الكانيولا محتاجة فلوس.. قراءة في أثر التضخم على الرعاية الصحية بمصر

أظهر تقريرٌ رسمي حديث أن قسمَ الرعاية الصحية سجّل أعلى معدل تضخّم سنوي في مصر خلال شهر مايو 2025، بزيادة بلغت 40.6% مقارنةً بالفترة نفسها من عام 2024، متفوّقًا بذلك على قطاع النقل، رغم رفع الحكومة أسعار الوقود أربع مرات خلال عامٍ واحد.

ويُعزى هذا الارتفاع الكبير في قطاع الصحة إلى الزيادات التي طالت جميع مكوناته؛ إذ ارتفعت المنتجات والأجهزة والمعدات الطبية بنسبة 58%، في حين ارتفعت خدمات العيادات الخارجية بنسبة 14.8%، وخدمات المستشفيات بنسبة 20.6%.

في المقابل، حلّ قطاع النقل والمواصلات في المرتبة الثانية من حيث الزيادة السنوية، بمعدل تضخّم بلغ 36%، نتيجة ارتفاع أسعار شراء المركبات بنسبة 13.5%، وارتفاع الإنفاق على النقل الخاص بنسبة 35.7%، إضافةً إلى قفزة في أسعار خدمات النقل بنسبة 41.1%.

ورغم التوقّعات بأن يؤدّي رفع أسعار الوقود المتكرر إلى تصدّر قطاع النقل لقائمة التضخّم، فإن التأثير الأكبر انعكس على تكاليف الرعاية الصحية، ما يعكس ضغوطًا مزدوجة على المواطنين، في وقتٍ يعانون فيه من ارتفاعاتٍ متسارعة في كلفة المعيشة.

مستشفى حكومي مصري (دوتشه فيله)
مستشفى حكومي مصري (دوتشه فيله)

هل السبب السيطرة الأجنبية؟

يقول محمد فؤاد، رئيس المركز المصري للحق في الدواء، إن ارتفاع معدل التضخم في قطاع الرعاية الصحية يعود إلى عوامل متعددة، أبرزها الاعتماد على المستلزمات الطبية المستوردة التي تأثرت بشكل مباشر بارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الجنيه.

محمد فؤاد رئيس المركز المصري للحق في الدواء (وكالات)
محمد فؤاد رئيس المركز المصري للحق في الدواء (وكالات)

ويشير في تصريحاته لـ فكر تاني، إلى أن هذا التغير تسبب في نقص حاد ببعض الأصناف الحيوية مثل دعامات القلب والرئة والمفاصل الصناعية، ليرتفع سعر الدعامة الواحدة من نحو 15 ألف جنيه قبل سنوات إلى 100 ألف جنيه في القاهرة، ونحو 85 ألفًا في محافظات أخرى.

اقرأ أيضًا: حينما يبتلع التضخم صحة الأم وطفلها

وبحسب تقديرات شعبة المستلزمات الطبية بالاتحاد العام للغرف التجارية، فإن عدد الشركات العاملة في تجارة المستلزمات الطبية يبلغ نحو 6400 شركة في القاهرة فقط، وتشمل منتجاتها طيفًا واسعًا يبدأ من السماعات الطبية وصولًا إلى تجهيز العيادات الطبية الكاملة.

وفيما يتعلق بسوق الدواء، يوضح فؤاد أن القطاع يواجه ضغوطًا مماثلة نتيجة الارتفاع المستمر في أسعار الدولار، ما دفع بعض الشركات إلى تقليص الإنتاج. ويضيف أنه تم التوصل إلى اتفاق بتحرير أسعار نحو 3 آلاف صنف دوائي من إجمالي 13 ألفًا و700 صنف، قبل أن تصدر وزارة الصحة قرارًا بمراجعة أسعار الأدوية دوريًا كل 6 أشهر، بهدف مواكبة التقلبات في سعر الصرف.

أسعار الأدوية تثير الاستغراب

يضيف فؤاد أن أسعار الأدوية سجلت زيادات غير مسبوقة أثارت استغراب المواطنين، ما انعكس سلبًا على حجم إنفاقهم على الرعاية الصحية. ويوضح أن بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تُظهر تراجعًا في إنفاق ربع المصريين على الصحة بنسبة تصل إلى 15%، وهي نسبة تُعد كبيرة وتعكس عمق الأزمة.

ووفقًا لتقرير صادر عن مؤسسة “آي كيوفيا” العالمية المتخصصة في رصد حركة سوق الدواء، حققت أكبر 10 شركات أدوية أجنبية عاملة في مصر مبيعات بقيمة 60 مليار جنيه خلال عام 2024، من أصل إجمالي مبيعات للسوق بلغت 214.5 مليار جنيه، بزيادة قدرها 46% مقارنة بعام 2023.

وعلى الرغم من هذا النمو الكبير في الإيرادات، فإن عدد عبوات الدواء المباعة استقر نسبيًا عند 2.94 مليار عبوة، ما يشير إلى أن الزيادة في القيمة ناجمة عن ارتفاع الأسعار وليس الكميات.

وتُقدّر فاتورة الإنفاق السنوي على الصحة في مصر بأكثر من 200 مليار جنيه، يتحمل المواطنون نحو 68% منها، الأمر الذي دفع عددًا من المستثمرين الأجانب إلى دخول القطاع بهدف الاستحواذ وتحقيق أرباح مرتفعة، ما أدى بدوره إلى رفع أسعار الخدمات الصحية وزيادة الفجوة بين فئات المجتمع في القدرة على تلقي العلاج.

وقد أشار خبراء إلى وجود إشكالية هيكلية في القطاع الصحي تتعلق بعدم وضوح الجهة المسؤولة عن تسعير الخدمات الطبية. وأوصوا بضرورة وضع لائحة استرشادية لأسعار الخدمات بالمستشفيات الاستثمارية تُلزم بها عند إصدار التراخيص، وتعميم ذلك على معامل التحاليل والمراكز الطبية الكبرى، للحد من التفاوت الكبير في الأسعار بين منشأة وأخرى.

وفي السياق ذاته، يحذر فؤاد من تغول القطاع الخاص على الرعاية الطبية في مصر، مضيفًا أن بعض المستشفيات باتت تفرض رسومًا غير مفهومة تحت مسميات مثل “الخدمة الطبية”، والتي قد تصل إلى 95 ألف جنيه في بعض الحالات، رغم أن التكاليف الأساسية تشمل أجور الأطباء، وإيجار الغرف، والضرائب. وشبّه تلك الممارسات بما تفرضه بعض المطاعم من رسوم خدمة إضافية، معتبرًا أنها تستنزف جيوب المرضى دون مبرر قانوني واضح.

حققت أكبر 10 شركات أدوية أجنبية عاملة في مصر مبيعات بقيمة 60 مليار جنيه خلال عام 2024 (الصورة وكالات)
حققت أكبر 10 شركات أدوية أجنبية عاملة في مصر مبيعات بقيمة 60 مليار جنيه خلال عام 2024 (الصورة وكالات)

ارتفاع كبير بأرباح المستشفيات في مصر

في المقابل، سجّلت المستشفيات الخاصة المقيدة في البورصة المصرية، كمؤشر لحالة القطاع الصحي الاستثماري، أرباحًا قياسية خلال الأشهر الماضية، وسط موجة تضخم طالت أسعار الرعاية الصحية. وتعد مجموعة مستشفيات “كليوباترا” نموذجًا بارزًا، إذ ارتفع صافي أرباحها بنسبة 13.5% في الربع الأول من عام 2025 ليصل إلى 232.3 مليون جنيه، مقارنة بـ204.6 مليون جنيه في الفترة ذاتها من العام الماضي، فيما قفزت الإيرادات إلى 1.62 مليار جنيه مقابل 1.18 مليار جنيه.

وخلال عام 2024، حققت المجموعة صافي أرباح بلغ 817 مليون جنيه، بزيادة نسبتها 74.1% عن عام 2023، حيث بلغت الأرباح آنذاك 469.3 مليون جنيه. وتضم المجموعة عدة مستشفيات ومراكز متخصصة منها: مستشفى القاهرة التخصصي، والنيل بدراوي، والشروق، والكاتب، وكليوباترا أكتوبر، ومستشفى بداية، إضافة إلى عيادات ومراكز متخصصة في الشيخ زايد والتجمع، تغطي تخصصات مثل أمراض القلب والأورام والعظام والفم والأسنان وجراحات العمود الفقري والروبوت الجراحي.

اقرأ أيضًا: “الرفا والإسكافي”.. مؤشر غير تقليدي على التضخم في مصر

وفي ظل هذه الأرباح، تتجه المجموعة نحو التوسع في إدارة عدد من المستشفيات الحكومية. وقال حمادة عبد الحميد، المدير التنفيذي لمستشفى كليوباترا أكتوبر، في مقابلة مع قناة “العربية” على هامش مؤتمر “صحة أفريقيا”، إن المجموعة تدرس حاليًا إدارة ما بين 5 و6 مستشفيات تابعة للدولة في القاهرة ومحافظات الوجه البحري، بإجمالي طاقة سريرية تتراوح بين 350 و400 سرير.

ويُظهر النشاط الاستثماري المكثف في القطاع الطبي حجم النفوذ المتزايد لرؤوس الأموال الخليجية. إذ تمتلك جهات سعودية معامل “كايرو لاب” للتحاليل، وسلسلة مراكز “تكنو سكان” للأشعة التي تضم 24 فرعًا، إضافة إلى الاستحواذ على 9 مستشفيات كبرى منها الإسكندرية الدولي، وابن سينا التخصصي، والأمل، والعروبة، إلى جانب حصة 15% في مستشفى العيون الدولي.

من جهة أخرى، شهدت “مستشفى النزهة الدولي” ارتفاعًا في أرباحها بنسبة 38% خلال الربع الأول من 2025، مسجلة 39.4 مليون جنيه، مقارنة بـ28.6 مليون في الفترة المماثلة من 2024. كما بلغت أرباحها السنوية العام الماضي نحو 117.7 مليون جنيه، بزيادة 28.6% عن أرباح عام 2023 البالغة 91.5 مليون جنيه.

ولم تقتصر الزيادات على المستشفيات الخاصة فحسب، بل امتدت أيضًا إلى أسعار خدمات التأمين الصحي، مثل الزيارات المنزلية، دون وجود لائحة موحدة لتنظيم الأسعار. ووفقًا لمحمد فؤاد، فإن أرباح المستشفيات الاستثمارية تُستخرج بشكل مباشر من جيب المواطن المصري، ثم تُحوّل بالعملة الأجنبية إلى الشركات الأم، دون أن ينعكس ذلك بشكل ملموس على الاقتصاد المحلي، وسط غياب واضح للرقابة السعرية على خدمات القطاع الطبي الخاص.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة