صلاة القلق.. تشريح الهزيمة وأيقونات الوهم

بين اللغة العالية، والحساسية الوجودية، والرمزية السياسية المراوغة، يكتب محمد سمير ندا روايته “صلاة القلق” كأنما يخط نشيدًا جنائزيًا لوطنٍ فقد القدرة على البكاء. هذا العمل الروائي، لا يُقرأ على عجل، ولا يُصنَّف بسهولة. هو عملٌ يتلبس هيئة الرواية، لكنه في جوهره أقرب إلى مرآة ضخمة، ينظر فيها القارئ فلا يرى قصة الآخرين، بل يرى ملامحه وقد ابتلعتها الرموز، وتكثّف فيها القلق، حتى بات شخصًا خامسًا في النص، وربما بطله الوحيد.

مع فوز رواية “صلاة القلق” للروائي المصري “محمد سمير ندا” بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) لعام 2025، اشتعلت ساحة النقد الأدبي بين مؤيد يرى فيها تحفة فنية جريئة، ومعترض يتهمها بتقويض الثوابت الوطنية.

“صلاة القلق” عنوان مركب لا يخلو من التناقض الصادم. الصلاة فعل طمأنينة، والقلق نقيض لها. الصلاة عادةً ما تقدم بوصفها وسيلة للخلاص، للاتصال بالمطلق، أما هنا فهي وسيلة للتآكل، طقس من طقوس الخوف، ومفردة دينية ذات طابع وجودي تتحول إلى تعبير عن عطبٍ كلي.

بهذه المفارقة، يدشن الكاتب عمله، مانحًا القارئ منذ الصفحة الأولى مفتاحًا تأويليًا شديد الدقة في رواية لن تمنحك إجابة، بل تأخذك في رحلة مع سؤال لا يُجاب. الرواية التي رفضتها أربع دور نشر مصرية بحسب ما أفصح الكاتب، قبل أن تُنشر في تونس، تحولت إلى ظاهرة ثقافية تتجاوز الأدب إلى السياسة والهوية والذاكرة الجمعية.

هذا العمل الذي ينسج خيوطًا بين الفانتازيا والتاريخ الدامي، قدم تشريحًا لواقع عربي مثخن بالهزائم عبر قريـة مصرية معزولة تُختبر فيها حدود البشر تحت وطأة القلق الوجودي والاستبداد السياسي.

محمد سمير ندا

نجع المناسي.. 

تدور أحداث الرواية في مكان يحمل اسمًا رمزيًا: “نجع المناسي”. الاسم ذاته يحيلك إلى النسيان، إلى بقعة مهمّشة، طواها التاريخ، ولم تسجّلها خرائط الدولة إلا على سبيل الصدفة. في هذا النجع، يتكثف كل ما يُراد نسيانه من الوطن مثل: السلطة الغامضة، والدين المسلوب، والإعلام الكاذب، والفقد الجماعي، وتحوّل الإنسان إلى كائن باهت يختبئ خلف طاقية ويتمسّح ببركة شيخ.

السقوط الرمزي لحجر غريب من السماء، وتحوّل سكان النجع إلى كائنات بلا شعر، بلا حاجبين، بلا هوية تقريبًا، هو استعارة مكثفة عن كارثة وجودية –سياسية، صحية، أو حتى إعلامية– تُنزل بالمجتمع لعنةً لا تفسير لها، سوى أنها جاءت من “العلو”، من قوةٍ لا تُرى. هكذا يتحوّل الحدث الكارثي إلى تمثيل درامي لما حدث –ويحدث– في كثير من المجتمعات العربية عقب لحظة الانكسار الكبير.

هذا الحدث الفانتازي الغامض عام 1977 ليس سوى مدخل لاستعارة أعمق تبدأ بالتحول الديستوبي الذي يطال القرية التي تُعاد تسميتها لاحقًا من الصحافة “نجع المجاذيب”، فتتحول إلى مدينة معزولة، يعيش أهلها تحت وهم حرب مستمرة مع إسرائيل، بينما الحقيقة تكشف أن الحرب انتهت منذ سنوات، لم نعلم ولم يعلم مثلنا أهل النجع عن انتهائها شيئًا.

أما التحول الثاني، فتعبر عنه السلطة المستبدة المتجسدة في خليل الخوجة -التاجر والوجيه- الذي يُصدر جريدة “صوت الحرب”، والذي يتحكم بالكامل في مصير القرية عبر شائعة أطلقها وصدقها أهل القرية، وهي: أن أراضي النجع محاطة بالألغام، مانعًا أي محاولة للخروج أو التحقق من الأخبار.

وأيضًا استخدام الوباء كاستعارة مزدوجة؛ فالوباء الذي يحل على النجع لا يسلب الناس أرواحهم، بل شعر الرأس، والحاجبين، والتكوين الخارجي، كل ذلك ينهار ويتحول السكان إلى كائنات تشبه السلاحف –منكمشة، وخائفة، وخالية من التعبير.

هنا يبرز ذكاء الكاتب في تحويل تفصيلة جسدية بسيطة إلى كناية عن انسحاق الهوية؛ فالشعر الذي كان رمزًا للفردانية والقوة والجاذبية، يصبح مفقودًا، دلالة على تآكل الذات أمام الخوف الجماعي. والوباء نفسه يحمل أكثر من دلالة: دلالة سياسية على تزييف الوعي الجمعي، ووجودية على فقدان الهوية.

وما الوباء إلا تجسيد لمرضٍ أعمق وأكبر من أن يباح به، أصاب الأهالي في الصميم حتى غدا ظاهرًا للعيان، مصحوبًا بقلقٍ وخوفٍ مزمنين جعلا من الناس صُمًا بُكمًا عُميًا أمام واقعٍ لم يدركوه.

شظايا لمجتمع مشروخ

في “صلاة القلق”، لا توجد شخصيات بالمعنى التقليدي، بل توجد رموز تمشي على قدمين، كل منها يحمل دلالة سياسية أو روحية أو اجتماعية.

الشيخ أيوب

إمام المسجد، كان يمكن أن يكون وريثًا لكرامات أبيه “الشيخ جعفر” ويمثل السلطة الروحية والدينية في النجع. بينما يتجلى قلقه النابع عن العجز في صراعه الداخلي وشكوكه، خاصةً عندما تساءل عن الإله الذي “أسلم مفاتيح السماء ومصائر العباد إلى رجل مجهول الأصل مثل خليل الخوجة”.

هو بقايا وليّ سابق، يثقله عبء النبوءة التي لم تتحقق. رجل دين بلا يقين، يحاول أن يظل صورة والده الشيخ جعفر – الوليّ العائد من الموت – لكنه في الواقع لا يملك من السلطة سوى العمامة، ومن الحكمة سوى الخوف.

يعاني من أزمة إيمان وجودية، ويتحول تدريجيًا إلى رجل يعظ بما لا يؤمن به، ويستدعي معجزات لم تعد تتجلى. يمثل بذلك أزمة النخب الدينية التقليدية في مواجهة تحولات المجتمع، والعجز عن التفاعل مع الكوارث الجديدة بلغة تجديدية.

خليل الخوجة

يُمثل السلطة الدنيوية السياسية الجديدة، وهو “الممثل الرسمي لنجع المناسي”. يُقدم تفسيرًا للأحداث بأن “الشهاب” سقط من أجل “الحرب”، ويُسيطر على المعلومات من خلال “جريدة صوت الحرب”. شخصيته محاطة بالغموض (“مجهول الأصل”)، وتُثار حوله الشكوك مع تزامن هروب زوجته وإصابة ابنه بالخرس.

شخصية معقدة، تبدأ كمجهول النسب، وتنتهي كممثل رسمي للنجع، ومرجع إعلامي ديني وسياسي. يصنع جريدة من صفحة واحدة، يطبعها بلونيْ الدم والرماد، ويمرر من خلالها كل ما تريده السلطة من إشاعات وتهدئة مزيفة. تمثاله النصفي، وطفله الأخرس، وزوجته الهاربة، كلها رموز لبنية سلطوية فقدت منطقها، وتعيش على الشعارات. الخوجة هو الزعيم الذي لا يقول شيئًا، لكنه يحتكر الكلام.

نوح النحال

شخصية تراجيدية بامتياز، ينهض من ماضٍ قاهري ناصري قوامه التعذيبُ والقهرُ، ويعود إلى النجع محملًا بالعار والندم. تمثل شخصيته أزمة الإنسان العربي الذي مرّ بتجربة سحقٍ ممنهج، ثم حاول أن يعود إلى مجتمعه كأنه لم يُكسر. لكن الجرح لا يلتئم، والحرب لا تنتهي. ولده مراد هو المفقود الأكبر في الرواية، رمز الجيل الضائع بين السلطة والموت.

شخصية معارضة، تُعبر عن الرفض والغضب بعد سنوات من محاولات الادعاء وتناسي تعرضه للتعذيب والاعتقال، عندما يُعاني من فقدان ابنه “مراد” في الحرب، ويصبح صوت الحقيقة الذي يُحاول كشف تزييف السلطة، لكنه يُقابل بالاتهام بالجنون والعزلة.

قلقه هو قلق الفقد والاضطهاد في مقابل رغبته في كشف الحقيقة لاستعادة ما بقي من وجوده.

وداد (الداية)

قابلة النجع، شخصية غامضة تختفي في ظروف غير واضحة، وتُنسب إليها أعمال “السحر” و”فك المربوط”. تُجسد المعرفة الشعبية القديمة التي تُحاول فهم الظواهر الغامضة، وقد تُمثل ملاذًا لليائسين الباحثين عن حلول خارج المنطق التقليدي.

شواهي

الأنثى الغجرية ذات الحضور الحقيقي. مزيج من الرغبة والخطيئة والمقدّس المنبوذ. اختفاؤها يحيل إلى انسحاب الجمال والحرية من المشهد العام، وغيابها يُحدث شرخًا لا يُرمم. كل الشخصيات تذكرها، تلعنها، أو تتحسر عليها، لكنها لا تملك تفسيرًا لاختفائها. شواهي هي الفن، هي الحب، هي الحياة التي هجرت أرضًا لم تعد تُثمر.

تمثال مشطور لرمز مهترئ  

شخصية الرئيس السابق جمال عبد الناصر في الرواية أيقونة مُلغزة تجسد انهيار مشروع الثورة من جانب، وتناقض الذات والرمز من جانب آخر.

فهو تمثال منقسم، حيث يظهر تمثال الزعيم في باحة دار الخوجة منشقًا إلى نصفين، لا يظهر إلا ليلًا كشبح يطارد أهل القرية، كمسبب إضافي للرعب والخوف من الخروج على عتبات الحد المرسوم والمسموح.

الرواية توظف هذا الرمز من بداية الأحداث إلى نهايتها، حيث نكتشف أن التمثال لم يكن لعبد الناصر من الأساس، فتجعلنا نتساءل: “هل عبد الناصر الذي خلدته كتب التاريخ لا يشبه نفسه؟ أم أن ما تراه العيون قد لا يكون بالضرورة هو الحقيقة؟”.

حليم كسرد مستقل

استخدم الكاتب إطارًا غنائيًا للفصول، حيث تتصدر مقاطع من أغاني عبد الحليم حافظ مثل “عدَّى النهار” و”أحلف بسماها” كل فصل، مما يخلق تناصًا موسيقيًا يربط بين الزمن الروائي والذاكرة الجمعية المصرية.

الأغاني ليست خلفية زمنية في الرواية، بل جزء من نسيجها الرمزي، واختيار عبد الحليم حافظ لم يكن عشوائيًا؛ فاستخدام مقاطع من أغنيات مثل “يا كلمتي لفّي الدنيا” و”ابنك يقولك يا بطل” يحمل مفارقة مريرة. فالأغنية الوطنية تتحوّل في الرواية إلى نشيد ساخر، يرافق الهزيمة لا النصر، ويردده الصبي الأخرس حكيم، كأنما يعيد إنتاج خطابٍ فقد معناه، لكنه ما زال يُتلى.

الأغنية هنا تمثل خطاب السلطة: جذّاب، منمّق، لكنه أجوف.

وفي مقابل هذا الخطاب، يقف الواقع: شخوصٌ صلعاء، فزعٌ جماعي، ونساءٌ يحاولنَ الإنجاب في زمنٍ لا يولد فيه إلا الموت.

فالتوظيف الدلالي لما مثله عبد الحليم حافظ كمصدر وحيد للأمل عند حكيم (ابن الخوجة الأبكم) وما كانت تعنيه له هذه الأغاني في غرفته المعزولة، يتحول إلى تعليق ساخر على التناقض بين الخطاب الرسمي المتفائل وواقع القرية المنهار، إلى أن تأتي لحظة الكشف للبطل عندما يعلم بوفاة عبد الحليم حافظ، فيصبح غياب الأمل هو الدافع للتمرد والرغبة في كشف الحقائق.

القلق: صلاة سادسة للوجود العربي  

القلق في العمل ليس مجرد عارض نفسي، بل طقس وجودي متجذر، ففي صلاة الشيخ أيوب فعل ما للمقاومة وإن كانت سلبية، وطقس من المواجهة الوجودية وإن تجسد على هيئة تلاوة جماعية للهموم، حيث يبتكر الشيخ “صلاة القلق” كفعل مقاومة جماعي يدعو إليه أهل القرية، معتقدًا أن تجمع الأهالي لترديد همومهم والدعاء سيكون كتعويذة ضد الفناء، وأن تضرع الصلاة كمرادف للطمأنينة كافٍ للتخلص من القلق. هكذا اعتقد الشيخ أيوب.

إلا أن الواقع أن صلاة القلق ما هي إلا وسيلة أخرى للتطبيع معه واعتياده والإقرار بوجوده بدلًا من محاولة مقاومته والثورة عليه، وهو شكل من أشكال التدين المصري المقر بالانهزام كتقبل لواقع غير مقبول بدلًا من تفكيكه ومحاولة فهمه.

تُبرز الرواية القلق كحالة شاملة تُسيطر على الأفراد والمجتمع، وتُجبرهم على إعادة تقييم معتقداتهم ومواقفهم.

إنه قلق من الحصار الذي فرضه الوباء، ومن المجهول الذي يُحيط بمستقبلهم، ومن السلطة التي تُحاول فرض تفسيراتها الخاصة على الأحداث.

في حواره مع الجزيرة، يصف ندا القلق بأنه “الصلاة السادسة التي يصليها العرب جماعة منذ 1948″، مؤكدًا أن الهزيمة لم تكن حدثًا عابرًا بل حالة مزمنة أعادت تشكيل الوعي الجمعي.

الرواية تقدم فلسفة القلق بشكل يقترب من مقاربة الفيلسوف كيركغور، حيث يربط القلق بالحرية المتعطلة وهو السبيل لاختبار الوجود الذاتي الفردي. فنرى سكان نجع المناسي في دوامة القلق يخافون من المجهول ويحاولون الاستسلام لقدر كتب عليهم بلا رغبة منهم، وفي الوقت ذاته يرغبون في نفس هذا المجهول فهو الحل الوحيد للهرب والخلاص من الحصار.

تُعالج الرواية عدة مواضيع متداخلة تُشكل نسيجًا معقدًا من القلق وتداعياته، منها:

السلطة وتزييف الحقيقة، حيث يُظهر النص كيف تُحاول السلطة الجديدة، مُمثلة في خليل الخوجة، السيطرة على الوعي وتوجيه الرأي العام عبر تزييف الحقائق واستغلال الأزمات (الوباء والحرب).

الصراع بين الإيمان والواقع، وهو ما يتجلى في شكوك الشيخ أيوب وصراعه الداخلي بين إيمانه الديني وواقع مرير لا يجد له تفسيرًا أو حلًا.

الفقد والمعاناة الإنسانية وأهمية الذاكرة للمقاومة، حيث تُبرز الرواية معاناة الأفراد، خاصة نوح وهنادي، بسبب فقدان الأبناء في الحرب، وما يترتب على ذلك من ألم نفسي عميق، وتشير شخصية نوح إلى أهمية الذاكرة في مقاومة تزييف الواقع، حتى لو أدى ذلك إلى اتهامه بالجنون.

البناء الفني في صلاة القلق  

اعتمد أسلوب السرد في الرواية على تعدد الأصوات: ثماني شخصيات تروي الحدث نفسه من منظورات متباينة (الشيخ أيوب، شواهي، زكريا النساج…)، في نص كلوحة من فسيفساء سردية تعكس تعقيد الحقيقة.

يكتب محمد سمير ندا بلغة أقرب إلى الشعر منها إلى السرد التقليدي. جملٌ طويلة، محمولة على إيقاع صوفي. الفصحى التي يستخدمها الكاتب ليست فصحى معاصرة، بل لغة مترعة بإرث نحوي ودلالي عميق، يستدعي القرآن، والتصوف، وخطابات الزعماء، ومراثي الجدات.

هذا الخيار اللغوي يحمل بعدًا فنيًا مهمًا؛ فهو لا ينقل فقط الأحداث، بل يحوّل النص إلى تجربة لغوية كاملة. القارئ لا يتتبع الحدث بقدر ما ينغمس في الموسيقى المضمرة بين الكلمات. ورغم أن هذا قد يُثقِل أحيانًا على المتلقي غير المعتاد على هذا النمط، إلا أنه يمنح الرواية سمةً خاصة، تنقذها من الوقوع في التقريرية أو المباشرة.

فيدمج ندا بين النثر الصوفي واللغة اليومية، مستخدمًا الكثير من استعارات اللغة الشعرية في وصف البيئة والتباين بين الجماليات والفقر؛ كذلك اعتمد الزمن الدائري، حيث تبدأ الرواية وتنتهي عند الشيخ أيوب في السرد الأصلي، في بنية طقسية تشبه الصلاة، حيث تتحول الأحداث إلى دورة مفرغة من المعاناة.

تعتمد الرواية بشكل كبير على الرمزية في بناء عالمها وتكثيف معاني القلق. “الشهاب” ليس مجرد نيزك، بل هو رمز للبلاء الذي حل بالنجع، ويُشير إلى حدث كارثي غيّر مسار الحياة. “الصلع وفقدان الحواجب” يرمزان إلى فقدان الهوية والكرامة، وتجريد الإنسان من سماته المميزة تحت وطأة الوباء والخوف. “الحرب” ليست مجرد صراع عسكري، بل هي حالة وجودية تُصيب النفوس وتُغير الطباع، وتُصبح مرادفًا للقلق الدائم.

تتميز اللغة العربية في الرواية بكونها سليمة وفصيحة، مع ميل واضح نحو الأسلوب الشعري والوصف البلاغي الذي يُضفي على النص بعدًا فنيًا مميزًا. استخدام الألفاظ ذات الدلالات العميقة، والتصوير الحسي للمشاعر والأحداث كوحش يطوف بنعومة، يُعزز من تيمة القلق ويُرسخها في ذهن القارئ، ويُبرز الجانب النفسي المتعمق لهذه الحالة.

صلاة تنتظر المؤمنين

“صلاة القلق” ليست مجرد رواية عن الهزيمة، بل هي مرثية لجيل حلم بالتحرر فوجد نفسه سجين أوهامه. ندا لا يقدم إجابات جاهزة، بل يطرح أسئلة شائكة: كيف نعيد تشكيل الهوية بعد سقوط التماثيل؟ هل يمكن تحويل القلق إلى طاقة خلاقة؟ وكيف نكتب تاريخًا لا يكرر الأكاذيب؟

هي رواية عن المجتمعات العربية التي استسلمت لهزائمها، ورفعت زعماءها رغم سقوطهم، واحتفلت بتماثيل مبتورة الرأس والجسد، وكأنها لا ترى الانكسار.

