أنْ يُفلت عشرة مذنبين من العقاب، أفضل من أن يُعاقب برئ واحد.
مبدأ أخلاقي كلاسيكي شاع في القانون الإنجليزي منذ القرن الثامن عشر، ويعدُّ حتى اليوم حجر زاوية جميع التشريعات، في الدول التي تحترم إنسانية الإنسان، وليس “شبه الدول”.
استمد المبدأ روحه ومنطلقاته، من أفكار صاحب نظرية الحقوق الطبيعية؛ الفيلسوف الإنجليزي “جون لوك” الذي يقول: إن العدالة تقتضي حماية الأبرياء من الظلم، حتى لو كان ذلك يعني إفلات بعض المجرمين من العقاب.
والحق أن “لوك” لم يكن أول مَنْ قرر هذا المبدأ، فقبله شدد الفرنسي “إيمانويل كانت” على أن الإنسان غاية في حد ذاته، وليس من المقبول بذلك إدانة برئ حتى لو كانت الذريعة حماية المجتمع، وقبل “كانت” كان الفيلسوف والخطيب والمحامي الروماني “سيسرو” يُعرِّف العدالة بأنها حماية الحقوق الطبيعية للإنسان، في إطار ما سمَّاه “الأخلاق الفطرية”، وهي الفكرة التي اشتقت منها مبادئ حقوق الإنسان في العصر الحديث.
اقرأ المزيد عن سجال قانون الإيجار القديم ..اضغط هنا
روح القانون
هذا أصل الفكر التشريعي الذي نسميه في مصر “روح القانون”، وتلك بعض جذوره الفلسفية، لكن لا عليك ففي “الجمهورية الجديدة” لا قيمة للفلسفة والمنطق والتاريخ، ونحو ذلك من علوم إنسانية رأينا من صنوف نكد الدنيا، مَنْ يتساءل عن جدواها، ويقلل من أهميتها، وهذا من قبيل المضحكات المبكيات في المحروسة.
ولمَّا كان الحال كذلك، فلم يكن غريبًا أن نقرأ عجائب وغرائب منسوبة إلى رئيس الحكومة في تعليقه على قانون الإيجار القديم، أو تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر، سمِّهِ ما شئت.

من تلك التصريحات ما يتطرق بزهو وحبور إلى المليارات التي ستجنيها الدولة، من الضرائب العقارية، بعد إعمال القانون الذي مرره البرلمان على عجل -ولا نقول طبخه في غمضة عين- قياسًا بخطورة تداعياته على السلم الاجتماعي.
الفلوس التي ستجنيها الدولة من الضرائبَ العقارية، أهم وأولى من تمزق نسيج الوطن، وزراعة الشقاق والأحقاد والثارات في قاعدته الهرمية.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أقل ما يقال في مشهد تمرير القانون، أنه لم يتأنَ أناةً توازي المتوقع من آثارهِ على حياة الملايين.
إذا كانت الحكومة لم تدرس تداعيات القانون فتلك مصيبة، أما إذا كانت درستها ورغم ذلك مضت في تمريره، على ما هو عليه، فالمصيبة أعظم.
مع الاحتمال الأول يحق لنا، بل ينبغي علينا أن نتساءل عن ما إذا كانت هذه الحكومة، جديرة وأيضًا مؤهلة لأن تدير شؤون البلاد والعباد، في هذه المرحلة الاقتصادية البائسة، التي يرزح المصريون خلالها تحت “نير العوز”، جراء تطبيق سياسات النيوليبرالية المتطرفة الغاشمة، وهي بالمناسبة سياسات الحكومة التي لم يؤخذ فيها رأي الشعب.
ومع الاحتمال الثاني، تغدو الإجابة محسومة، وعلينا حينئذٍ أن نجهر بأن هذه الحكومة غير جديرة بمسؤولياتها، فصدور قانون يفجِّر السلم الاجتماعي، وكذلك يهدد الأمن القومي، إذ يضع مصير ثلاثة ملايين و900 ألف مستأجر في مهب الريح، لا يمكن الدفع بأنه قرار حصيف أو حتى عاقل.
قد يقولن قائل؛ إن معظم وحدات الإيجار القديم مغلقة، وهذه قولة باطل يُراد بها باطل، ذلك أنَّ عدد الوحدات المغلقة وفق الإحصاءات الرسمية يتراوح بين 300 ألف وحدة، و500 ألف بحد أقصى، مما يعني أن أكثر من ثلاثة ملايين مستأجر، فضلًا عن ذويهم سيُحرمون من ستر الأربعة جدران بعد أقل من سبع سنوات.
هؤلاء بطبيعة الحال يعدون أبرياء سيظلمهم القانون الجديد، بما ينسف مبادئ القانون الأخلاقية وفلسفته التي أشرنا إليها في الاستهلال.
لا شك في أن بعض المستأجرين لديهم وحدات أخرى، لكن لا شك في أن النسبة الأكبر منهم ليس لهم من سقف وأربعة جدران إلا الوحدات التي يقطنونها منذ عقود.
الحرب تندلع مبكرًا بين المالك والمستأجر
على مدى الأسابيع القليلة الماضية، ازدحمت صفحات “السوشيال ميديا” بمشاحنات وملاسنات بين ملاك ومستأجرين، وبلغ الأمر مبلغًا خطيرًا حين مضى كل فريق يتوعد الآخر.
أصحاب العقارات الذين ارتأوا أن القانون ينصفهم أو يطلق أياديهم، شرعوا يهددون المستأجرين بالويل والثبور وعظائم الأمور، والمستأجرون الذي استوطن الخوف قلوبهم من فقدان المأوى، هددوا بدورهم أنهم سيخوضون المعركة ضد من سيحاول أن يخرجهم من بيوتهم، حتى أرماقهم الأخيرة، فإما يُقتلون أو يَقتلون.
بالتوازي امتلأت المواقع الإلكترونية الإخبارية، في غيبة “التوك شو” الذي أكل مقدمو برامجه “سد الحنك”، بأخبار وتقارير عن صدامات واشتباكات مبكرة بين الطرفين، فمن مالك استقدم مسجلين خطرًا فحطموا باب شقة لطرد أرملة وبناتها، وهنَّ لا يرتدين إلا “قمصان النوم”، في مشهد قمئ يطعن نخوة الرجال في مقتل، إلى مستأجر قتل نجل مالك أراد طرده، في مشهد آخر تتسربل فيه الميلودراما بالدماء المراقة.

لا يتسع المجال لسرد المزيد من الحوادث، فالواضح أن الاحتقان بلغ حده الأقصى، والمجتمع المصري على شفا أزمة، قد يجسدها قول شاعر الصوفية الكبير ابن الفارض: “أرى خللَ الرمادِ وميضَ نارٍ/ وتوشِكُ أنْ يكونَ لها ضِرامُ”، وصولًا إلى قوله “وإنَّ الحربَ أولُها الكلامُ”.
والغريب أنه في الوقت الذي تحذر الدولة مما تصفه بـ”الإرهاب الإخواني”، وتنبه إلى خيانة الجماعة التي ذهب وزير أسبق، إلى أنَّ عناصرها قد حاربوا ضد الجيش المصري، في صف العدو الصهيوني عام 1967،ـ فإنها تتبرَّع بسخاء لتقديم الذرائع ليس فقط للإخوان، بل إلى كل من يعارضها، عبر العمل على تفخيخ السلم الاجتماعي، وحشر الناس إلى الزاوية، ودفعهم إلى مواجهة صفرية سيكون شعارها “نكون أو لا نكون”.
لم يراعِ المشرِّع حين سنَّ القانون على عجل، حالات الأرامل واليتيمات اللائي يعتشن من معاشات أزواجهن وآبائهن الراحلين، وهي -كما نعلم- معاشات هزيلة عجفاء، لن تمكنهن من سداد الإيجارات التي ستتضاعف بعد تحريرها في ظل هيمنة اقتصاد السوق، ولم يأخذ في حسبانه مسنين وأطفالًا ليس لهم حيلة ولا مصدر رزق، حتى أن بعضهم اليوم يتمنون أن تُقبض أرواحهم، قبل أن يتجرعوا المذلة.
هذا أمر بالغ الوحشية والقسوة، فالدول تتوخى دائمًا أن تحنو على الطبقات الأشد فقرًا، بخاصة الذين اشتعلت رؤوسهم شيبًا، وما من شك في أن الشعب المصري المسكين “الذي لم يجد من يحنو عليه”، لا يستحق هذه “البهدلة”.
