من حسن حظ المطربة شيرين عبدالوهاب، أن البرلمان الموَّقر، لم يكن قد انتهى من مشروع قانون تنظيم مرفق مياه الشرب، الذي تقضي مادته الثالثة والسبعون، بفرض غرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه، ولا تزيد عن نصف مليون، لكل من يروّج شائعات أو معلومات غير صحيحة، بأية وسيلة كانت عن جودة مياه الشرب، بقصد تكدير السلم الاجتماعي بشأن حالة المياه وجودتها.
دع عنك مسألة أن شكوى مواطن من سوء حال المياه، صارت في الجمهورية الجديدة "لانج" من بواعث تكدير السلم الاجتماعي، ربما أكثر من سفالة مراهق يتكئ على منصب أبيه المرموق و"السيادي"، فيسوم الناس العذاب، ويصب عليهم سفالته وقلة أدبه.
ولا تستفت عن العلاقة بين السلم الاجتماعي والإعراب عن الاستياء بالوسائل السلمية، على غرار الكتابة على شبكات التواصل، فكذلك يرتأي المشرع، وأنت بالطبع لست تعي خطورة الشكوى، وحساسية الموقف الإقليمي الذي لا يجوز معه أن تشكو من سوء المياه.
كما لا تنس العبارة الخالدة للزعيم عادل إمام في مدرسة المشاغبين: "الشكوى لغير الله مذلة"، وضع في اعتبارك أن الشكوى للحكومة أو من الحكومة، حتى لو كانت تتصل بشربة الماء ليست مذلة فحسب، بل هي فوق ذلك من أعمال تكدير السلم العام، وهذه فيما يبدو تقع في مرتبة ما بين الإرهاب والبلطجة.
نعود إلى شيرين بما هو معروف عنها من سرعة الانزلاق دون وعي، وكثرة التفوه بعبارات ساذجة، بعيدة عن اللباقة وغير مدروسة، إذ كانت قالت على خشبة المسرح في حفل ما، بعد أن غنت "ما شربتش من نيلها": "بلاش تشربوا يا جماعة عشان البلهارسيا".
بعدئذٍ قامت الدنيا ولم تقعد، واستل بهاليل وبهلوانات برامج "التطبيل شو" سيوفهم لتمزيقها إربًا، فقد جاءت شيئًا إدًّا، وأساءت لسمعة المياه المصرية، وهذا وفق القائمين بالأمر أو بالأحرى القامعين بالأمر، يستدعي الويل والثبور وعظائم الأمور.
لكن على أي حال انتهت الأزمة بشيء من التقريع و"فرش الملايات" الإعلامية، ثم هدأت العاصفة، ونسي الناس كما نسيت شيرين الأمرـ
لكن المؤكد أنه لو أن شيرين قالت الكلام ذاته اليوم، بعد موافقة البرلمان على القانون، كانت ستجد نفسها في قفص الاتهام، وربما كانت ستواجه إلى جانب "الإساءة لسمعة المياه المصرية"، حزمة تهم على غرار الاشتراك في جماعة إرهابية محظورة، وخدش رونق الـ"أي حاجة"، إلى آخر قائمة الاتهامات المبسترة الجاهزة، والهلامية المرسلة التي يُرمى الناس بمقتضاها في غياهب السجون، ودوامات الحبس الاحتياطي.
المياه متعكرة.. هذا يهدد السلم الاجتماعي
تزيد التابوهات يومًا بعد يوم في الجمهورية الجديدة، فحتى استياء مواطن ما، يقبع في منطقة عشوائية متهالكة المواسير، يأكل الصدأ إمدادات المياه إليها، إزاء لون ومذاق المياه، سيعد كما يريد أولو الأمر، من الجرائم الخطيرة التي تهدد السلم الاجتماعي.
بعبارة أخرى لقد صار لزامًا على المصريين أن "يشربوا وهم ساكتون"، فلا حس ولا نفس.. ثابت محلك.
كذلك تتسع مظلة الصمت وكتم الأصوات في الصدور، سعيًا إلى تدجين الشعب تدجينًا كليًا، فإذا به يغدو كما المواطنين في رواية جورج أوريل الشهيرة 1984، يرتعدون فَرقًا من أن "الأخ الأكبر" يراقبهم، يرصد لفتاتهم وخطراتهم، وربما يفتش في ما تسره صدورهم.
في كثير من الأحيان كنا نقرأ عبر وسائل الإعلام أن سكان منطقة ما يصرخون من اختلاط مياه الشرب بمياه الصرف الصحي، إثر تهالك الشبكات، وحتى وقت قريب كان ذلك يستدعي تدخلًا من الدولة، لمجابهة هذه الكارثة، لكن مع القانون الجديد، سيغدو على المواطن أن "يتجرع الطين صامتًا"، أو يتجرعه ثم يتمتم: "يا حلاوة.. عسل نحل يا ناس".
الشكوى من خدمة سيئة، أو بالأحرى الشكوى من خلل يقع في نطاق مسؤولية الدولة، وانتقاد تقصيرها في واجباتها الأصيلة، لن يمر بعد اليوم بردًا وسلامًا، فإما أن يدفع الشاكي الغرامة بالتي هي أحسن، وإما أن يُزج به خلف القضبان بالتي هي أسوأ.
الغريب وغير المفهوم أن الخبر الرسمي، أو قل خبر "السامسونج" الذي نشرته جميع وسائل الإعلام بشأن النص التشريعي، يذهب إلى أن الهدف منه يتمثل في "تحسين جودة الخدمات المقدمة في قطاع مياه الشرب والصرف والصحي، مع التركيز على الحوكمة الرشيدة، من خلال إنشاء جهاز مستقل لتنظيم القطاع، وحماية حقوق المستهلكين وضمان استدامة الموارد المائية، وتشجيع الاستثمار الخاص مع الحفاظ على المصلحة العامة، والالتزام بالمعايير البيئية والصحية لضمان جودة المياه، والمعالجة الآمنة للصرف الصحي".
لو تشقلبت على رأسك ومشيت على يديك، لن تجد أدنى صلة منطقية بين هذه الأهداف، وبين منع الناس من التعبير عن استيائهم من تدني مستويات مياه الشرب.
هل الصمت أو بالأحرى إجبار الناس عليه، تحت سيف الترهيب والتخويف من الغرامة التي تقصم الظهر، سيؤدي إلى تحسين المياه؟
لا تحتاج الإجابة إلى قدح زناد القريحة، فالمطلوب هو "بطلوا هري يا مصريين"، والمنهج المعمول به أن الكلام يعطل الإنجازات، تلك التي لا يراها إلا الذين أسبغ عليهم إعلام الجمهورية الجديدة لقب "المواطنين الشرفاء"، وليسوا المعارضين الأشرار الذين يحذرون من أن "رعبًا أكبر سوف يجئ"، إن بقيت الأحوال مائلة كما هي الآن.
اشربوا الطين ولا صوت ولا نفس
على هذا الأساس فإن المواطن الساكت عن حقه ليس شيطانًا أخرس، وإنما هو وطني محب لبلاده، مؤمن أن لا بأس في أن يحتسي الماء كدرًا وطينًا، من أجل بناء "الدولة المصرية"، التي لا تقيم وزنًا ولا تولي أهمية لصحة الإنسان، وتحجر على رأيه وتدفعه تحت القهر إلى وأد شكايته في قفصه الصدري حتى إزاء الماء؛ سر الحياة.
الأهم هو بناء الكباري وناطحات السحاب والقطارات المعلقة والمنتجعات، وإقامة مدن سكنية محاطة بالأسوار، حتى ينفصل الصفوة عن "العامة الرعاع"، ممن لا حق لهم حتى حق الشكوى.
مياه "الغلابة" هي منة ومكرمة من الحكومة، فاحمدوا ربكم أننا نمدها إليكم، وندعمها أيضًا، أما أصحاب المليارات فلهم جنات وعيون وفاكهة مما يشتهون، بل إن هناك مشروعًا قرر حكماء العصر والأوان، أن تصل مياه النيل بمقتضاه إلى مدينة زايد، في الوقت الذي تعاني فيه مصر من شح مائي يُخشى أن يتفاقم مع سد النهضة الإثيوبي.
أسئلة منطقية وردود خرافية
في النقاشات تحت القبة، انتقد النائب أحمد البرلسي القانون، معتبرًا أن لا حاجة له طالما هناك عقوبات على جرائم النشر في القانون، وقال حرفيًا: "لو مواطن اشتكى على صفحته في فيسبوك من أن المياه نازلة من الحنفية ولونها متغير هاقول له أنت تنشر معلومة غير صحيحة، ولو صحفي كتب تحقيقًا عن جودة المياه، انطلاقًا من أن كشف السلبيات من صميم دوره، أتهمه بتعمد تكدير السلم العام".
كلام جميل وكلام معقول طبعًا، فالمحروسة أو الموكوسة ليست في حاجة إلى مزيد من القيود على حرية النشر، التي اختُطفت إلى "ما وراء مصنع الكراسي"، لكن هذا الرأي لم يلق بالًا من قبل رئيس المجلس المستشار حنفي جبالي الذي دافع بصلابة عن القانون، مشددًا على أن هناك ضمانات تحول دون التوسع في الاتهامات، لكل من ينتقد جودة المياه، فالنص لا يعاقب مواطنًا إلا إذا كانت معلومته مغلوطة.
وغني عن البيان أن مسألة إثبات الصحة والكذب من قبيل المستحيلات، تمامًا مثل العنقاء والغول والخل الوفي، كما تقول العرب، إذ من الوارد مثلًا أن يكتب مواطن مقهور غاضب كلمتين عن المياه المتعكرة ذات الرائحة الكريهة، في ليلة ما، فلمَّا يخضع للتحقيق في أقواله، تكون المياه قد تحسنت، وهذا يحدث كثيرًا في بيوتنا جميعًا، وعليه بعدئذٍ أن يبرئ ساحته من تهمة تعمد بث شائعات عن جودة المياه، ولما كان ذلك مستحيلًا، فليس أمامه إلا أن يسدد الغرامة من دون أدنى اعتراض.
ما هذا العبث الغاشم؟ وما هذا الاستخفاف بآلام الإنسان المصري الذي يصبر على الغلاء ولا يفتح فاهه إزاء التضخم الذي ينتزع اللقمة من أفواه عياله؟
مثل هذا القانون لم نسمع عنه في بلاد الواق واق، ولا أحسب أن كوريا الشمالية ذاتها، فيها نص تشريعي على هذا القدر من الصلف والفظاظة والقمعية.
محاصرة الإنسان وسجن صوته في أعماق صدره، لن يضمن جودة المياه بأي حال من الأحوال، كما يدعي المدافعون عن القانون، ولن يضمن استقرارًا سياسيًا بأي شكل من الأشكال، بل سيسرع من تفاعل معادلات الغضب، وسيرفع منسوب الحنق، إلى حدود قد تكون "تسونامية"، ليس ممكنًا للسيطرة عليها.
وبعد.. هل هذه نصيحة للقائمين على الأمر؟
لا يبدو أن ثمة أملًا في أن تجد النصائح أُذنًا صاغية، أو عقلًا يستوعب أو قلبا ينفتح، فالواضح أن هنالك حالة من الاستخفاف بالإنسان المصري، واستصغار شأنه، وهنالك يقين أن الترهيب الممنهج قد أتم مهمة سجن قواه الفاعلة، وأحكم الخناق على مشاعر الغضب في صدره، وهذا يقين بالغ السذاجة، لكن أكثر القامعين لا يفقهون.