هذه هي الحلقة الخامسة من سلسلة مقالات عن النظام الانتخابي في مصر، والتي نسعى من خلالها إلى فهم أعمق للواقع الانتخابي في البلاد، واقتراح مسارات للإصلاح والتطوير.
في المقالة السابقة (الرابعة)، تناولنا مسألة مواجهة التزوير والقمع، وناقشنا أدوات الرصد والرد والتنظيم كوسائل فعالة لمواجهة الانتهاكات. أما في هذه المقالة، فننتقل إلى أحد أكثر الأسئلة جدلًا في أي تجربة ديمقراطية تعاني من اختلالات: هل نشارك في الانتخابات رغم كل العيوب؟ أم نقاطعها اعتراضًا ورفضًا؟
والمقصود هنا بالمشاركة أو المقاطعة ليس فقط موقف الناخبين، بل يشمل بدرجة أكبر موقف القوى السياسية والأحزاب والمرشحين: هل يخوضون العملية الانتخابية رغم التحديات؟ أم يمتنعون عنها؟ وما شروط اتخاذ هذا القرار؟
فكرة المشاركة
تقوم فكرة المشاركة على أن خوض الانتخابات، حتى في ظل بيئة غير مثالية، يُمكن أن يحقق قدرًا من التأثير السياسي، سواء من خلال:
- بناء حضور جماهيري وتنظيمي على الأرض.
- استثمار الحملة الانتخابية لتوسيع قاعدة المؤيدين والتفاعل مع الجمهور.
- استغلال المساحات الإعلامية والدعائية المتاحة لإيصال الرسالة السياسية.
- كشف حجم الانتهاكات للرأي العام، وتوثيقها داخليًا وخارجيًا.
وفي حالات معينة، قد تُفضي المشاركة إلى الفوز بمقاعد محدودة تُستخدم كمنابر للمعارضة من داخل المؤسسات، وتُحافظ على الحد الأدنى من التمثيل السياسي.
أساس المقاطعة
أما المقاطعة، فترتكز على فكرة أن المشاركة في انتخابات لا تتوفر فيها أدنى معايير النزاهة والعدالة تُساهم في إضفاء شرعية شكلية على واقع غير ديمقراطي. ويستند دعاة المقاطعة إلى أن:
- المشاركة تُستخدم للتجميل الخارجي، بينما تظل النتائج محسومة مسبقًا.
- المنافسة غير متكافئة في ظل المال السياسي، وهيمنة الأجهزة الإدارية، وغياب الإعلام المحايد.
- القبول بقواعد لعبة غير عادلة يُفقد الأحزاب والمواطنين مصداقيتهم، ويُكرّس اليأس من التغيير الحقيقي.
لكن المقاطعة وحدها لا تكفي إن لم تُبنَ على موقف جماهيري واسع، وإن لم تكن مصحوبة بجهد توعوي وتنظيمي يشرح أسبابها، ويطرح بدائل سياسية مشروعة.
لا مشاركة بلا استعداد، ولا مقاطعة بلا بديل
الخطأ لا يكمن فقط في اتخاذ قرار المشاركة أو المقاطعة، بل في الطريقة التي نُدير بها هذا القرار. فمن يشارك دون استعداد، يُهدر الفرصة. ومن يقاطع دون بديل، ينسحب من الساحة ويتركها فارغة. لذلك، فإن:
- المشاركة تتطلب تنظيمًا حقيقيًا، وقدرة على الحشد، ورؤية واضحة للتعامل مع الانتهاكات.
- المقاطعة تتطلب خطة موازية لتحويل الغياب إلى حضور نوعي في الإعلام، وفي الشارع، وفي النقاش العام.
توازن مطلوب
غالبًا ما يُختزل القرار بالمشاركة أو المقاطعة في بعد أخلاقي مطلق: إما أن تكون المشاركة خيانة، أو أن تكون المقاطعة هروبًا. لكن الواقع السياسي أكثر تعقيدًا.
من المهم التمييز بين المبدأ (التمسك بالديمقراطية ورفض الانتهاكات) وبين التكتيك، أي اختيار الوسيلة الأنسب في كل مرحلة لتحقيق هذا المبدأ. فقد تكون المشاركة في لحظة معينة وسيلة لكشف زيف الديمقراطية، كما قد تكون المقاطعة في لحظة أخرى أداة لتحريك الوعي العام. الفكرة هي ألّا يتحول أي من الخيارين إلى موقف ثابت جامد لا يُراجع.

ما الذي يحسم القرار؟
لا توجد إجابة واحدة تصلح في كل السياقات. إنما يتوقف القرار على عدة عوامل:
- مدى نزاهة العملية الانتخابية: كلما توفرت شروط الحد الأدنى من الشفافية، زاد منطق المشاركة.
- القدرة التنظيمية للأحزاب: الأحزاب ذات القواعد الجماهيرية تُفيد من المشاركة أكثر من غيرها.
- وعي الجمهور السياسي: المشاركة أو المقاطعة يجب أن تكون مفهومة من قبل الناس، لا مجرد قرار نخبوي.
- الهدف السياسي العام: هل الهدف هو كشف النظام؟ أم الحفاظ على الحد الأدنى من التمثيل؟ أم بناء تنظيم طويل الأمد؟
الخطورة الحقيقية لا تكمن في المشاركة أو المقاطعة بحد ذاتها، بل في أن يتم اتخاذ أحد الخيارين دون رؤية واضحة، أو أن يتحول إلى مجرد رد فعل آني لا تُبنى عليه استراتيجية متماسكة.
القرار مسؤولية تشاركية
ينبغي ألا يُتخذ القرار بالمشاركة أو المقاطعة بشكل انفعالي أو فردي، بل يجب أن يكون حصيلة نقاشات داخل الأحزاب والقوى السياسية، ويُطرح للرأي العام بشفافية. وإذا اختارت الأحزاب المشاركة، فعليها ألا تخفي التجاوزات، بل أن توثقها وتنشرها. وإن اختارت المقاطعة، فعليها أن تملأ الفراغ بخطاب تعبوي وتنظيمي لا يترك الساحة خالية.
في الحلقة القادمة: من يُقصَى عن الانتخابات؟
في المقالة السادسة من هذه السلسلة، سننتقل إلى موضوع آخر على قدر كبير من الأهمية، وهو الفئات المستبعدة انتخابيًا، وسنتناول بالتحديد نموذج الشباب والنساء، لفهم آليات التهميش السياسي وطرح سبل إدماج فعالة.