تهديد ابنة صلاح عبدالصبور
واللافت أن “البهدلة” لن تقتصر على الفئات الأشد فقرًا، فنجلة شاعرنا الراحل الكبير صلاح عبدالصبور؛ الفنانة معتزة، كتبت على “فيسبوك” منشورًا ينضح كلُّ حرف فيه بالأسى، وتفور كل عباراته بنيران الحسرة.
قالت: “أنا زي ستات كتير بطولي في الدنيا، والنهارده أحد ورثة مالك عمارتي أبلغني بقرار طردي من شقتي بعد انقضاء مهلة السبع سنوات، أقسم بالله حسيت إني سأموت من لهجته الآمرة المتعجرفة”.

ومضت تسرد المأساة: “نصحني: انزلي اشتغلي عشان يبقى معاكِ قرشين، كان بيدمر ما تبقى من حياتي ويتشفى بإذلالي لإشباع شعوره بالتفوق المادي.. أنا فعلًا بأشتغل بقدر ما أستطيع لكن بالطبع دخلي لن يسمح بشراء شقة مع الأسعار الراهنة”.
ووصفت معتزة عبدالصبور المشهد بأسره: “وصلت لهذا الحد مع ابنة صلاح عبدالصبور في وطن صلاح عبدالصبور.. صلاح عبدالصبور الذي رفض العمل في الخليج بعد كامب ديفيد، رغم معارضته للمعاهدة، لأنه أخلاقيًا كان يأبى أن ينتقد السلطة المصرية من الخارج، وكان يرد على عروض السفر قائلًا: أنا بأحب بلكونتي الصغيرة في المهندسين”.
وختمت كلامها برجاء إلى أصدقائها: “أنا ممكن أموت قبل ما أطلع من بيتي، فأرجوكم تهتموا بالقطتين اللي عندي، وكمان مكتبة بابا، اللي عمري ما فرطت في كتاب منها، هذا أحقر وقت تعيش فيه ابنة رجل شريف، همَّا خلاص خلَّصوا علينا، بلدي خلَّصت عليا.. أموت بكرامتي أحسن”.
وبعدُ.. ماذا يمكن أن يقال إزاء هذه الكلمات؟
منطقي أن يستدر الكلام الحزن مريرًا، إذ ليس مستساغًا “إذلال أولاد الناس”، ولا يليق بأي حال أن تصل الأمور بابنة الشاعر الكبير إلى أن تتجرع هذا الهوان، من جراء قانون لا شك في أنه يجافي روح القانون.
كما لا يفوت التأكيد على أن التعاطف مع هذه الحالة لا يعني أن معتزة “على رأسها ريشة”، بقدر كونها حالة مصرية عامة، فكم من عزيز سيزلُّ ويُذلُّ متى تبدأ عمليات طرد المصريين من الأربعة جدران.
حالة معتزة عبدالصبور ليست حالة فردية، والمعروف أنها استنكفت إبَّان حكم المخلوع مبارك عن أن تطلب دعمًا من الدولة، ويشهد على ذلك أشرف زكي نقيب المهن التمثيلية، الذي نقل إليها رسالة من وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني: “الريس بيسأل ليه أهل صلاح عبدالصبور مش بيطلبوا حاجة”، كما رفضت بكل إباءٍ بيع مكتبة الراحل الكبير لمؤسسة ثقافية سعودية، حاولت إغراءها بأن عرضت عليها “شيكًا مفتوحًا”، فقالت: مكتبة أبي سيرثها من بعدي المصريون.
من المؤكد أن هنالك حلولًا أخرى، ولا بد من إعادة النظر في هذا التشريع الأعمى، لأنه تطبيقه يعني بغير شك أن “رعبٌ أكبرُ من هذا سوف يجئ”، كما يقول شاعرنا الراحل، في قصيدته “يا أهل مدينتنا” التي أكتفى منها باجتزاء هذه الشطرة، لأن ما بعدها حتى الخاتمة، قد يعتبر في ظل الانفتاح الإعلامي الذي نحن بصدده، تحريضًا على العنف، في حين أني لا أحرض بل أحذر.
