في منتصف منزل صغير المساحة، ذي حوائط بُنيت من الطوب والطين، وسقف خشبي من ألواح المارين المغطى بطبقات من البلاستيك وطبقة أخرى من الطين، تجلس أم آية وآيات، وأختها أم أسماء وسمر؛ وهنّ من فقدن ثلاث فتيات، بينما ترقد الرابعة في أحد المستشفيات بين الحياة والموت.
خلال زيارتي إلى كفر السنابسة رفقة مجموعة من الصحفيات، كنّ قد اتفقن على التوجّه إلى محافظة المنوفية لتقديم واجب العزاء لأسر فتيات قرية العنب، بدعوة من لجنة المرأة بنقابة الصحفيين، لم يكن أمامنا سوى هذا الطريق "الإقليمي"، الذي يُطلق عليه البعض بحق "طريق الموت".
منذ لحظة تحرّكنا من أمام نقابة الصحفيين، لم يفارقني شعور الخوف، وكنتُ على يقين بأننا معرضات للخطر في أي لحظة.

هذا هو الطريق نفسه الذي شهد الحادثة المفجعة صباح الجمعة، والتي راح ضحيتها 19 شخصًا، بينهم 18 فتاة تتراوح أعمارهن بين 14 و20 عامًا، كنّ في طريقهن إلى العمل في مزارع العنب، مقابل أجر يومي لا يتجاوز 130 جنيهًا، بعد 12 ساعة من العمل المتواصل.
في طريق الموت.. النجاة محضُ صدفة
هذا الطريق الذي لا تزال رائحة الموت تعبق فيه، وكأنه وحش كاسر يلتهم كل روح آمنت بأن بإمكانها الإفلات من براثن الفقر والعوز والحاجة، بل ومن الموت جوعًا. لم يُمهلهن الإهمال ولا استهتار المسؤولين بأرواح البشر، حتى يرين بصيصًا مما كنّ يحلمن به ذات يوم.
الحارات ضيقة لا تتسع سوى لسيارة واحدة. كانت مكتظة بشاحنات النقل الثقيل، التي تمضي غير آبهة بما حولها. معدات متناثرة، وحفر وتكسّرات، وأسلاك كهربائية ممتدة على جانبي الطريق، موصولة بكشافات ضعيفة وُضعت على عجل من قِبل مسؤول يحاول إثبات أن الطريق "مضاءً"، توحي زيفًا بأنه سيكون آمنًا، لكن فقط بعد أن يحصد المزيد من الأرواح.
لم يهتم المسؤولون الذين أشرفوا على إنشاء هذا الطريق بتركيب أعمدة إنارة حقيقية، وكأنهم، عن قصد أو غير قصد، يشاركون في تخفيف الكثافة السكانية.
في طريق العودة، بدأت زخات المطر تهطل، وكانت الشمس في طريقها للغروب. لم يكن في خاطري سوى دعاء واحد: أن أعود إلى أطفالي سالمة. كنت أدرك أن من حالفه الحظ وسبق الغروب، ربما ينجو، أما من يتأخر، ففرص النجاة تتضاءل مع كل شعاع يغيب من ضوء الشمس.

أمهات ثكالى بين الصمت والاستسلام

في مشهدٍ يُجسّد الاستسلام والرضا بقضاء الله، جلست والدة آية وآيات، وإلى جوارها أختها، والدة سمر وأسماء، يتلقّين العزاء في بناتهن الثلاث. تتحدثان بفخر عن فتياتهن اللواتي تفوقن دراسيًا، وعملن منذ الصغر في مزارع العنب والفراولة وغيرها، لتأمين مصاريف المعيشة.
إحداهن كانت طالبة في كلية الآداب، وأخرى اختارت الاكتفاء بالدبلوم لتُفسح المجال أمام شقيقاتها لمواصلة التعليم، وثالثة كانت تستعد للانتقال إلى المرحلة الإعدادية في العام المقبل.
في حضن والدته، يبكي محمد، الطفل ذو الأعوام العشرة، وقد غادرته شقيقاته دون وداع في صباح يومٍ مشؤوم. يبكي بحرقة، عاجزًا عن فهم سبب رحيل إحداهن ووجود الأخرى في المستشفى، بعدما خرجن فقط للعمل. لا يدرك لماذا ماتت أخته، ولماذا يترك الموت هذا الأثر القاسي في قلبه الصغير.
لا تدري الأمهات الثكالى بأي ذنب قُتلت بناتهن بالإهمال. أهو القدر؟ أم الفقر؟ أم تخلّي الدولة عن فتيات قرويات تُركن فريسة للواقع القاسي، حتى التهمهن هذا الطريق سيء السمعة.
بذات الصبر والإيمان، تحدثت والدة شيماء وجنى إلى "فَكّر تاني". الأم التي خُطفت منها ابنتاها دفعة واحدة، ولم تبقَ لهما واحدة لتواسيها في مرارة الفقد: "راحوا البنتين، ماعنديش غيرهم، فاضل ولدين بس، لكن البنات راحت...".

لم تتجاوز الأربعين عامًا، تتحدث عن أحلام ابنتيها، وعلى وجهها لمعة فخر: "كانوا بنات جدعة وشاطرين، إيد أبوهم ورجله... جوزي غلبان، فلاح باليومية... شيماء كانت عندها 19 سنة، بتشتغل من وهي في إعدادي، ويوم الحادثة كان جاي عريس بالليل عشان يخطبها...".
لم يكن الموت نهاية الأجساد فحسب، بل خطف معه الحياة بكل ما تحمله من معنى: الأحلام، والطموحات، والمستقبل. تقول الأم بصوت منكسر: "بناتي كانوا شاطرين ومتعلمين... جنى نتيجتها طلعت تاني يوم الوفاة، جايبة 95%، وكان نفسها تدخل معهد تمريض عسكري، ولما أبوها قالها مش معايا 50 ألف، قالت هي وأختها: هنشتغل ونجمع الفلوس...".
وجدت أم البنتين جوابًا كتبته جنى، ابنتها ذات الأربعة عشر عامًا، خبأته تحت وسادتها، تحدّثت فيه عن حبها للوطن واستعدادها للتضحية من أجله، فداءً لمصر. لكنها تقول، بنبرة مريرة:
"الوطن ماكانش يعرف إن في بنت بتحبه كده، وسلبها روحها...".
تسكن العائلة في منزل متواضع من طابق واحد بُني من الأسمنت المسلح، تؤكد الأم أن بناتها شاركن في بنائه، بعدما عملن في المزارع وأسّسن جمعيات ادّخار مع نساء القرية، وساعدن والدهن في تغطية تكاليف البناء.
لكن شيماء وجنى لم تكونا وحدهما في الرحيل. خطف الموت أيضًا ابنة عمهما. ثلاث فتيات من بيتٍ واحد، كبرن معًا، وعملن معًا، ورحلن معًا.
عايزين بناتنا ما يخرجوش تاني
على خلاف الأمهات اللواتي تحدثن بصبرٍ واستسلام، بدت والدة تُقى غاضبة، بوجه يعلوه السخط، ونبرة يختلط فيها الحزن بالغضب المكبوت.
كانت لا تزال تحت وقع الفاجعة، حين تحدثت إلى فكّر تاني، وقد فقدت من وصفتها بـ"حتة من روحي".
لا تطالب بتعويض ولا شفقة من أحد. شيئ واحد فقط هو ما تريد: وقف نزيف دماء بنات القرية، بتوفير فرص عمل داخلها، تحميهن من الخروج اليومي إلى "طريق الموت".

تسكن الأم في منزل متواضع من طابق واحد، مبني من الطوب والطين، كما هو حال معظم بيوت كفر السنابسة. ورغم قسوة المعيشة، كانت قلقة دومًا من ذهاب ابنتها إلى العمل، خوفًا من مكروه قد يصيبها.
تقول: "يوم الحادثة، راحت عليّا نومة، وتُقى ما صحيتش لوحدها كالعادة... لقيتها بتصحيني علشان تاخد مني فلوس وتروح الشغل. قولتلها: بلاش، أنا قلقانه عليكِ، لسه كان في حادثة الأسبوع اللي فات. ردت وقالت: ربنا يستر، لازم أروح أجيب مصاريفي...".
رغم إيمانها العميق بقضاء الله وقدره، لم تُخفِ أن تقى ألمها لفقدان ابنتها، وهي الطالبة في المرحلة الإعدادية، في قرية لا تضم سوى مدرسة إعدادية واحدة، وتفتقر إلى مدرسة ثانوية أو معهد أزهري. لتُدفع الفتيات، صغارًا وكبارًا، جبرًا إلى مغادرة القرية يوميًا، طلبًا للتعليم أو العمل، في طرق لا ترحم.
كانت تُقى تعمل، مثل أغلب فتيات القرية، في جمع العنب بمحطات الفرز والمزارع، مقابل أجر لا يتجاوز 130 جنيهًا في اليوم، نظير 12 ساعة من العمل المتواصل، تتخللها استراحة لنصف ساعة فقط. ولا تحصل الفتيات على أي بدل في حال العمل الإضافي، كما تؤكد الأم.
"مش عايزين لا تعويض ولا كلام... إحنا بس عايزين بناتنا يشتغلوا هنا، ما يخرجوش تاني، كفاية اللي راح...".
جميعنا خارج حسابات الحكومة
اسمها أمينة كانت تعزي في أطفال جيرانها، وهي لا تتجاوز الثلاثين من عمرها، وإن بدت أكبر بسنوات، أمٌ لثلاث فتيات، بينما زوجها يعمل باليومية، مثل كثيرين من أهالي كفر السنابسة.
"الحكومة والإعلام وناس كتير على الفيس بيهاجمونا علشان بنخلف! بيقولوا علينا السبب في اللي حصل لبناتنا، طيب إحنا لما نخلف 3 أو 4 يبقوا كتير؟ ماحدش فيهم بيساعدنا نأكّلهم ولا يعلّمهم... هما عايزينا نقطع نسلنا علشان ما نوجعهمش بمشاكلنا؟".

كلمات أمينة تلك، لـ فَكّر تاني، كانت أشبه بتراكمات سنوات من الإهمال والقهر، لا حادثة عابرة. بدت كما لو كانت تتحدث باسم قرية كاملة، أو ربما باسم ريف كامل يغيب عن خرائط الدولة، إلا حين يتعلق الأمر بالموت.
حاولت أمينة، بطريقتها البسيطة، أن تصنع من لقاء نساء القرية نقطة بداية. جمعت بعضهن أمام عدسة صحفية علّ مقالًا، أو حتى خبرًا، ينجح فيما لم تنجح فيه دماء بنات القرية.
تنظر إلى السماء، وتضيف: "مش عارفين الدولة مش شايفة إن البنات دول كنز؟ لو اتعمل مصانع أو مشروعات هنا، كلنا نشتغل، وإحنا وولادنا ننتج، والحكومة تصدّر وتدخل عملة صعبة بدل ما ندفنهم في الطريق كل يوم!".
في صوتها شيء من الكبرياء الذي لم يكسره الفقر، وفي عينيها دمعة لا تريد أن تنزل. تخبرنا أن بناتها سيلتحقن، حين يكبرن، بالعمل في مزارع العنب والفراولة، كما فعلت بنات الجيران. لا بدائل أمامهن، ولا مدارس تستوعب أحلامهن.
تلقي أمينة شهادة أخيرة باسم كل الأمهات:
"هما فاكرينا مش متعلمين ولا فاهمين؟ لا، إحنا فاهمين كويس. العيب مش في عدد عيالنا، المشكلة إن محدش بيفكر فينا، وإن شبابنا بيتسابوا كده، يضيعوا واحدة واحدة... وإحنا بندفنهم ساكتين".
مطالب آدمية أمام حكومة "مش هنا"
رغم فداحة الفاجعة، نفى أهالي كفر السنابسة تلقّيهم أي زيارة من مسؤول رسمي، لا تعويضات، أو تحقيقات علنية في أسباب الكارثة، ولا حتى واجب عزاء من محافظ المنوفية، الذي - بحسب الأهالي - لم يكلّف نفسه المرور على الأسرة المنكوبة.
المطالب التي تكررت على ألسنة الجميع بدت بسيطة، بل ومؤلمة في بساطتها: مشروعات داخل القرية تحمي الفتيات من الخروج اليومي إلى المزارع البعيدة، وترفع عنهن خطر "طريق الموت".
إصلاح الطريق نفسه الذي بات أولوية قصوى، بعد أن حصد الأرواح بلا حساب، دون أن تلتفت الدولة لحقيقة ما يجري عليه كل صباح.
يعيش هؤلاء وأطفالهم منذ سنوات على مياه الطلمبات والموتورات، ويطالبون بمدّ شبكات المياه الحكومية، كما يطالبون بإدخال الصرف الصحي وخطوط الغاز الطبيعي، أسوةً بقرى مجاورة.
يريدون فقط أن تُفتح تصاريح البناء والتصالح على بيوتهم، حتى يستطيعوا بناء وحدات سكنية بسيطة لأبنائهم دون خوف من الإزالة أو المخالفات.
مطالب لا تتجاوز الحد الأدنى من الحياة الكريمة، لكنها تصطدم بحائط الصمت واللامبالاة، في قريةٍ تشعر - كما قال أحد سكانها - وكأنها "خارج حدود الجمهورية". في قرية ينتظر سكانها الضحايا الجديد المحتملين لإهمال الحكومة.