الألبان المدعمة.. ثدي بديل منعه التأخير عن أطفال مصر

سعت مريم لإنقاذ رضيعها من نوبات القيء والمغص الشديد بسبب حساسية اللاكتوز، قائلة: “ابني عنده حساسية، لازم يشرب ألبان خالية من اللاكتوز (LF)، أي نوع تاني بيسبب له قيء شديد، مغص، وحساسية في الجلد”.. تقول مريم بينما تحتضن صغيرها مرتعشًا من الألم.

جلست في شقتها الصغيرة بمدينة نصر، على طرف السرير، تمسح جبين طفلها بمنديل مبلل وهي تحاول تهدئة نوبة مغص جديدة، تعود مع كل تأخر في توفير عبوة اللبن العلاجي.

مريم -اسم مستعار- صحفية مستقلة تعمل بالقطعة، تكتب تقارير وتحقيقات عند الطلب، لكن معاناتها اليومية مع رضيعها قصة مؤلمة بطلتها أم تبحث عن عبوة لبن تناسب حالة طفلها.

لم تكن المشكلة في التشخيص الطبي، بل في صعوبة الحصول على العلاج. تقول بيأس لـ فكّر تاني: “اللبن ده مش متوفر في كل الصيدليات، وأوقات بتبقى رحلة البحث عنه مرهقة نفسيًا وبدنيًا.. بروح من حي لحي، وبتواصل مع جروبات الأمهات على واتساب وفيسبوك علشان ألاقي أي حد عنده علبة”.

ولأنها لا تملك تأمينًا صحيًا ولا تستفيد من دعم وزارة الصحة، اضطرت مريم للاعتماد على قدرتها الشخصية في شراء اللبن من السوق، لكنها اصطدمت بأسعار متقلبة: “كل مكان بسعر، وكل يوم بسعر… اشتريت العبوة مرة بـ 330 جنيه، ومرة بـ 350، وأوقات بلاقي ناس تبيعها على الإنترنت بـ 380 جنيه، ويقولوا إن ده عشان الطلب عليها عالي”.

ورغم محاولتها تخزين عبوتين كلما استطاعت، اضطرت أحيانًا لتقليل الجرعة اليومية لابنها كي “تعدي اليوم”، رغم علمها بأن هذا قد يزيد من أعراض الحساسية.

كل صباح، كانت تمر مريم على أكثر من صيدلية قبل أن تفتح جهاز الكمبيوتر لتبدأ يومها الصحفي، محاولة استباق أزمة جديدة. قالت بحزم: “انا مش بطلب رفاهية، أنا بطلب حق بسيط لابني.. إن اللبن العلاجي يكون متوفر وسعره منطقي، من غير ما أتحايل ولا أستجدي”، بنظرة خالية من الدموع التي بدا أنها استُنزفت بالكامل.

في بلد يولد فيه أكثر من 1.5 مليون طفل سنويًا، ما تزال “وجبة الرضيع” الأولى خاضعة لسلطة الاستيراد وأسيرة البيروقراطية. ورغم إطلاق مشروع مصري طموح لإنتاج ألبان الأطفال محليًا، توقف المصنع قبل أن يبدأ، بسبب قرارات معلقة وإجراءات معقدة.

ورغم التوجيهات الرئاسية بتوطين هذه الصناعة، اصطدمت الجهود بعقبات متشابكة، من تضارب المصالح إلى تعقيدات إدارية ومناقصات أثارت الشبهات.

وفي هذا السياق، يقول محمود فؤاد رئيس مركز الحق في الدواء لـ فكّر تاني: “القطاع الخاص ليس هو الحل، والغذاء الوحيد للأطفال لا يحتمل التجربة”. ورغم التوجيهات الرئاسية المتكررة، ما تزال الفجوة قائمة بين القرارات والتنفيذ. فالمصنع الذي وُلد من رحم أزمة نقص الألبان في السوق المصري توقف قبل التشغيل، لأسباب بيروقراطية حالت دون انطلاقه فعليًا، ما أثار تساؤلات حول جدية توطين هذا القطاع الحيوي.

يصف فؤاد ما حدث للمصنع بأنه “نتيجة طبيعية لغياب إرادة تنفيذية واضحة”، مؤكدًا أن البيروقراطية كانت العائق الأكبر: “مافيش مستثمر يقدر يتحمل اللي بيحصل، لازم الدولة تبقى واقفة ورا المشروع ده من أول لحظة”، ويشدد على أن تصنيع خامات ألبان الأطفال محليًا يتطلب دعمًا سياسيًا وتنفيذيًا حقيقيًا، كما فعلت الدولة مع صناعة الأدوية “الصناعة دي محتاجة 10 سنين واستثمارات ضخمة، لأنها موجهة لأطفال لا يحتملون الخطأ في وجبة واحدة”.

ويؤكد فؤاد أن توجيهات الرئيس السيسي بشأن توطين صناعة ألبان الأطفال “ليست رفاهية، بل ضرورة وطنية واستراتيجية”، مشيرًا إلى العبء الاقتصادي الناتج عن استيراد ما بين 25 و30 مليون عبوة لبن أطفال سنويًا، بدعم حكومي يصل إلى 25 جنيهًا للعبوة. ويوضح أن مصر تستقبل 1.6 مليون مولود سنويًا، بحاجة إلى نوعين من الألبان: الأول حتى عمر 12 شهرًا، والثاني حتى سنتين، ما يمثل سوقًا ضخمًا يجب أن يحظى بالأولوية.

يستعيد رئيس مركز الحق في الدواء ذكرى أزمة 2018، عندما احتشدت الأمهات على كورنيش النيل أمام الشركة المصرية لتوزيع الأدوية بسبب نقص الألبان، مؤكدًا أن السبب وقتها كان “فساد التوزيع”، حيث بيعت الألبان المدعمة لمحلات الحلويات والكافيهات بدلًا من المستحقين.

محمد فؤاد

“بدأت الحكومة منذ عامين في تطبيق نظام ميكنة صرف الألبان عبر 2240 مركز أمومة وطفولة، ما قلل من التلاعب، رغم استمرار بعض التحايل خارج هذه المراكز”.. لكن -بحسب تعبيره- الأزمة مستمرة، مع عدم مواكبة مخصصات الألبان للزيادة السكانية، ومشكلات الأمهات العاملات اللاتي لا يستطعن استكمال الرضاعة الطبيعية في غياب دعم مؤسسي مناسب.

يلفت محمد فؤاد إلى أن أسعار الألبان الصناعية غير المدعمة تضاعفت لتتراوح بين 370 و750 جنيهًا للعبوة، مقارنة بـ65 جنيهًا فقط في 2015، بينما وصلت أنواع خاصة بحالات التمثيل الغذائي إلى 4000 و5000 جنيه، ما يشكّل عبئًا نفسيًا واقتصاديًا كبيرًا على الأسر المصرية.

وكشف لـ فكّر تاني، عن مناقصة أجريت عام 2021 كادت تُسند لشركة خاصة، ما دفعه للتدخل لدى الرقابة الإدارية، وأُعيدت المناقصة لصالح الشركة المصرية لتجارة الأدوية، مؤكدًا أن هذه الخطوة كانت “ضرورية لضمان استمرار الدولة في حماية غذاء الرضع”.

“مصر قادرة على إنتاج أول عبوة ألبان محلية خلال 3 سنوات، شريطة توافر الإرادة والجدية”، محذرًا من أن تتحول المصانع الجديدة إلى “مشروعات تصدير فقط”، متسائلًا: “لو بتتعاقدي على كميات كبيرة للتصدير، يبقى بتعملي المصنع ليه؟ السوق المحلي أولًا”.

وفي ختام حديثه، يعبّر رئيس مركز الحق في الدواء، عن تفاؤله بتصريحات وزير الصحة الأخيرة حول مراجعة شروط صرف الألبان، قائلًا: “كلام الوزير ممكن يهز الوزارة.. إحنا محتاجين قرارات تحترم الأمهات، وتليق بدولة محترمة”.

اقرأ أيضًا:ليكن “احتفالًا” لا يُمحي الذاكرة والأثر

أم تصارع العجز

جلست أسماء ــاسم مستعارــ عند باب شقتها المتواضعة بأحد أحياء القاهرة الشعبية، تغمس طرف عباءتها في مياه الغسيل، محاولة إزالة بقعة عنيدة. عيناها الواسعتان افتقدتا البريق، وبدت عليهما علامات التعب والترقب، تحيط بهما هالات زرقاء خافتة، وكأن السهر والخوف وعجز الحيلة قد رسمت خريطة من القهر على وجهها النحيل.

في بيت لا تتجاوز مساحته الـ 35 مترًا، عاشت أسماء مع زوجها ورضيعها، إلى جانب أخت الزوج المصابة بشلل دماغي. تشققات الجدران تسربت منها البرودة والقلق معًا، حتى تغلغلت في قلب الأم، مثلما تتسلل مياه الشتاء الباردة بين جدران الإسمنت.

تقول أسماء لـ فكّر تاني، وهي تمسح عرقها بمنديل قماشي مهترئ: “أنا مش عارفة أعمل إيه، ابني بيرضع “بيبيلاك” ومحتاج كل شهر 8 علب، يعني أكتر من 3000 جنيه، وجوزي سواق ‘توك توك‘، لو اشتغل كويس بيرجع بـ 100 جنيه في اليوم.. ولو الإشغالات نزلت أو التوك توك عطل، بنبقى مش عارفين ناكل”.

كانت تظن أسماء أن اللبنالرضاعة الطبيعية يزيد بعد الأربعين كما أخبرها من حولها، فظلت تأكل ما تستطيع شراءه، لكن جسدها النحيل لم يصمد، وقبل مرور الأربعين يومًا انقطع تمامًا ولم تعد تملك سوى البكاء والدعاء.

“رحت الوحدة الصحية زي ما اتقال، الدكتورة رفضت حتى تكشف عليا، وقالت ما بنديش غير للأم اللي ماتت أو عندها كنسر، فضلت أعيط وأقولها ابني جعان، وهي مصممة على قرار الوزير”.

لجأت أسماء إلى “بدائل غير الصحية” كما تسميها، مثل “مياه الرز”، أي غلي الأرز بالماء وتقديمه للرضيع بدلًا من الحليب، وتضيف: “أنا عارفة إن دا مش أمان.. بس أعمل إيه؟ أسيب ابني يجوع؟”.

أسماء لا تقرأ الصحف ولا تتابع البيانات الحكومية، لكنها تدفع الثمن كل يوم: “كل ما بروح الوحدة، بحس إني بشحت.. بشحت حق ابني في اللبن”، ثم تنظر ناحية الغرفة التي ينام فيها صغيرها غارقًا في عرقه، فالمروحة غائبة عن تلك الشقة في صيف لا يرحم، ووجهها الذي امتزج فيه الشباب المبكر بشيخوخة القهر، يشبه وجوه آلاف الأمهات في الأحياء الشعبية؛ وجوه صامتة تحكي قصصًا عن أمهات يعاقَبن على الإنجاب في الفقر.

اقرأ أيضًا:86.5 % من الإيرادات ضرائب.. ورانا حكومة بنصرف عليها

شروط الصرف

تؤكد النائبة إيرين سعيد عضو لجنة الصحة بمجلس النواب، أن قرارات توطين الصناعات الغذائية، وعلى رأسها ألبان الأطفال، جاءت في وقت دقيق، معتبرةَ أن الحاجة إليها أصبحت ضرورة تفرضها التحديات الصحية والاقتصادية، وتشير إلى أن توفير الألبان محليًا يعزز الأمن الغذائي للرُضع، ويسهم في خفض معدلات الإصابة بالتقزم والأنيميا، موضحةً أن الدولة بالفعل أنفقت مليارات الجنيهات لمحاربة هذه الأمراض.

“تنفيذ هذه المشروعات ليس معقدًا، استطعنا سابقًا تنفيذ مشروعات أصعب ولا يوجد عائق حقيقي يمنعنا من إنتاج ألبان الأطفال محليًا”.

أما فيما يخص قرارات وزارة الصحة الأخيرة، توضح النائبة، أنها تقدمت بطلب إحاطة للجنة الصحة، مؤكدةً أن القرار في صورته الأولى كان مجحفًا، إذ استبعد شرائح واسعة من الدعم. وأوضحت: “وبعد مناقشات مطولة داخل اللجنة وبحضور وزير الصحة، جرى تعديل بعض بنود القرار وتم فتح الباب لإضافة فئات جديدة، إلى جانب تشكيل لجنة لمتابعة تطبيق القرار على أرض الواقع وتقييم أثره”.

وتختتم النائبة تصريحاتها بالتشديد على انتظارها صدور قرار رسمي نهائي يضمن عدالة التوزيع ويحفظ حق المستحقين في الدعم دون أي حرمان أو تمييز.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة