بهذه المقالة نصل إلى المحطة الأخيرة من سلسلة مقالاتنا حول النظام الانتخابي في مصر، التي حاولنا خلالها تفكيك بنية الانتخابات من حيث النظام، والنزاهة، والمقاطعة، والتهميش، والمحليات. وفي هذه الحلقة، نختم بنقطة جوهرية تكاد تكون أصل كل أزمة انتخابية في مصر: الثقافة الانتخابية. فحتى لو صلح النظام، وأجريت الانتخابات بنزاهة، يبقى السؤال: هل نمتلك مجتمعًا يؤمن بأهمية صوته؟ وهل نعي حقًّا ماذا يعني التمثيل؟ وكيف نربي هذا الوعي في الأجيال الجديدة؟
أولًا: ما المقصود بالثقافة الانتخابية؟
الثقافة الانتخابية لا تقتصر على معرفة موعد الانتخابات أو طريقة التصويت؛ فهي أوسع وأعمق من ذلك. إنها تعني:
-
الإيمان بأن الصوت الانتخابي أداة للتغيير، لا مجرد رقمٍ في صندوق.
-
احترام التعدد السياسي والفكري، وقَبول نتائجِ الانتخابات، حتى لو خالفت رغبتك.
-
الفهم بأن التمثيل النيابي لا يعني الخدمات الفردية فقط، بل الرقابةَ والتشريعَ وصنع السياسات العامة.
-
إدراك أن الانتخاب ليس لحظة، بل علاقة مستمرة بين المواطن والمجال العام.
ثانيًا: لماذا غابت الثقافة الانتخابية في مصر؟
غياب الثقافة الانتخابية ليس وليدَ اليوم، بل هو نتيجةُ تراكماتٍ تاريخية، أبرزُها:
-
تكرار التزوير، مما خلق شعورًا عامًا بأن النتائج لا تعكس الإرادةَ الحقيقية.
-
غياب التثقيفِ السياسي من المدرسة والإعلام، لصالح الخطاب التلقيني أو الترفيهي.
-
تحويل السياسة إلى دائرةٍ نخبوية أو أمنية، بعيدةٍ عن المواطن العادي.
-
تغليب الولاءات الطائفية أو القبلية أو العائلية على الاختيار الواعي للبرامج والأفكار.
-
تجارب محبطة متكررة دفعت كثيرين إلى العزوف أو التصويت العشوائي.
ثالثًا: ما نتائج غياب الثقافة الانتخابية؟
عندما تغيب الثقافة الانتخابية، تتحول الانتخابات من ممارسة ديمقراطية إلى طقس شكلي. ومن أبرز النتائج:
-
اختزال النائب في دوره الخدمي فقط، وغياب دوره السياسي والرقابي.
-
صعود المالِ السياسي والرشاوى كأداة لحسم النتائج.
-
تصويت قائم على المصالحِ الضيقة، لا على البرامج أو المبادئ.
-
غياب المحاسبة بعد الانتخابات، فلا أحد يُسائل النائب أو يحاسبه.
-
زيادة في نسبِ العزوف، خاصة بين الشباب، الذين يرون في المشاركة عبثًا لا جدوى منه.
رابعًا: من المسؤول عن بناء هذه الثقافة؟
بناء الثقافة الانتخابية مسؤولية جماعية تشترك فيها:
- الدولة: عبر تطوير المناهج التعليمية، والإعلام الرسمي الذي يجب أن يتحول من أداة دعاية إلى منبر تثقيف.
- الأحزاب: من خلال حملات التوعية والتواصل المستمر مع القواعد الشعبية، لا فقط خلال موسم الانتخابات.
- المجتمع المدني: عبر مبادرات ومشروعات توعية، ومساحات تدريب على الممارسة الديمقراطية.
- الإعلام المستقل: بتقديم محتوى سياسي مبسط، وقصص ملهمة، وبرامج تثقيفية تُقرب المفاهيم من الناس.
- كل مواطن واع: بتجربة المشاركة والتأثير والتثقيف الذاتي.
خامسًا: لا ثقافة بلا ممارسة
الثقافة لا تنشأ في فراغ، بل تُبنى بالتراكم والممارسة. ولذلك:
- نحتاج إلى انتخابات تُجرى بانتظام، ولا تُؤجَّل إلى أجل غير مسمى، كما في المحليات.
- نحتاج إلى مشاركة فعلية للشباب والنساء، لا مجرد نسب في النصوص.
- نحتاج إلى نقاش عام مفتوح، بلا خطوط حمراء، ليشعر المواطن أن رأيه مسموع.
- نحتاج إلى مدارس سياسية تُخرّج أجيالًا تُجيد الفهم والمشاركة، لا الحشد والتصفيق فقط.
سادسًا: من أين نبدأ؟
- التعليم: دمج مفاهيم التعدد، والمسؤولية، والاختيار الحر في المناهج.
- الإعلام: إنتاج محتوى شعبي يعيد ربط الناس بالسياسة بلغة بسيطة.
- الحملات الشعبية: لقاءات مباشرة، ومبادرات في الشوارع والمراكز المجتمعية.
- استغلال التكنولوجيا: فيديوهات قصيرة، بودكاست، كوميكس، كاريكاتير.
- تشجيع الممارسة: داخل الجامعات، النقابات، الأندية، الجمعيات، ليعيش المواطن لحظة الانتخاب ويتعلم منها.
ختامًا: ديمقراطية بلا وعي = قشرة هشة
يمكن لأي نظام أن يضع قوانين عادلة وينشئ مؤسسات مستقلة، لكن من دون مواطن يمتلك وعيًا انتخابيًا حقيقيًا، ستظل الديمقراطية قشرة هشة تنهار مع أول اختبار. فالثقافة الانتخابية ليست ترفًا ولا رفاهية، بل هي الضمانة الوحيدة لاستمرار الإصلاح السياسي والاجتماعي، وهي الجسر بين صندوق الانتخاب وتغيير الواقع. فالديمقراطية لا تُمنح من أعلى، بل تُبنى من القاعدة، ولبناتها الأولى تبدأ من وعي الناس بحقوقهم، وفهمهم لمسؤولياتهم، وقدرتهم على المحاسبة والمساءلة.
لقد حاولنا، في هذه السلسلة من المقالات، أن نطرح الأسئلة الجوهرية حول النظام الانتخابي في مصر، وأن نفتح نوافذ للتفكير في بدائل واقعية وممكنة. لكن أي تغيير حقيقي لا يبدأ فقط من تعديل قانون أو إدخال نظام انتخابي جديد، بل من الإنسان نفسه: من وعيه، من إيمانه بدوره، ومن استعداده لتحمل مسؤولية اختياره.
فلا ديمقراطية بلا انتخابات نزيهة، ولا انتخابات نزيهة بلا وعي مجتمعي، ولا وعي بلا تثقيف وممارسة ومشاركة، ولا أمل في المستقبل، إلا حين يشعر كل مواطن أن صوته يصنع فارقًا، وأن انحيازه للحقيقة، في صندوق صغير، يمكن أن يُغيّر وجه الوطن.