في خضم معركة قانونية يستعد لها مستأجرو “الإيجار القديم” أمام المحكمة الدستورية، وما يقابلها من حالة ترقب لدى الملاك المؤيدين لقرار يعيد لهم أملاكهم بعد عقود طويلة، يبرز تساؤل محوري حول إصرار الحكومة المصرية على تمرير القانون الجديد، رغم ما يثيره من جدل ومشكلات مجتمعية خطيرة يُحذر منها الخبراء، في وقت تتعهد فيه بتحمل أعباء توفير سكن بديل للمتضررين.
هذا الإصرار، الذي واجه انتقادات برلمانية، يتجاوز على ما يبدو مجرد إعادة التوازن للعلاقة الإيجارية. إذ يكشف تحليل الدوافع الحكومية عن أبعاد اقتصادية واستثمارية أعمق، ترتكز على ثلاثة محاور رئيسية: تعظيم العوائد الضريبية، وإنقاذ الثروة العقارية المتداعية، وتهيئة المناخ لمشروعات تطوير كبرى قد تكون الاستثمارات الأجنبية جزءًا منها.
دوافع اقتصادية مباشرة.. ما تريده الحكومة
في مقدمة الدوافع الحكومية، تبرز حسابات اقتصادية دقيقة تهدف إلى تحرير أصول ضخمة معطلة وتعظيم الإيرادات الضريبية.

ويتجلى هذا التوجه بوضوح في حالة شركة “مصر لإدارة الأصول العقارية”، التي تمثل ثاني أكبر محفظة عقارية في مصر بعد وزارة الأوقاف، حيث تمتلك 525 عمارة تضم 14 ألف وحدة في 26 محافظة، يتركز معظمها في مناطق حيوية مثل وسط البلد والزمالك وجاردن سيتي.
وفقًا لتصريحات رئيسة الشركة، مها عبد الرازق، فإن قانون الإيجار القديم يمثل “التحدي الأكبر” الذي يؤثر على غالبية أصولها. والأرقام تكشف أن نحو 80% من المحفظة العقارية للشركة مؤجرة بنظام الإيجار القديم، إلا أنها لا تدر سوى 1% فقط من إجمالي إيراداتها بسبب تدني القيم الإيجارية.
وتؤكد عبد الرازق أن تحرير هذه العلاقة سيمنح الشركة “دفعة مالية أقوى”، متوقعة أن يعود إليها نحو 20% من عقاراتها المؤجرة فورًا نظرًا لكونها غير مستغلة.

وعلى صعيد آخر، يفتح القانون الباب أمام زيادة مباشرة وواسعة في حصيلة الضرائب، عبر تفعيل ثلاثة أنواع من الضرائب بشكل كامل:
– ضريبة الثروة العقارية: وهي ضريبة تُفرض على إيرادات تأجير العقارات. ومع دخول ملايين الوحدات سوق الإيجار الحر، ستخضع هذه الإيرادات للضريبة بعد خصم 50% كمصاريف. وتستهدف الدولة بالفعل تحصيل 3.1 مليار جنيه من هذه الضريبة في العام المالي 2025/ 2026، وهو رقم مرشح لنمو كبير.
– ضريبة التصرفات العقارية: عند بيع أي من هذه الوحدات بعد استردادها، سيتم فرض ضريبة بنسبة 2.5% من قيمة البيع الإجمالية. وكمثال، فإن بيع وحدة سكنية بقيمة 2 مليون جنيه سيُدخل لخزينة الدولة 50 ألف جنيه كضريبة يجب سدادها خلال 30 يومًا.

– الضريبة العقارية: ستؤدي إعادة تقييم الوحدات السكنية المحررة إلى زيادة حصيلة هذه الضريبة، حيث تُفرض بنسبة 10% من القيمة الإيجارية السنوية، مما يرفعها من قيمها الحالية شبه المنعدمة إلى مستويات تعكس قيمتها السوقية الحقيقية.
ولتدعيم هذه الرؤية بالأرقام، يقدر الخبير الاقتصادي، الدكتور عمرو حسنين، أن استمرار نظام الإيجار القديم يكبّد الدولة خسائر اقتصادية مباشرة تصل إلى 13 مليار جنيه سنويًا من ضريبتي الدخل والعقارية فقط.
ويفصّل حسنين هذه الخسارة بأنها تتوزع بين 7 إلى 8 مليارات جنيه كضرائب دخل مفقودة، ونحو 6 مليارات جنيه كضرائب عقارية مهدرة على ما يقدره بـ 3 ملايين وحدة سكنية.
الحكومة “تُنظف” المشهد العقاري للاستثمار
تتجاوز الدوافع الاقتصادية المباشرة لتتلاقى مع رؤية حكومية أوسع وطموحة للتطوير العمراني، لا سيما في المناطق التاريخية والاستراتيجية.
وفي هذا السياق، تظهر تكهنات تربط إصرار الحكومة على تمرير القانون بخطط كبرى لتطوير منطقة وسط القاهرة، وتحويلها إلى نموذج جاذب للاستثمار على غرار المراكز المالية العالمية.
وقد غذى هذه التكهنات تصريحات رجل الأعمال الإماراتي، محمد العبار، التي أبدى فيها اهتمامه بالاستثمار في وسط القاهرة وإعادة هيكلة المباني الحكومية الشاغرة بعد انتقال الوزارات إلى العاصمة الإدارية الجديدة، والدخول في شراكة مع الحكومة المصرية في هذا الصدد.
ورغم أن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، سارع إلى توضيح الموقف، نافيًا وجود عرض أجنبي محدد لتطوير وسط البلد، إلا أنه أكد أن هذه الأفكار كانت “جزءًا من الموضوعات التي تمت مناقشتها مع اللجنة الخاصة بتصدير العقار”.
وكشف مدبولي حينها عن وجود “تكليف” لمكتب استشاري لوضع رؤية متكاملة لتطوير المنطقة، مع التركيز المبدئي على المنشآت التي تملكها الدولة وأخلتها بعد الانتقال للعاصمة الجديدة.
ومن هنا، يرى مراقبون أن قانون الإيجار القديم يمثل خطوة تمهيدية وحيوية لهذه الرؤية طويلة الأمد. فحتى لو بدأت خطط التطوير بالعقارات المملوكة للدولة، فإن أي مشروع تطوير شامل لمنطقة وسط القاهرة سيصطدم حتمًا بعقبة العقارات الخاصة المؤجرة بنظام الإيجار القديم.
وبالتالي، يُنظر إلى القانون على أنه إجراء استباقي يحرر هذه العقارات و”ينظف” المشهد العقاري، مما يجعله أكثر جاذبية للاستثمارات الكبرى في المستقبل، ويتماشى مع هدف الدولة الاستراتيجي المتمثل في “تصدير العقار”.
رجل الأعمال الإماراتي محمد العبار أبدى في تصريحات سابقة اهتمامه بالاستثمار في وسط القاهرة

الحكومة تتحرر من أعباء إنقاذ الثروة العقارية
إلى جانب الأهداف الاقتصادية والاستراتيجية، يمثل القانون حلًا جذريًا لمشكلة مزمنة تتمثل في تآكل الثروة العقارية المصرية. فلعقود طويلة، أدى ضعف العائد الإيجاري إلى خلق حالة من اللامبالاة المشتركة بين الملاك والمستأجرين تجاه صيانة العقارات، مما جعل المالك في كثير من الأحيان يمتنع عن الترميم، الأمر الذي أدى إلى تداعي وسقوط العديد من المباني، خاصةً في المناطق الشعبية والتاريخية.
هذا الإهمال لم يهدد سلامة المواطنين فحسب، بل وضع عبئًا مزدوجًا على الدولة، التي كانت تضطر لدفع تعويضات للضحايا والمصابين من جهة، وتحمل تكاليف الترميم الباهظة في مشاريع التطوير من جهة أخرى.
وتكشف الأرقام الرسمية عن حجم الأزمة، حيث تقدر نسبة الوحدات السكنية التي تحتاج إلى إحلال وتجديد في مصر بحوالي 12% من إجمالي الثروة العقارية.
ومن خلال إنهاء العلاقة الإيجارية القديمة، تنتقل مسؤولية وتكلفة الصيانة والتجديد بالكامل إلى الملاك، الذين سيصبح لديهم الحافز الاقتصادي للحفاظ على قيمة أصولهم. كما يُجبر القانون الملاك الجدد أو المستردين لعقاراتهم على تحمل تكاليف تحسين المظهر الخارجي للعقارات، وهو عبء كانت الدولة تتحمله.
ولعل أبرز مثال على هذه التكلفة هو مشروع ترميم واجهات وسط القاهرة، حيث بلغت تكلفة دهان وترميم واجهة العمارة الواحدة 1.2 مليون جنيه في عام 2017، وهو رقم تضاعف عدة مرات في الوقت الحالي نتيجة انخفاض قيمة الجنيه وارتفاع أسعار الخامات.
من يدفع فاتورة حسابات الحكومة؟
بينما تبدو المؤشرات الأولية إيجابية للسوق العقاري، الذي شهد انتعاشًا في الطلب على شراء الوحدات بنسبة تتراوح بين 20% و30% بحسب عاملين في القطاع، فإن الوجه الآخر للقصة يكشف عن فاتورة اجتماعية واقتصادية باهظة قد تقع على عاتق ملايين المواطنين.

في مواجهة هذه المخاوف، تطرح الحكومة كشف حسابها الخاص بالحلول. وعلى لسان وزير الإسكان، شريف الشربيني، تعتبر فترة السبع سنوات الانتقالية “كافية جدًا” لتوفير البدائل، وتؤكد الدولة استعدادها عبر خطة جاهزة تتضمن 238 ألف وحدة سكنية قائمة، ورصد وزارة التنمية المحلية لـ 14,500 فدان من الأراضي المخصصة لهذا الملف، مع استعداد للبدء في مشروعات جديدة بالكامل.
غير أن هذا التفاؤل الرسمي يصطدم بجدار الواقع الذي تعيشه الأسر المصرية. فهذه الفاتورة يقرأها خبراء مثل الدكتورة هدى الملاح، مديرة المركز الدولي للاستشارات الاقتصادية ودراسة الجدوى والتدريب، التي تؤكد أن الفترة الانتقالية “غير كافية على الإطلاق”.
وتربط الملاح تحليلها بسياق اقتصادي ضاغط يعاني منه المواطن منذ عام 2018، والذي شمل تحرير سعر الصرف، ورفع الدعم عن البنزين والكهرباء، وتحمل أعباء الإصلاح الاقتصادي، فضلًا عن تداعيات الأزمات العالمية والحروب المشتعلة في المنطقة.
وهنا، تطرح الملاح السؤال الذي يجسد جوهر الفاتورة الاجتماعية للقانون: “كيف يدبر المستأجر ثمن مقدم عقار جديد، سواء كان إيجارًا أو تمليكًا، خلال 7 سنوات؟”. وتخلص إلى أن هذه المدة، في ظل الظروف الحالية، ليست فقط غير كافية للادخار، بل قد تكون غير كافية حتى لـ “عيش حياة كريمة”.