الخوجة هو السلطة الإعلامية المضللة، والشيخ أيوب هو الدين التقليدي المهادن، و”صوت الحرب” هو الخطاب الرسمي الذي يجمّل القبح. الكارثة التي تحل بالنجع قد تكون هزيمة 67، أو ما بعدها، أو حتى انهيار ما بعد الثورات الحديثة. المهم ليس الحدث ذاته، بل عجز الناس عن مواجهته، وارتهانهم لخطابات الخوف والتسليم.

الجدار والعبارات السوداء والعجز

أحد أجمل مشاهد الرواية، وأكثرها رعبًا، هو ظهور عبارات سوداء على جدران النجع، لا يعرف أحد من كتبها، لكنها تصف ما يخشاه الجميع. وكأن الوعي الجمعي للمجتمع قرر أن يصرخ، بعد أن فشلت الألسنة في الكلام. هذا العنصر الدرامي يذكّر بأساطير الرعب الشعبي، لكنه في الحقيقة محاكاة بديعة لحالة الانفجار النفسي الجماعي، حين لا يجد القهر مخرجًا إلا الجدران.

وهنا يتجلّى جزء كبير من الجماليات الفنية للنص، فهو لا يتورّط في المباشرة، لكنه لا يتركك في الحيرة أيضًا. كل مشهد يحمل دلالة، وكل دلالة تُفضي إلى أخرى، كأنك تمشي في متاهة مرآوية لا تنتهي.

في النهاية، “صلاة القلق” رواية تُبشر بعمق فكري وفني، تُقدم صورة مؤلمة لواقع مُتأزم، وتُسائل مفاهيم السلطة، الحقيقة، الفقد، وتُغوص في مفهوم القلق كحالة وجودية ونفسية تُسيطر على الفرد والمجتمع. الأسلوب السردي الكثيف، واللغة الغنية بالرمزية، تجعل منها عملاً يستدعي التأمل والتفكير في أبعاد التجربة الإنسانية في مواجهة المجهول والتحولات القسرية.

“صلاة القلق” ليست رواية بالمعنى التجاري أو حتى الأكاديمي للكلمة. هي سفرٌ طويل في اللاطمأنينة، في الريبة، في هشاشة الإنسان أمام سلطة لا تُرى. لا وعد فيها بالخلاص، ولا بطل يعود من الحرب، ولا معجزة تهبط من السماء. إنها رواية عن الخوف، كتبها كاتب يعرف أن الشعوب لا تموت دفعة واحدة، بل تفقد أطرافها، ثم ملامحها، ثم تصير نسخًا باهتة من نفسها.

الرواية تستحق أن تُقرأ ببطء، وبانتباه، ومن الأفضل أن تُعاد قراءتها بعد أسابيع؛ لأن معانيها تتكشّف بمرور الوقت، وتنبض كلّما ازداد الواقع قتامة.

يضحك حكيم الأبكم -الوحيد الناجي من الوباء- وكأن صمته هو اللغة الوحيدة الممكنة في عالم فقد معناه. فشلت صلاة أيوب، ونجحت الرواية. لقد حولت القلق من مرض إلى مناعة، ومن صمت إلى صرخة تتردد في أروقة الأدب والسياسة معًا.

في “صلاة القلق”، لا يتحدث محمد سمير ندا عن نجع مهجور، بل عن أوطان كاملة هجرتها أحلامها، وباتت تصلّي، لا طلبًا للنجاة، بل خوفًا من السقوط الأخير.

نشرت الرواية عن دار مسكلياني التونسية (2024) بعد رفض 4 دور نشر مصرية، وتقع في 353 صفحة، وحققت أعلى مبيعات للروايات العربية بعد فوزها بالبوكر.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة