوية 15% خلال الفترة الانتقالية. ورغم محاولة الحكومة طمأنة النواب بالحديث عن بدائل مثل الإيجار المدعوم أو التمويل العقاري، اعتبر نواب أن هذه البدائل غير واقعية اقتصاديًا لمعظم المستأجرين.

دافعت الحكومة عن قانون الايجار القديم في جلسات مجلس النواب بينما تمريره خلف أزمة كبيرة - مواقع التواصل الاجتماعي
دافعت الحكومة عن قانون الايجار القديم في جلسات مجلس النواب بينما تمريره خلف أزمة كبيرة – مواقع التواصل الاجتماعي

أولًا: انحياز رئاسة المجلس

تضامن 25 نائبًا في الجلسة العامة لتعديل المادة الثانية المثيرة للجدل، التي تنص على إنهاء العقود السكنية بعد سبع سنوات، وقدموا مقترحات بديلة، غير أن مناقشتها جاءت محدودة، ولم تُمنح المعارضة مساحة كافية لعرض رؤيتها أو الحشد لمقترحاتها.

ثانيًا: سيطرة الأغلبية على تمرير الرغبات الحكومية

تحركت الكتل الموالية، لتمرير القانون رغم الانقسام الحاد في الشارع بين الملاك والمستأجرين. بينما انسحب نواب من أحزاب معارضة إلى جانب مستقلين، لم يوقف ذلك تمرير القانون، بما يعكس قدرة الأغلبية على تمرير أجندة الحكومة بغض النظر عن الانقسامات الشعبية.

مثّلت جلسة 14 يونيو 2017 للتصويت على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية لحظة كاشفة لحدود الدور الرقابي لمجلس النواب

ثالثًا: تقييد آليات المناقشة والتصويت

رغم أن جلسة اليوم السابق أُرجئت لغياب إحصاءات دقيقة عن عدد المستأجرين أو خطة بديلة للإسكان، فإن الجلسة النهائية مرّت سريعًا دون مناقشة جوهرية للتعديلات. حتى المقترحات التي طالبت باستثناء المستأجر الأصلي وأسرته من إنهاء العلاقة الإيجارية لم تُطرح للنقاش. هذا التقييد عكس إرادة برلمانية لتسريع التصويت وإغلاق الجدل بدلًا من البحث عن توازن عادل بين الملاك والمستأجرين.

مثلما حدث في جلسة تيران وصنافير، تكشف حالة قانون الإيجار القديم عن ثلاث سمات متكررة: انحياز رئاسة المجلس، سيطرة الأغلبية الموالية على تمرير التوجهات الحكومية، وتقييد آليات التصويت والمناقشة. وفي كلتا الحالتين لم يعكس البرلمان الانقسام الفعلي في الشارع، بل انحاز لرغبات الحكومة، مؤكدًا أن وظيفته الأساسية باتت تمرير السياسات التنفيذية أكثر من ممارسة رقابة مستقلة.

4-    خاتمة واستنتاج

تكشف الدراسة أن البرلمان المصري، رغم ما حملته الدساتير المتعاقبة من نصوص واضحة بشأن مسؤوليته السياسية في مساءلة الحكومة، ظل أسير معادلة هيمنة السلطة التنفيذية على المجال السياسي. وظلت حادثة 1882 باستقالة الحكومة استجابة لضغوط البرلمان حادثة معزولة واستثناء غير قابل للتكرار. فالنصوص لم تُترجم إلى واقع مؤسسي بسبب بيئة سياسية صيغت تاريخيًا لتضع البرلمان في موقع التابع لا الشريك. منذ مجلس شورى النواب (1866) مرورًا بدستور 1923، ودساتير الجمهورية الأولي من 1956 إلى 1971 وأخيرا دستور الجمهورية الثانية 2014 وتعديلاته في 2019، تراكمت تقاليد برلمانية، إما مدعومة بالنص الدستوري أو مناقضة له، رسّخت أولوية السلطة التنفيذية في تشكيل المشهد وإفراغ الأدوات الرقابية من مضمونها.

 تصميم سلمى الطوبجي - فكر تاني
تصميم سلمى الطوبجي – فكر تاني

المحور السياسي يفسّر هذه المفارقة. فالتجفيف الممنهج للتنافسية عبر تضييق المعارضة، والهندسة المسبقة للعملية الانتخابية، وتموضع الأحزاب الموالية داخل البرلمان، كلها جعلت المؤسسة النيابية انعكاسًا لتوازنات مصممة مسبقًا، لا تعبيرًا عن إرادة الناخبين. وبذلك، فإن النصوص الدستورية التي منحت البرلمان حق مساءلة الحكومة أو حتى رئيس الجمهورية نفسه، تحولت إلى نصوص معلّقة، تُستخدم كواجهة لإضفاء الطابع المؤسسي دون أن تُمارس فعليًا.

إن عجز البرلمان المصري عن ممارسة الرقابة هو نتاج تفاعل مزدوج: من جهة، تراكم تاريخي لثقافة سياسية رسّخت أولوية السلطة التنفيذية، ومن جهة أخرى، بيئة سياسية وأمنية في الجمهورية الثانية جففت مصادر التعددية وأعادت تشكيل المجال الحزبي ليخدم مشروع الدولة لا التمثيل الشعبي. ومن هنا، فإن أي نقاش جاد حول مستقبل الرقابة البرلمانية في مصر لا ينبغي أن يقتصر على تعديل النصوص، بل يتطلب تغييرًا في البنية السياسية التي تحتكر إنتاج المؤسسات ذاتها.

المراجع

المراجع العربية

  • أبو ريدة، محمد علي. الوظيفة السياسية لمجلس النواب في دستور جمهورية مصر العربية المعدل الصادر في 18 يناير 2014. ورقة بحثية منشورة، قطاع البحوث البرلمانية، مجلس النواب المصري، مارس 2015.
  • الرافعي، عبد الرحمن. الزعيم الثائر أحمد عرابي. القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2020. [الطبعة الأولى 1952].
  • الدستور المصري لعام 1923. ConstitutionNet. تاريخ الاطلاع 16 أغسطس 2025. https://constitutionnet.org/vl/item/msr-dstwr-alam-1923.
  • الدستور المصري لعام 1956. ConstitutionNet. منشور في الوقائع المصرية، 16 يناير 1956، العدد 5. تاريخ الاطلاع 16 أغسطس 2025. https://constitutionnet.org/vl/item/msr-dstwr-am-1956-walmnshwr-fy-jrydt-alwqay-almsryt-fy-16-kanwn-althanyynayr-1956-aldd-5.
  • دستور جمهورية مصر العربية لعام 1971. منشورات قانونية. 12 يوليو 1971. تاريخ الاطلاع 16 أغسطس 2025. https://manshurat.org/node/1688.
  • دستور جمهورية مصر العربية (2019). Constitution Project. تاريخ الاطلاع 23 أغسطس 2025. https://www.constituteproject.org/constitution/Egypt_2019?lang=ar.
  • صدقي، إسماعيل. مذكراتي. القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2014. [صدر أول مرة 1950].
  • قنديل، عبد الناصر. الأدوات الرقابية البرلمانية: تحليل كفاءة النواب في دور الانعقاد الثالث. مركز جسور للدراسات، 2023.
  • المفوضية المصرية للحقوق والحريات. حرية افتراضية.. نحو إنهاء قمع حرية التعبير في قانون الجريمة الإلكترونية. المفوضية المصرية للحقوق والحريات، 21 مايو 2025.
  • مرعي، خليل عبد المنعم. “أدوات الرقابة البرلمانية لمجلس النواب في ظل دستور 2014 ولائحة 2016.” المجلة المصرية للعلوم السياسية، 2019.

المراجع الأجنبية

  • Amnesty International. “Egypt: Draconian Counterterrorism Law Latest Tool to Muzzle Peaceful Activists and Crush Dissent.” Amnesty International USA, July 15, 2015.
  • Eustochos Editorial Team. “Egypt’s Political Reform: A Decade of Transformation and Challenges (2011–2024).” Eustochos, August 26, 2024.
  • Freedom House. “Freedom on the Net 2018: Egypt.” Freedom House, November 2018.
  • Freedom House. Freedom in the World 2024: The Mounting Damage of Flawed Elections and Armed Conflict. Washington, DC: Freedom House, 2024.
  • Freedom House. Egypt: Freedom in the World 2024 Country Report. Washington, DC: Freedom House, 2024.
  • Human Rights Watch. “Egypt: Intensifying Crackdown Under Counterterrorism Guise.” Human Rights Watch, July 15, 2018.
  • Ikeda, M. “Independence and Constitutionalism in Egypt 1919–1922.” International Journal of Asian Studies 20 (2023): 385–401. Accessed August 17, 2025.
  • Law For Everything. Draconian Law: Understanding Its Impact on Society. June 20, 2024. Accessed August 16, 2025
  • Mandour, Maged. “Egypt’s Ideology of Repression.” openDemocracy, June 14, 2019.
  • Masterman, Roger, and Colin Murray. Principles of Political and Parliamentary Accountability. In Constitutional and Administrative Law, 287–312. Cambridge: Cambridge University Press, 2022.
  • Morsy, Ahmed. “Egypt’s Elections and Parliament: Old Habits Never Die.” The Tahrir Institute for Middle East Policy, March 26, 2021.
  • Orient XXI. “Egyptian Opposition Struggles to Overcome Its Divisions.” Orient XXI, 2019.
  • Sayigh, Yezid. “The Second Republic: Remaking Egypt Under Abdel-Fattah el-Sisi.” Carnegie Endowment for International Peace, May 2025.
  • Schmitter, Philippe C. Political Accountability in ‘Real-Existing’ Democracies: Meaning and Mechanisms. European University Institute, January 2007.
  • Völkel, Jan Claudius. “Sidelined by Design: Egypt’s Parliament in Transition.” The Journal of North African Studies 22, no. 4 (2017): 595–619.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة