لم تكن "أسماء"، ذات الـ33 عامًا من محافظة القليوبية، تعلم أن قرارها باللجوء إلى الولادة القيصّرية في ولادتها الثانية باختيارها، بعد أن قضت 12 ساعة من المخاض الطبيعي في ولادتها الأولى، سيحرمها اللحظة التي كانت تحلم بها منذ أشهر: اللحظة الأولى التي تلتقي فيها طفلتها، تلمسها، تشمها، وتمنحها قبلتها الأولى.
في ذهنها، بدت القيصرية وكأنها الطريق الأسهل. فقد انتشر مؤخرًا الحديث عن "القيصرية بدون ألم"، وبدت الفكرة مغرية بعد أن أنهكها التعب والانقباضات في المرة الأولى. لكنها لم تكن تعلم أن الثمن سيكون أغلى مما توقعت.
خرجت الطفلة مباشرة إلى الحضّانة، دون أن تمر على صدر أمها، دون أن تُحتضن للحظة واحدة. بقي جسدها الصغير هناك، داخل حاضنة زجاجية، بعيدًا عن دفء حضنها الأول، وبعيدًا عن تلك العلاقة الفطرية التي تولد مع اللمسة الأولى ومع أول رائحة ستتدفق إلى أنفها.
"ما شمتهاش… ما لحقتهاش… حتى ما عيطتش في حضني"؛ تسترجع أسماء الدقائق التي تحولت إلى غياب دام خمسة أيام، خرجت هي من المستشفى بعد يوم واحد وبقيت طفلتها وحيدة. في كل صباح، كانت تركب المواصلات من قليوب إلى عين شمس، تحاول أن تلحق ببعض من اللحظة التي فاتت، تحمل معها أمل الرضاعة الطبيعية، لكن الطفلة كانت قد اعتادت على الحليب الصناعي.
"رفضتني"؛ تقول أسماء التي كانت تحلم بأن ترضع ابنتها. "بس هي كانت خلاص... خدت على اللبن الجاهز".
لم تكن مجرد رضعة ما فاتها، بل بداية كاملة حرمتها الولادة القيصّرية منها. الارتباط النفسي، وبداية الرضاعة الفورية - كلها لحظات ضاعت، لتحل مكانها الأجهزة والأنابيب.
الولادة القيصّرية التي اختارتها أسماء، لم تجلب لها الراحة كما وُعدت، بل كانت سببًا في انفصال مبكر لم يكن ضروريًا، لكنه أصبح واقعًا بسبب قرار تظن اليوم أنه كان يحتاج وعيًا أكبر.
وأسماء ليست وحدها. فمع الارتفاع المقلق في معدلات القيصّرية بمصر، أصبح حضن الأم يُستبدل بالحضّانة، ليس دائمًا لأسباب طبية، بل أحيانًا تحت شعار "الراحة والأمان". ووسط هذا المشهد، راجت الحضّانة كما راجت تجارة "القيصرية بدون ألم" - تجارة يدفع ثمنها الطفل، وتُعلن فيها الأمومة من خلف زجاج.
72% من الولادات المصرية "قيصرية"
في أكتوبر الماضي، كشفت الدكتورة عبلة الألفي، نائب وزير الصحة والسكان لشؤون السكان، أن 72% من إجمالي الولادات في مصر تتم عبر عمليات قيصّرية، وهي نسبة مرتفعة بشكل لافت وتفوق المعدلات العالمية الموصى بها، ما يشير إلى تحول هذا النوع من الولادةات من إجراء طبي استثنائي إلى خيار شائع يُعتمد عليه دون مبررات طبية كافية.
وخلال ورشة عمل نُظّمت بالتعاون بين وزارة الصحة ومنظمة اليونيسف، حذرت الألفي من التداعيات الخطيرة لهذا التوسع، مشيرةً إلى أن الولادات القيصّرية تُضعف فرص الطفل في الحصول على الرضاعة الطبيعية خلال الساعة الأولى من ولادته، وهي ما يُعرف طبيًا بـ"الساعة الذهبية". وأوضحت أن فقط 27% من الأطفال المصريين يتمكنون من بدء الرضاعة خلال هذه الفترة الحرجة، وهو ما يرتبط بتراجع المؤشرات الصحية للأطفال لاحقًا.
وأشارت الألفي إلى أن المرحلة الممتدة من بداية الحمل وحتى نهاية العامين الأولين للطفل، والتي تُعرف بـ"الألف يوم الذهبية"، تمثل نحو 85% من أساس تكوين صحة الإنسان، ما يستدعي التركيز على تحسين رعاية الأم والطفل خلالها، من خلال تغذية متوازنة، ودعم نفسي، وتمكين الأم من ممارسة الرضاعة الطبيعية.
وفي السياق ذاته، كشفت تقارير صادرة عن منظمة يونيسف أن نسبة الولادات القيصرية في مصر ارتفعت من 20% عام 2005 إلى 52% في عام 2014، وهو ما رافقه تراجع في معدلات البدء المبكر للرضاعة الطبيعية من 40% إلى 27% في الفترة نفسها.
وتشير دراسة موسعة شملت 51 دولة في العام 2018 إلى وجود علاقة مباشرة بين الولادة القيصرية وتراجع فرص الرضاعة خلال الساعة الأولى بعد الولادة.
وفي السياق المصري، لم يُسمح سوى لـ19% من الأطفال المولودين قيصريًا بالبدء في الرضاعة خلال هذه الفترة، مقارنة بـ39% من الأطفال الذين وُلدوا ولادة طبيعية.
ويحذر خبراء من أن اللجوء الروتيني إلى العمليات القيصرية قد يرتبط بزيادة احتمالات الإصابة بالتوحد، ومضاعفات خلقية، وتأخر التكوين المناعي لدى الأطفال، فضلًا عن تداعيات نفسية تطال الأم نتيجة الانفصال المبكر عن وليدها.
ويؤكد مختصون على أهمية إعادة النظر في السياسات الصحية المتبعة داخل المستشفيات المصرية، عبر وضع ضوابط واضحة لاستخدام الولادة القيصرية، وتدريب الطواقم الطبية على أساليب الدعم خلال الولادة، بما يضمن توفير بيئة إنسانية وصحية للأم والطفل، وتحقيق التوازن بين الضرورات الطبية وحقوق الإنسان الأساسية.
المكان الخطأ من الخريطة.. الحضّانة ثمنًا
في إحدى قرى محافظة سوهاج، حيث تتناثر البيوت البسيطة وتتشابك المصائر مع قلة الحيلة، لم تكن رحلة حمل زوجة "أحمد" (اسم مستعار) تشبه تلك التي تُعرض في إعلانات متابعة الحمل السعيدة. لم تكن مليئة بالزيارات الطبية المنتظمة أو صور السونار التي تُعلّق بفخر على الجدران. كانت رحلة صامتة، محفوفة بالقلق المكتوم.
"عرفنا إنها حامل وخلاص... راحت للدكتور 6 مرات بالعدد، على قد ظروفنا، ومفيش متابعة ولا تحاليل ولا أي حاجة"؛ يقول أحمد، وكأنما يروي اعترافًا متأخرًا بالذنب.
غياب المتابعة الطبية ترك أثره الثقيل. جاء الطفل "سامح" إلى الدنيا بوزن أقل من الطبيعي، جسد صغير لم يكتمل نموه كما ينبغي، مما صعّب عملية ولادته. تعثرت الولادة الطبيعية بعد أربع ساعات من الطلق، وتحولت فجأة إلى ولادة قيصّرية لم تكن في الحسبان.
لكن المفاجآت لم تنتهِ عند غرفة العمليات. فبدلًا من أن يحتضن أحمد مولوده الأول، ويحمله إلى صدر أمه في أولى ساعاته، حُمل الطفل مباشرة إلى الحضّانة.
ثماني ساعات مضت على ولادة "سامح" دون أن يراه والداه. يقول أحمد: "ماعرفتش أشوفه، ولا حتى ألمحه من بعيد. قالولي خدناه عشان التحاليل، وإنه محتاج لبن صناعي لأن مراتي لسه نايمة. بس أنا كنت حاسس إن فيه حاجة مش طبيعية".
بسبب ضعف جسده ومشكلات التنفس الناتجة عن نقص الوزن، قضى سامح الطفل ستة أيام في الحضّانة. هنا، تحولت الفرحة إلى فاتورة باهظة. "قعد 6 أيام... الليلة بـ1800 جنيه، يعني فوق الـ10 آلاف جنيه في أقل من أسبوع"؛ يقول أحمد، وهو يعمل في محل للأدوات الكهربائية، بينما لا يتجاوز دخله 3 آلاف جنيه في الشهر.
"اضطريت أستلف من صاحبي وقرايبي. مكانّاش عاملين حسابنا على ده خالص". لم يغط التأمين الصحي الحكومي سوى جزء بسيط، ومع اعتماد سامح الكامل على اللبن الصناعي المكلف، دخلت الأسرة في حلقة مفرغة من النفقات.
"علبة اللبن بـ320 جنيه، والواد بيحتاج علبتين في الأسبوع. يعني فوق 2500 جنيه في الشهر بس لبن!".
يتحسر أحمد اليوم، وهو ينظر إلى صورة ابنه على هاتفه: "كل هذا الثمن الباهظ، كان يمكن تفاديه لو وجدت زوجتي طريقها إلى عيادة طبيب، لو تلقت الرعاية الصحية الأساسية. كنت فاكر إن أول يوم في حياة ابني هيكون حضن أمه، مش حضانة".
أحمد.. أزمة تترجمها الإحصائيات الرسمية
مأساة أحمد وزوجته ليست مجرد قصة فردية، بل هي التجسيد الحي لخلل بنيوي عميق في منظومة الرعاية الصحية، وهو ما تكشفه أرقام المسح السكاني الصحي لمصر لعام 2021 بوضوح صادم. فالبيانات لا تروي قصة أرقام، بل تروي قصة "أحمد" وآلاف غيره.
كما أن فجوة الرعاية بين المناطق المختلفة في مصر ليست مجرد هامش إحصائي، بل هي هوة واسعة تبتلع صحة الأمهات والأطفال.
تشير البيانات إلى أن:
الصعيد في الخلف: بينما تصل نسبة متابعة الحمل في مناطق الدلتا إلى 91%، تنخفض هذه النسبة بشكل حاد في محافظات الصعيد لتصل إلى 77% فقط.
هذا يعني أن واحدة من كل أربع نساء تقريبًا في الصعيد لا تحصل على الرعاية الكافية، مما يجعلهن أكثر عرضة لمضاعفات الحمل التي تؤدي حتمًا إلى ولادات متعثرة وأطفال ناقصي الوزن، تمامًا كما حدث مع زوجة أحمد.
الريف يدفع الثمن: النساء في المناطق الريفية كنّ أقل حظًا في الحصول على الرعاية (86%) مقارنة بنظيراتهن في المناطق الحضرية (88%).
متابعة شكلية: حتى بين من يتلقين الرعاية، فإن جودتها وانتظامها محل شك، حيث اكتفت 9% من النساء بزيارتين أو ثلاث فقط طوال فترة الحمل، وهي مدة غير كافية على الإطلاق لرصد أي مشكلات محتملة وعلاجها في الوقت المناسب.
وتفسر هذه الأرقام الرسمية لماذا لم تكن مأساة أحمد "سوء حظ"، بل كانت نتيجة شبه حتمية لكونه يعيش في المكان الخطأ من الخريطة الصحية لمصر. إنها تؤكد أن غياب المتابعة الطبية المنتظمة، خاصة في المناطق الأكثر فقرًا والأقل حظًا في الخدمات، هو السبب الجذري الذي يحول الولادة من حدث سعيد إلى بداية لأزمة مالية ونفسية، ويجعل من الحضانة محطة أولى إجبارية في حياة الكثير من المواليد.
حين يقرر الطبيب عنكِ
"ممكن الماميز اللي هنا تساعدني؟"؛ بهذه الكلمات التي تمزج بين الرجاء والارتباك، بدأت مها، أم تبلغ من العمر 29 عامًا من شبرا الخيمة، رسالتها على إحدى مجموعات الأمهات على فيسبوك.
لم تكن مها تبحث عن نصيحة طبية بقدر ما كانت تبحث عن طمأنة لقلب مضطرب. لقد وضعت طفلها للتو بولادة قيصرية لم يكن قد حان موعدها. لم تكن هناك أي بوادر ولادة مبكرة، ولا مؤشرات طبية تستدعي التدخل العاجل.
السبب، كما أخبرها الطبيب لاحقًا ببرود، كان بسيطًا ومقلقًا في آنٍ واحد: كان مضطرًا لتقديم موعد الولادة لتتناسب مع جدوله المزدحم. وهكذا، خرج الطفل قبل أوانه، بجسد أنحف من الطبيعي، وأنفاس لم تكتمل بعد لتواجه العالم. والنتيجة كانت حتمية: نُقل مباشرة من غرفة العمليات إلى الحضّانة.
في رسالتها، كتبت مها بقلق واضح: "أنا مرعوبة.. ابني دخل الحضّانة بعد الولادة على طول، ومش عارفة هيقعد هناك قد إيه؟ حد مر بالحالة دي؟". وبين الردود المتعاطفة والنصائح التي لا تهدئ قلبًا مثقلًا بالخوف، كانت مها تبحث عن شيء واحد فقط: أملٌ بأن ترى طفلها خارج الأسلاك، في حضنها الذي سُرق منها بقرار لم يكن قرارها.
طب دفاعي أم جشع طبي؟
لماذا قد يقدم طبيب على قرار يضع مصلحته وجدوله الزمني فوق صحة طفل لم يكتمل نموه؟
الإجابة لا تكمن في "جشع الأطباء" فقط، بل في منظومة معقدة من الضغوط المهنية والمادية والقانونية التي تحيط بالعمل الطبي في مصر، كما تقول الدكتورة مروة فتحي، استشاري أمراض النساء، والتي تصف ما يحدث بأنه "مأساة حقيقية"، حين تتحدث عما تُعرّفه بمفهوم "الطب الدفاعي".
تشرح د. مروة قائلة: "في الخارج، لا يستطيع أي طبيب اتخاذ قرار القيصرية دون توثيق طبي دقيق، وإلا واجه تحقيقًا وعقوبة. أما في مصر، فالطبيب يتحمل مسؤولية كاملة في عيادة قد تكون غير مجهزة، دون دعم قانوني أو فريق تخدير متكامل. لذا، يتخذ قرار القيصرية كإجراء أسرع وأكثر أمانًا لحماية المريضة ونفسه من أي مخاطر محتملة للولادة الطبيعية".
هذا الخوف من المساءلة في ظل غياب الحماية يدفعه لاختيار الطريق الذي يبدو "أسلم" له، حتى لو لم يكن الأفضل طبيًا؛ تشير د. مروة في حديثها لـ فكر تاني.
وتضيف د. مروة بعدًا آخر يتعلق بالظروف المادية للطبيب: "في الخارج، كنت أعمل في مستشفى حكومي براتب يكفل حياة آدمية. أما في مصر، فرغم أنني أعمل منذ 20 عامًا، لم يتجاوز راتبي 7 آلاف جنيه. فكيف يمكن للطبيب أن يعيش أو يعمل تحت هذه الظروف؟".
يضيف النائب الدكتور مكرم رضوان، عضو لجنة الصحة بالبرلمان، بُعدًا آخر وهو الحافز المادي المباشر. يؤكد أن المشكلة تتضح أكثر في العيادات الخاصة، حيث تكون العمليات القيصرية "أكثر سهولة وربحية" للطبيب مقارنة بالولادة الطبيعية التي تتطلب وقتًا ومجهودًا ومراقبة أطول.
ويقترح رضوان حلًا جذريًا لهذه المعضلة: "توفير حافز مادي للأطباء عند إجرائهم ولادة طبيعية بدلًا من اللجوء غير الضروري إلى قيصرية"، وذلك لخلق توازن يضمن أن يكون القرار الطبي مبنيًا على مصلحة المريض فقط.
إذًا، قصة مها ليست مجرد حالة استعجال فردية، بل هي نافذة نطل منها على واقع الطبيب المصري الذي يعمل تحت ضغط الخوف من المساءلة، ونقص الإمكانيات، والحاجة المادية، مما يجعل من الولادة القيصرية المجدولة مسبقًا خيارًا مغريًا ومريحًا له، حتى لو كان ثمن هذه الراحة هو حرمان أم من حضن طفلها، ووضع مولود جديد في مواجهة مباشرة مع أسلاك وأنابيب الحضانة.
المسؤولية المفقودة والإقرار الذي لا يحمي
"أنا بكرية، يعني أول مرة أولد، والدكتورة ولدتني قيصري في أول التاسع. مع إن ماكانش عندي أي أعراض ولادة مبكرة، ولا أسباب طبية واضحة تستدعي الولادة في الوقت ده. وفوجئت إن ابني دخل الحضانة بعدها على طول".
في منشور قصير على إحدة مجموعات الأمهات، شاركت "نهال" (اسم مستعار) قصتها في منشور. لم تكن تبحث عن التعاطف بقدر ما كانت تبحث عن إجابة لسؤال يؤرقها منذ لحظة خروجها من غرفة العمليات: "هل أقدر أعمل حاجة قانونية؟ هل من حقي أسأل ليه ولّدوني قبل ميعادي؟". لكن الردود التي تلقتها كانت بمثابة جدار صلب من اليأس.
أجمعت أغلب الأمهات على أن الأمر شبه مستحيل. "مش هتقدري تعملي حاجة، لأنك وافقتي بالفعل"؛ كتبت إحداهن. وأضافت أخرى: "إحنا كلنا مضينا نفس الإقرار، ومفيش أي حاجة بتطلع من وراه".
كانت الصدمة الأكبر ليست في الكلمات، بل في الإجماع على أن لا أحد سيُحاسَب، وأن المسؤولية ستُلقى في النهاية على الأم، حتى لو لم تكن تملك الخبرة ولا المعرفة لتقييم القرار الطبي.
في تعليق لاحق، كتبت نهال كأنها تحدث نفسها: "هو أنا كان عندي خبرة كفاية؟ هل كنت مؤهلة إنّي أعرف إن اللي حصل ده غلط؟ أنا وافقت لأني كنت خايفة... كنت حاطة ثقتي فيهم. بس هل ده معناه إني أتحمّل النتيجة لوحدي؟".
لم تكن نهال تبحث عن مشورة طبية، بل عن اعتراف بأن ما حدث لم يكن طبيعيًا، وأن الحضّانة لم يجب أن تكون بداية حياة طفلها. لكنها وجدت نفسها عالقة بين خيارين: إما الصمت، أو قبول ما حدث باعتباره "قدرًا طبيًا" لا يجوز مساءلته.
قانونًا.. الإقرار ليس صك غفران
هل الإقرار الذي وقعت عليه نهال، والذي توقعه آلاف الأمهات قبلها، هو بالفعل نهاية الطريق الذي يُسقط حقهن في المساءلة؟
القانون هنا له رأي مختلف تمامًا، توضحه الأستاذة الدكتورة علا فاروق صلاح عزام، أستاذ ورئيس قسم قانون العمل والتشريعات الاجتماعية بكلية الحقوق جامعة حلوان، التي تفند هذا الاعتقاد الشائع بشكل قاطع.
الإقرار إجراء إداري لا يُعفي من المسؤولية، كما تؤكد د. علا، والتي توضح أن "توقيع المرضى على إقرارات بالموافقة على إجراء عملية جراحية، ومنها الولادة القيصرية، لا يُعد مسوّغًا قانونيًا يُعفي الطبيب أو المؤسسة الطبية من المسؤولية".
وتضيف في حديثها لـ فكر تاني أن هذا التوقيع هو مجرد إجراء إداري لاستكمال الملف الطبي، "ولا يُسقط بأي حال من الأحوال المسؤولية القانونية حال وقوع ضرر".
ووفق هذا، فإن الطرق القانونية متاحة وواضحة: إذا تضررت الأم أو مولودها نتيجة خطأ أو إهمال طبي، فإن الطريق القانوني مفتوح عبر عدة مسارات:
- المسؤولية المدنية (التعويض): يمكن رفع دعوى قضائية للمطالبة بتعويض مادي عن الضرر الذي وقع، استنادًا إلى المادة 163 من القانون المدني التي تنص على أن "كل خطأ سبب ضررًا للغير يلتزم من ارتكبه بالتعويض".
- المسؤولية الجنائية (العقوبة): في حالات الإهمال الجسيم الذي يؤدي إلى إصابة أو عاهة مستديمة، يمكن أن تصل الأمور إلى المحاسبة الجنائية بموجب المادتين 238 و244 من قانون العقوبات، والتي قد تصل عقوبتها إلى الحبس.
- المساءلة التأديبية: يمكن للأم تقديم شكوى إلى الجهات الرقابية كوزارة الصحة أو نقابة الأطباء، وهي جهات تملك سلطة التحقيق مع الطبيب وتوقيع عقوبات تأديبية عليه حال ثبوت الخطأ.
كما أن غياب السوابق لا يعني غياب الحق، كما تشير د. علا، لأنه "رغم عدم وجود سوابق قضائية معروفة في مصر لأمهات رفعن دعاوى مباشرة" في مثل هذه الحالات، فإن هذا لا يعني أن الحق غير موجود، بل إنما الوضع يعكس ثقافة الصمت والخوف وصعوبة إثبات الخطأ.
إذًا، جهل "نهال" بحقوقها، والإجماع الخاطئ الذي وجدته على وسائل التواصل الاجتماعي، هما ما كرسا ثقافة الإفلات من العقاب، وليس الإقرار الطبي نفسه.
والقانون في هذه المسألة واضح: الثقة التي تضعها المريضة في طبيبها لا تعني التنازل عن حقها في مساءلته إذا ثبت أنه أخلّ بهذه الثقة وتسبب في ضرر كان يمكن تفاديه.
الصورة الكبرى.. حين تدق الدولة ناقوس الخطر
القصص المؤلمة لـ "أحمد" و"مها" و"نهال" ليست مجرد حوادث فردية متناثرة، بل هي أعراض لظاهرة مقلقة تحولت إلى أزمة صحة عامة في مصر. والأدلة على ذلك ليست مجرد استنتاجات، بل هي تصريحات رسمية وإحصائيات مدوية صادرة عن كبار المسؤولين والخبراء، ممن دقوا ناقوس الخطر معلنين أن العلاقة بين التوسع غير المبرر في الولادات القيصرية وتكدس الحضانات أصبحت حقيقة لا يمكن تجاهلها.
خلال العامين الماضيين، تواترت الأصوات داخل المجتمع الطبي والجهات الحكومية، لتشكل إجماعًا واضحًا على حجم الأزمة:
إقرار وزاري بالأرقام الصادمة:
في يوليو 2022، جاء التحذير من أعلى مستوى، حيث أعلن الدكتور خالد عبد الغفار وزير الصحة، أن نسبة الولادة القيصرية في مصر وصلت إلى نحو 85% من إجمالي الولادات، وكشف عن رقم مفزع آخر: نحو 60% من الأطفال حديثي الولادة يُضطرون إلى دخول الحضّانات. وشدد الوزير على أن "القرار بشأن نوع الولادة ليس خيارًا شخصيًا للحامل، بل هو قرار طبي خاضع لتقييم دقيق".
ولم تكن تصريحات الوزير معزولة عما أكدته الدكتورة عبلة الألفي، المشرفة على مبادرة "الألف يوم الذهبية"، إذ قالت إن "العمليات القيصرية غير المبررة باتت من أبرز الأسباب المؤدية إلى تكدس الحضّانات في المستشفيات"، مشيرةً إلى أن خفض هذه المعدلات أصبح ضرورة طبية واقتصادية واجتماعية.
نقابة الأطباء: القيصّرية تسرع خطير
ومن داخل الجسم الطبي نفسه، جاء التحذير واضحًا. وصرح الدكتور خالد أمين، عضو مجلس نقابة الأطباء، بأن "الولادة القيصرية تضاعف ثلاث مرات احتمالات دخول الطفل إلى الحضّانة مقارنة بالولادة الطبيعية"، مُحمّلًا المسؤولية للتوسع غير المبرر في القيصريات، خاصةً في القطاع الخاص، والتسرع في تحديد موعد الجراحة قبل أن تكتمل رئة الجنين.
درسة عالمية: من الحضّانة للعناية المركزة
ولا تعتبر هذه الملاحظات المحلية فريدة من نوعها، بل هي انعكاس لنمط عالمي مثبت علميًا. ففي العام 2009 وتحت عنوان "Neonatal Outcomes After Elective Cesarean Delivery"، نشرت المكتبة الوطنية الأمريكية للطب (National Library of Medicine - NLM) دراسة مهمة توصلت وبشكل قاطع إلى أن الولادات القيصرية الاختيارية ترتبط بزيادة ملحوظة في معدلات دخول الأطفال حديثي الولادة إلى وحدة العناية المركزة (NICU) ومضاعفات تنفسية مقارنة بالولادة الطبيعية. وقد كانت معدلات دخول الحضّانة للمواليد من القيصرية المتكررة ضعف نظيرتها في الولادات الطبيعية (9.3% مقابل 4.9%).
هذا الإجماع الرسمي والعلمي يحول القضية من مجرد مجموعة من الشكاوى الفردية إلى أزمة وطنية معترف بها. إنه يثبت أن كل طفل يدخل الحضّانة بسبب قيصرية غير ضرورية ليس مجرد مأساة عائلية، بل هو أيضًا رقم يضاف إلى إحصائية مقلقة، وعبء جديد على نظام صحي مثقل بالفعل، وضغط إضافي على حضّانات أصبحت عملة نادرة. إنها الصورة الكبرى التي تؤكد أن التعامل مع الولادة القيصرية كخيار روتيني أو مريح هو ما يجعلها تتحول إلى بوابة لعزلة المولود المبكرة داخل زجاج الحضّانة، بدلًا من حضن الأم.
من الحضّانة إلى الحضن.. الطريق الذي يُنقذ مواليدنا
من صرخة "أسماء" الصامتة وهي ترى طفلتها تُسحب بعيدًا، إلى فاتورة "أحمد" الباهظة في الصعيد، مرورًا بقرار طبيب "مها" المستعجل، وحيرة "نهال" القانونية، تتشكل فصول مأساة مصرية واحدة: تحوُّل الولادة القيصرية من إجراء منقذ للحياة إلى بوابة شبه حتمية للحضانة.
لقد أثبتت القصص والإحصائيات والتصريحات الرسمية أننا لا نواجه حوادث فردية، بل أزمة منظومة صحية واجتماعية واقتصادية. وأن الطريق الذي يبدأ بنقص الرعاية الأولية في القرى، ويمر بمنظومة "الطب الدفاعي" والحوافز المادية في العيادات الخاصة، وينتهي بثقافة الصمت وغياب المساءلة، لا يمكن أن يؤدي إلا إلى نتيجة واحدة: أطفال يبدأون حياتهم خلف زجاج بارد بدلًا من دفء أحضان أمهاتهم.
لكن وسط هذه الصورة القاتمة، يبدأ الحل بالاعتراف الرسمي بالأزمة، وهو على أعلى المستويات ولم يكن مجرد تشخيص، بل كان الخطوة الأولى نحو العلاج، الذي قد يكون عبر عدة مسارات متكاملة:
التوعية والتثقيف الصحي: تبرز مبادرة "الألف يوم الذهبية" التي أطلقتها وزارة الصحة كنموذج رائد. فمن خلال توفير غرف مشورة مخصصة في الوحدات الصحية على نطاق واسع، تهدف المبادرة إلى إعادة بناء جسر الثقة مع الأمهات، وتقديم التثقيف اللازم حول أهمية الولادة الطبيعية وفوائد الرضاعة المبكرة، لتسليح الأم بالمعرفة التي تمكنها من اتخاذ قرارات واعية.
إعادة هيكلة الحوافز: المقترحات الجادة، كتلك التي قدمها النائب مكرم رضوان بتوفير حافز مادي للأطباء عند إجرائهم ولادة طبيعية، هي اعتراف ذكي بأن تغيير سلوك المنظومة يتطلب تغيير حوافزها. فمثل هذه الآليات تكسر الحلقة التي تجعل القيصرية هي الخيار الأسهل والأكثر ربحية، وتضمن أن تكون مصلحة الأم والطفل هي البوصلة الوحيدة للقرار الطبي.
تفعيل الرقابة والمساءلة: التشديد على أهمية قانون المسؤولية الطبية، وإلزام الأطباء بتدوين سبب اتخاذ قرار القيصرية في الملف الطبي بدقة مدعومة بالأدلة، هو خطوة حاسمة نحو إنهاء عصر القرارات غير المبررة. إن تفعيل آليات الرقابة، خاصةً في القطاع الخاص، وفتح قنوات واضحة وفعالة للشكاوى، سيضمن أن لا يفلت أي خطأ طبي من المحاسبة.
وهذا كله إنما يتطلب رؤية جماعية، وإعادة بناء لقدرات الأطباء والمنظومة الصحية، وتوعية مجتمعية واسعة، لأن الهدف النهائي ليس مجرد خفض أرقام وإحصائيات، بل هو حماية أقدس اللحظات الإنسانية، وضمان أن تكون بداية كل حياة جديدة في مصر في المكان الذي تنتمي إليه: في حضن أمها.