في صمت بارد، تغادر آلاف النساء بيوتهن كل صباح، بعد ساعات من فقد جنين طالما انتظرنه، لا وقت للبكاء، لا مكان للتعافي ولا حق في الراحة فالوظيفة لا تنتظر، والقانون.. لا يعترف.
في مصر.. آلاف النساء يتألمن في صمت بسبب غياب إجازة الإجهاض عن قانون العمل.
“كانت بتنزف.. وكان لازم ترجع الشغل”
كانت في منتصف الشيفت، الساعة تقترب من الثانية ظهرًا، حرارة المصنع تخنق الأنفاس، وضجيج الماكينات لا يرحم، تعمل على ماكينة خياطة في مصنع صغير بمدينة الخانكة،تقول أنها شعرت بدوار مفاجئ، لكن ليست ككل مرة، كان ثقلاً داخليًا، كأن شيئًا ما ينفلت منها.
“قمت على الحمام بالعافية أول ما وصلت، حسيت بنزيف بينزل بغزارة، وجع خبطني فجأة، وكأن في حاجة بتتقطع جوا بطني”.. هكذا قالت تحكي أميرة في نهاية الثلاثينيات، لـ فكّر تاني، وهي تمسك بأسفل بطنها كأن الألم ما زال يلازمها ولم يتركها بعد.
وقفت أمام مرآة الحمام تتنفس بصعوبة، وجهها شاحب وعيناها متسعتان من الذهول. لم تصرخ ولم تستغث، كانت تعرف أن لا أحد يُنقذها من الوجع، ولا أحد ينتظرها لتنزف ببطء دون أن يطالبها بالعودة.
“رجعت على المكنة مكنتش عايزة يبان حاجة، بس نزفت تاني بعد ربع ساعة، ما وقفش، وحسيت حاجة بتنزل.. حتة مني وقعت ع الأرض حرفيًا”.
انتظرت أميرة حتى نهاية اليوم لتذهب إلى المستشفى. هناك، أخبرها الطبيب بالحقيقة القاسية: “الجنين نزل والمشيمة انفصلت، والجسم فقد كتير من دمه، محتاجة راحة أسبوعين على الأقل”، لكنها لم تحصل إلا على سبعة أيام فقط، لتعود مرة أخرى إلى ماكينة الخياطة وجدول الإنتاج، وإلى السؤال اليومي المتكرر: “خلصتي كام قطعة النهاردة؟”.

جلست على طرف سريرها صبيحة اليوم السابع، ترتدي نفس البنطلون الأسود، وقميصًا فضفاضًا أخفى بطنًا لم تعد تحمل حياة، كانت تحاول أن تبدو ثابتة، لكنها كلما نظرت في المرآة، شعرت بأنها تجر جسدًا لا يشبهها، حملت حقيبتها الصغيرة، وخرجت. الميكروباص مزدحم، والهواء ثقيل، ورحمها ما زال ينزف: “أنا خايفة.. خايفة الدم يبان على الهدوم، خايفة أدوخ في نص الطريق”.
دخلت المصنع، لم يلتفت أحد، لا أحد سأل عن حالها، وكأن الإجهاض مجرد حادث بسيط يمر. في الاستراحة، جلست على أول درجة من سلالم المصنع الخلفية، ضمت قدميها لصدرها، وشهقت بكتمان، “كنت هسميه آدم.. بس أنا حتى ما ودعتوش”.
كل ساعة، تذهب إلى الحمام لتطمئن أن الدم لم يزد، أن النزيف ما زال في حدوده: “أنا مش بتدلع.. أنا بنزف، وبعيط في الحمام، وبرجع أشتغل وكأن مفيش حاجة حصلت”.
هذه ليست حكاية أميرة وحدها، بل قصة آلاف العاملات اللاتي ينزفن في صمت، ويعدن إلى مصانعهن، دون أن يمنحهن أحد دقيقة واحدة للحزن على من لم يولد.
اقرأ أيضًا:أنتِ طالق.. “غيابي”
“شالوها من الأرض شيل وأنا ماقدرتش حتى أواسيها”
“مكنش البُكاء على جنين فقدناه وبس بل على نفسها، حست إنها وحدها بتواجه الألم والنزيف، والخذلان”.. يحكي ياسر -اسم مستعار- لـ فكّر تاني، كيف تسبب غياب “الإجهاض” عن قانون العمل في تقكك أسرته وكسر زوجته نفسيًا وجسديًا.
في صباح باهت بعد يومين فقط من الإجهاض، ارتدت نهلة -اسم مستعار- ملابس العمل كأنها تلبس جلدًا لا ينتمي لها، خرجت مُجبرة، تمشي بجسد مكسور ونفس منهارة، لم يكن أمامها خيار آخر. فالقانون لا يراها، ولا يعترف بوجعها، ولا يمنحها حتى حق الانهيار، وحين سقطت أرضًا تحت أعين زملائها. هناك فقط، بدأ الجميع يتساءل: “لماذا جاءت من الأساس؟!”.
يقول الزوج، بصوت مكسور: “مراتي أجهضت، وبعدها بيومين بس نزلت الشغل غصب عنها، كانت في نهاية السنة، ومفيش ليها إجازة مرضي، كمان مديرها راجل ميعرفش ربنا، نزلت وهي لسه بتنزف، وشها شاحب، وأنا حاسس إنها هتقع في أي لحظة، لكن ماكانش عندها رفاهية ترتاح، القانون نفسه بيقول لها: ارجعي شغلك، وكأن اللي كان جوه بطنها مجرد روح وراحت”.
خرجت من بيتها في صمت، دون حتى أن تودّع ابنها الصغير، الذي لم يفهم بعد لماذا تبتعد عنه أمّه كل هذا الوقت، ولماذا لا تحضنه كما اعتاد. وفي منتصف اليوم، تلقّى الزوج اتصالًا غيّر كل شيء: “مراتك وقعت في الشغل.. إحنا في الطريق للمستشفى”.
يروي ياسر تفاصيل تلك اللحظة القاسية: “جريت زي المجنون، مش عارف هلاقيها عايشة ولا لأ. وصلت لقيتها نايمة على سرير الطوارئ، وشها مصفر ونبضها ضعيف، أول حاجة قالتها لي: آسفة.. مقدرتش أتحمل. كانت شايلة ذنب إنها تعبانة، متخيلة إن التعب خيانة، هي أصلًا حاسة بذنب علشان كان نفسنا في طفل تاني من الحياة ولكن محصلش نصيب فتعبت نفسيًا!”.

هو موظف بسيط، لم يطلب امتيازات، ولا تعويضات. فقط قانونًا يراعي حق زوجته في الراحة والتعافي، وفي الحزن: “مشكلتي مش مع مديرها، ولا مع الشغل، مشكلتي مع قانون شايف الست بعد الإجهاض إنها ترجع تمارس حياتها عادي بعد 48 ساعة. طب وجعها؟ طب دمها؟ طب خوفها؟ طب نفسيتها؟ طب إحنا؟ بيتنا اللي بيتفكك؟ مين بيراعي ده؟!”
حادث العمل لم يكن مجرد سقطة جسدية، بل بداية لانهيار أسرة كاملة، يقول ياسر: “حاولت أهوّن عليها، أقولها هنعدّي، بس الحقيقة إحنا مكناش بنعدّي، إحنا كنا بنغرق، كل يوم بيعدي كان بيبعدنا عن بعض، ويفكرنا إنها ما أخدتش حتى فرصة تبكي، أو ترتاح، أو تنام يوم كامل بعد الألم”.
اليوم، العلاقة بين الزوجين على حافة الانهيار، والبيت الذي كان يضج بالحياة، أصبح صامتًا مثقلًا بالحزن: “حسيت إني فشلت في حمايتها، مش لأننا فقرا، ولا علشان هي ضعيفة، لكن لأننا في بلد بيشوف الإجهاض كأنه حادث بسيط، مش مصيبة قلبت حياة الست رأسًا على عقب”.
اقرأ أيضًا:أمومة خارج ترويسة الاهتمام.. نساء في بيئات صحفية قاسية
الأرقام تتحدث
بحسب تقديرات دراسة للمجلس الدولي للسكان بالتعاون مع الجمعية المصرية لرعاية الخصوبة فإن الإجهاض ليس حالة نادرة، فيقترب المعدل في مصر من 14.8 % لكل 100 مولود، إلا أن معرفة النسب الدقيقة لمعدلات الإجهاض في مصر غير دقيقة لعدة أسباب منها: أن الإجهاض غير قانوني لذلك صعب الحصول على إحصائيات رسمية تكشف الواقع.كما كثير من عمليات الإجهاض تتم خارج المستشفيات بشكل غير قانوني وأحيانًا دون تدخل طبي ما يصعب على الباحثين معرفة النسب الدقيقة لحالات الإجهاض في مصر.
إلا أن الثابت في دراسة أُجريت مطلع الألفية على 1025 امرأة من ست قرى في صعيد مصر، أن حوالي 40٪ منهن أجرين عملية إجهاض واحدة على الأقل.
التحليل الطبي والقانوني للأزمة
توضح الدكتورة عبير السبكي أخصائية أمراض النساء والتوليد، أن المدة التي تحتاجها المرأة للتعافي جسديًا بعد الإجهاض تختلف حسب عدة عوامل، أبرزها عمر الحمل، ونوع الإجهاض، والطريقة التي تم بها -سواء كان طبيعيًا، دوائيًا أو جراحيًا.
“إذا حدث الإجهاض في المراحل المبكرة من الحمل، أي خلال أول 12 أسبوعًا، فإن الجسم يستعيد عافيته عادة خلال أسبوع إلى أسبوعين، أما في حال كان الإجهاض في الثلث الثاني أو الثالث من الحمل، فقد يستغرق التعافي الجسدي فترة أطول، تتراوح بين أسبوعين إلى أربعة أسابيع أو أكثر، وغالبًا ما يكون النزيف في هذه الحالات أكثر غزارة”.. تقول الدكتورة عبير لـ فكّر تاني.
وتحذر عبير من أن العودة السريعة إلى العمل بعد الإجهاض دون راحة كافية، خاصة في الوظائف التي تتطلب مجهودًا بدنيًا أو ضغطًا نفسيًا، قد تسبب مضاعفات صحية عديدة أبرزها زيادة النزيف، وتأخر التئام الرحم، واحتمالية الإصابة بعدوى إذا لم تُمنح الأم الوقت الكافي للتعافي، كما أن التعرض المبكر للإجهاد الجسدي والنفسي يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الألم، ويزيد من هشاشة الحالة النفسية”.
وترى عبير السبكي أن الراحة الجسدية والنفسية ضرورية بعد الإجهاض، ويجب التعامل معها كجزء أساسي من الرعاية الطبية: “الإجهاض في الثلث الأول قد يحتاج إلى إجازة قصيرة تتراوح بين عدة أيام حتى أسبوعين، أما في الإجهاض خلال الثلث الثاني أو الثالث، فنوصي عادة بإجازة أطول قد تمتد إلى شهر، خصوصًا إذا تم الإجهاض بطريقة جراحية أو بعد مضاعفات صحية، في بعض الحالات المتأخرة، يمكن معاملة إجازة ما بعد الإجهاض قانونيًا على غرار إجازة ما بعد الولادة”.

أما فيما يخص البروتوكولات الطبية المنظمة لهذا النوع من الإجازات، فتؤكد الدكتورة عبير أن الوضع في مصر ما زال مرهونًا بتقدير الطبيب وجهة العمل، مشيرة إلى غياب بروتوكول موحد مُلزم، يمنح المرأة العاملة حقًا ثابتًا في إجازة تعافٍ بعد الإجهاض.
وتختتم حديثها مع فكّر تاني، بالتأكيد على أن عدم منح المرأة الراحة الكافية بعد الإجهاض قد يؤثر سلبًا على خصوبتها مستقبلًا، موضحة أن الالتهابات أو النزيف غير المعالج، أو ضعف الرحم نتيجة الإجهاد، يمكن أن يكون لها تبعات طويلة الأمد.
اقرأ أيضًا:أرملة تطلب إذنًا بالأمومة
حقٌ ضائع
في ظل غياب نص قانوني صريح، تجد المرأة العاملة في مصر نفسها في مواجهة فراغ تشريعي عند تعرضها للإجهاض، حيث تُجبر على التعامل مع آلامها الجسدية والنفسية تحت بند “الإجازات المرضية” العامة، وهو ما يمثل إجحافًا بحقوقها وقد يستنفد رصيدها السنوي بالكامل، وفقًا لما أكدته المحامية بالنقض مها أبو بكر في حديثها مع فكّر تاني.
توضح المحامية أن فلسفة التشريع الحالية تتعامل مع الإجهاض كأي عارض صحي مفاجىء: “آلام الإجهاض يتم التعامل معها مثل أي مرض يمكن أن يأتي فجأة لأي إنسان، وبالتالي فإن الغطاء القانوني المتوفر له حاليًا هو الإجازات المرضية بشكل عام”.

وتشير مها إلى أن المشكلة تكمن في أن فترة التعافي المطلوبة قد تتجاوز بكثير الرصيد السنوي المتاح، إلا أنها تؤكد على وجود مخرج قانوني للحالات الاستثنائية: “طبقا لقانون العمل، وبعد تقديم التقارير الطبية اللازمة لجهة العمل، تستطيع الأم الحصول على إجازات إضافية تتجاوز الرصيد الاعتيادي”.
أما النقطة المفصلية التي تسبب التباسًا، بحسب المحامية مها أبو بكر، فهي هي الخلط بين “إجازة الوضع والإجهاض”، حيث تشدد على أن “إجازة الوضع لم تُشرّع فقط لتسترد الأم عافيتها، بل بشكل أساسي لرعاية المولود، الذي ينظر له القانون كمواطن له حق في الرعاية”، بينما في حالة الإجهاض “لا يوجد طفل، ولكن تبقى هناك آلام قاسية ودعم نفسي مطلوب، وهو ما يجعل الحالة تسقط مرة أخرى في فئة المرض العام”.
وترى أن العائق الحقيقي أمام إقرار حقوق واضحة للمرأة في هذه الحالات ليس في صعوبة التشريع، بل في “وعي القائمين عليه” وفي “الموروث الشعبي” الذي يشكل عقلية المجتمع. وتؤكد: “نقع بين أمرين: إما رجل هو ليس الموجوع فبطبيعة الحال لا يشعر بوجعك، أو سيدة تردد ‘يا ستي ما كلنا ولدنا وطلقنا، في إيه؟'”.
ويؤكد المحامي طارق حجاج المتخصص في قضايا العمل، لـ فكّر تاني: “غياب بند إجازة الإجهاض في قانون العمل ثغرة قانونية فادحة، القانون يمنح الموظف إجازة مرضية إذا أصيب بنزلة برد، لكنه لا يمنح المرأة التي فقدت حملًا فرصة قانونية للتعافي، الحل في تعديل تشريعي عاجل يُلزم جهة العمل بمنح المرأة إجازة لا تقل عن 7 أيام، فور إثبات الإجهاض بتقرير طبي رسمي”.
في ختام رؤيتها، تربط مها أبو بكر القضية بفلسفة أعمق، وهي أن حماية الأم العاملة واجب مجتمعي، وتؤكد: “يجب أن نعي أن جنينكِ ليس مِلكك لوحدك، بل هو مستقبل هذه الأمة. الطفل ليس ملكًا للأسرة، بل هو ملك للمجتمع”. وبناء على ذلك، فإن توفير الراحة للأم “ليست منة، بل هي واجب وتضامن مجتمعي لكي تستطيع أن تقدم للمجتمع إنسانًا سليمًا ومعافى”، وهو جوهر المادة 80 من الدستور المصري.
صرخة أخيرة
تقول محروسة موظفة في أحد شركات القطاع الخاص، إنها أُجهضت في الشهر الثالث بعد مضاعفات صحية مفاجئة، وبعد 5 أيام، عادت إلى العمل رغم ألمها ونزفها المستمر، لأنها ببساطة لم تجد بندًا قانونيًا يدعم غيابها: “قالولي مفيش حاجة اسمها إجازة إجهاض، لو عايزة تغيبي جيبي تقرير طبي بالإجهاض وهنحسبها من رصيد إجازاتك السنوية، كنت تعبانة ومش قادرة أتحرك، بس مشكلتي إن معنديش رصيد، لو غبت، هيخصموا من المرتب أو يفصلوني، فلبست هدومي ونزلت، وقلبي بيتقطع”..
بينما توضح الدكتورة حسناء النجمي أستاذة الصحة النفسية، أن الضغط على المرأة للعودة إلى العمل فور الإجهاض يمكن أن يسبب مضاعفات طويلة المدى: “المرأة التي تُجبر على ممارسة مهامها اليومية بعد خسارة حمل، دون مساحة للحزن أو للراحة، تصبح عرضة لاضطرابات نفسية شديدة، منها الاكتئاب والانسحاب والاحتراق النفسي، بعض الحالات تصل إلى فقدان الرغبة في الحياة، أو فشل العلاقات الزوجية.”
في ورشة الخياطة، في البنك، في المدرسة، في المطبعة، وفي عيادات التجميل، مئات القصص لنساء أُجبرن على النهوض قبل أن تجف دماؤهن، نساء يمسحن دموعهن خفية في الحمامات، ويمشين بثقل في الممرات، ويظهرن الابتسامة فقط.. لأن أحدًا لا يعترف بحزنهن، ولأن.. القانون أيضًا لا يعترف.
كم امرأة ماتت بصمت، نفسيًا أو جسديًا، فقط لأن القانون لا يعترف بأن ما فقدته كان “روحا”؟ ومتى تنتصر الدولة للنساء في أكثر لحظاتهن هشاشة؟
