في المدن، يبدو الدقيق منتجًا بلا حياة، معبأ في أكياس صامتة رُصت على الأرفف، منتج صناعي بحت لا تظهر صلته بالأرض والناس. هناك في الريف، لكل كيس دقيق حكاية طويلة لا يمكن اختصارها في كفة ميزان ولا تلخيصها في صورة مُغلفة.
في قرى دلتا النيل، ما يزال موسم القمح طقسًا حيًا، يحمل في طياته جهدًا متوارثًا وذاكرة جماعية لا تغيب. يشبه المسرح المفتوح، تتقاطع فيه الحركة والصوت والعرق بالذكريات. يبدأ النهار مع الفجر، ولا ينتهي إلا حين يغيب الضوء عن الحقول. نساءً ورجال، شيوخ وأطفال، يتشاركون الأمل، وكأن الحصاد لا يُثمر حبوبًا فقط، بل يورث روحًا كاملة.
هنا.. لا يُولد القمح من آلات الطحين، بل من ملح العرق وصبر الأيام، ودفء الشمس التي تبارك الحقول. وربما يكفي أن ترى هذا المشهد مرة، حتى لا تنظر إلى الرغيف كما كنت تفعل من ذي قبل.
في خمس مشاهد حية من قلب الريف المصري، حقيقية ونابضة، ومليئة بما لا يُقال على الأرفف. ننقل صورة لما يبدو عليه موسم القمح اليوم، كما يُعاش في دلتا النيل.

المشهد الأول: الاستعدادات الصامته قبل أن تدور الماكينة
أسبوع ما قبل الدريس– في فناء خلفي للمنزل
قبل أن يصل موسم دريس الغلة إلى ذروته، وقبل أن يدوي صوت الماكينات في الحقول، تبدأ التحضيرات. هناك، في الركن الترابي من الفناء الخلفي للمنزل، في قرية كفر فرسيس التابعة لمحافظة الغربية، تجلس الحاجة أم حسن في أواخر الخمسين، القرفصاء، تُنصت لصوت الاحتكاك بين الليفة الخشنة وأجساد البراميل المعدنية القديمة.
البراميل، خمسة منها، مصطفّة على الحائط الطيني المتآكل، تحيط بها أوراق النخيل اليابسة، وبعض حجارة استخدمتها لتثبيت أغطية الصفيح على مر السنين. هذه البراميل التي تحفظ الغلة بعد دريسها، لا تُمس طيلة العام إلا في هذه الأيام القليلة.
بدأت تغسلها باستخدام خرطوم مياه، وسائل تنظيف مخصص، ثم خلطت القليل من الكلور والماء داخل كل برميل للتعقيم.
في كل مرة تنتهي من برميل، تقلبه في الشمس لتجففه، وتُعيد فحصه من الشقوق.
“أنا بحب ريحتهم.. فيها رطوبة من أيام أبوي”، تقول وهي تمسح بقعة صدأ عن أحد البراميل، وتتابع: “اللي بيحفظ الغلة لازم يكون نضيف، البرميل اللي ريحته مش حلوة ما يشيلش خير”.
تمضي الحاجة أم حسن يومها بين التنظيف والتلميع، تُحضر ماءً ساخنًا وتضع فيه يعض من مادة الـ “كلور”، ثم تدخل يدها المغطاة بالقفاز في جوف البرميل وتمسح الجدران من الداخل. البراميل ما تزال محتفظة بصدى مواسم سابقة، وكل خدش فيها يحمل حكاية.
يظن أولادها المتزوجون أنها تبالغ في حرصها، لكنهم لا يجرؤون على مجادلتها. فهي تعتبر البراميل كنزها السنوي.
وحين تسألها جارتها “مش حرام تتعبي نفسك وانتي كده؟!”، ترد ببساطة: “البرميل النضيف بيخزن غلة نضيفة. إحنا ما عندناش صوامع في البيت، البرميل هو أمان العيش”.

في المساء.. تجلس الحاجة أم حسن أمام البراميل كأنها تنتظر ضيوفًا مهمين. تفحص كل غطاء بعناية، تدهن الحواف بقليل من الزيت النباتي حتى لا يصدأ المعدن مع الرطوبة. ثم تقص قطعة قماش بيضاء جديدة وتفرشها داخل البرميل الأول. تهمس: “ربنا يجعلها غلة مباركة، ويتعبنا فيها على خير”.
بعيدًا عنها، يعمل ابنها الأكبر حسن على تفريش الأرض الترابية خلف المنزل. ينظفها من الحجارة ويعدّها لتكون ساحة مؤقتة لتجميع القمح عند دريسه. يُثبت أربع قوائم خشبية في الأرض، ويضع فوقها شادرا بلاستيكيًا أزرق، يظنه كافيًا لحماية الغلة من نوبات الغبار التي يطلقها الجو أحيانًا بلا مقدمات.
في الليلة التالية، تذهب الحاجة أم حسن إلى السوق الأسبوعي لتشتري خيشًا جديدًا. تقف طويلًا تختار الأجولة، تلمسها بأطراف أصابعها كأنها تختبر سماكتها وقوة خياطتها. “الغلة ما ينفعش تدخل جوال مهزوز.. بتروح تعب السنة كلها على الأرض”، تقول للبائع وهي تعدّ له المبلغ.
في طريق العودة، تمسك بيد حفيدها الصغير وتشير إلى البراميل المصطفة وتقول له:
“شايف؟ دول زي الخزنة.. بس بتشيل دهب من نوع تاني، اسمه غلة”.
في هذا الأسبوع، ما تزال الماكينة صامتة بعد، والرجال مشغولين في أعمال أخرى، لكن عند الحاجة أم حسن، الموسم بدأ بالفعل. كل خدشة على برميل وكل بقعة زيت على الغطاء، هي إعلان ضمني أن القمح قادم، وأن البيت يجب أن يكون مستعدًا لاستقباله.
هنا، في ظلّ شجرة الجميز، البراميل ليست مجرد حاويات، بل صدى لطقس سنوي، مزيج من الحرص والتجربة، تقيمه سيدة تعرف أن “دريس الغلة” لا يبدأ عند الماكينة.. بل من هذا المكان البسيط، حيث تنتظر الحبوب مأواها الآمن.
اقرأ أيضًا:غاز الصيف.. ماذا فعلت الحكومة لتجنب تخفيف الأحمال؟
المشهد الثاني: ست البيت والدريس.. صانعة اللُقمة وراعية البركة
فجر يوم دريس الغلة – حالة طوارئ موسمية
في تمام الخامسة صباحًا، ما تزال البيوت تغط في سباتها الثقيل، تستيقظ “أم حسن” على صوت المنبه الذي لم تعد بحاجة إليه، فالجسد صار يعرف وحده أن اليوم.. مختلف.
اليوم.. تبدأ “دريس الغلة” في الحقل، ويعني ذلك أن العرق يختلط بالغبار، والصوت العالي بماكينات الدراس يتزاوج مع نداءات الأولاد، والأهم من ذلك: أن الطعام يجب أن يكون جاهزًا قبل شروق الشمس.
في المطبخ الصغير المضاء بمصباح واحد معلق في السقف، تتحرك “أم حسن” بخفة امرأة تدربها السنين. تُشعل البوتاجاز، وتحضر براد شاي أسود ثقيل، ثم تفتح الغطاء على حلة الفول الكبيرة التي جهزتها بالأمس.
بهدوء وبخطى تحفظ إيقاعها جيدًا، تسحب اثنين من الفطير المشلتت من داخل “المخزن” الملفوف بقماش سميك، وتبدأ بتجهيز صينية الإفطار التي تحملها معها إلى “الدريس”.
“اللي ييجي يشتغل محتاج ياكل كويس، محدش هيقدر يشيل شكارة ولا يجري على الماكينة وهو جعان”، تقول وهي تغلق ترمس الشاي الساخن بإحكام حتى يظل محتفظًا بحرارته حتى نهاية اليوم. وترص بجواره الأكواب، وتكمل: “والنهارده لازم نكرم الناس، الغلة دي بركة”.

على الطاولة الخشبية المتهالكة، تُرتب أم حسن طبق الطعمية والبطاطس المقلية التي أعدتها وتغرف من جبنة قديمة كانت تحفظها في إناءٍ فخاري. وتُخرج خبز بلدي ملفوفًا في كيس نايلون، وطبق طماطم مفروم.
في الغرفة المجاورة، تنادي على ابنها الأصغر، بينما تنادي على الاثنين المتزوجين من “منور” السُلم: “قوموا يا رجالة، يوم الدريس مش بيتأجل.. الشمس هتطلع تلاقينا في الغيط”.
يتحرّك أبناؤها الثلاث؛ حسن وأشرف –وهما الأكبر سنًا، يعيشان مع زوجتيهما في طوابق البيت العلوية– وأصغرهم ناصر، بأجساد ما تزال شبه نائمة. كل منهم يعرف ما عليه فعله دون أن يطلب منه: حسن يملأ “جراكن” المياه و”الكولمن”، وأشرف يعد الحُصر التي يجلس عليها العمال، بينما يحمل ناصر المفارش البلاستيكية و”الطشوت” المعدنية بعد أن فركها بالليمون ليُزيل عنها رائحة الطين.
تضع “أم حسن” الطعام داخل “كوفرتة” سميكة وتلفّها بإحكام حتى لا يبرد، ثم تربطها بحبل وتقول لأشرف: “خد دي على الحمار وامشي على الغيط، وقول لأبوك -الذي سبقهم من قبل الفجر- يفرش تحت الضل”. وقبل أن تغادر منزلها متجهة إلى أرض “الدريس”، رتبت الحاجة أم حسن طرحتها، ثم نادت على ابنتها الكبرى من المطبخ: “يا بنتي خلي بالك من الطواجن.. ولّعي الفرن بعد الضهر بشويّة”.
كانت قد اشترت بالأمس كل مستلزمات الغداء: فراخ بلدي من السوق، بطاطس، سمن فلاحي، وأرز مصري مفلفل. اليوم.. لن تُحضر الطعام لأولادها فقط، بل لطاقم الدريس بأكمله، كما اعتادت كل موسم. تعد لهم طواجن بطاطس بالفراخ، تسقى بمرقٍ ثقيل نكّهته بالبصل والثوم والبهارات البلدية، وأرزا معمرا في طاجن فخار، تُخفي وجهه طبقة من القشطة والسمن.
الغداء ليس فقط وجبة.. بل عُرف ريفي أصيل، وعلامة شكر للفلاحة التي لا تبخل على عمالها لا بالجهد، ولا باللقمة الدسمة بعد عرق طويل.
في الطريق الترابي، تسير خلف الحمار الذي يجر العربة المعدنية والتي تحمل الطشوت والمفارش، تتحدث إلى نفسها وتستدعي في ذهنها مواسم الغلة القديمة: “زمان كنا نروح على رجّلينا من قبل الفجر، والرجالة يشيلوا المقطف فوق راسهم.. دلوقتي كل حاجة اتغيرت، بس تعب الأرض عمره ما يتغير”.
في الحقل، وصل أول فوج من العمال. شمس الصباح لم ترتفع بعد، لكن الأرض بدأت تتنفس دفئًا. وعلى أطراف المساحة المخصصة للدريس، تمد الحُصر، وتفرش المفارش البلاستيكية تحت ظل الشجرة الوحيدة. تفتح أم حسن، الأواني، وتوزع الطعام بنفسها، ثم تملأ الأكواب بالشاي الساخن.
تقول وهي توزع الكوب الأخير: “الغلة محتاجة قلب طيب وشاي سخن.. واللي يبدأها بطعام كريم، ربنا يطرحله فيها البركة“. تعلو صوت الضحكات، والرجال يمدون أيديهم للأكل، والصبية يرمقون الوجبات بنظرات مشتاقة، فيما تبدأ الاستعدادات الفعلية لوصول الماكينة.
في هذه اللحظة، لا أحد يتحدث عن الغلاء أو صعوبة الموسم أو حسابات التوريد. الجميع يأكلون، يضحكون، وينظرون إلى أكوام القمح بعيون فيها أمل وشوق.
أم حسن، التي تعود إلى بيتها بعد قليل لتحضير الغداء أيضُا، تنظر إلى أولادها وتبتسم. إنها تعرف أن هذا اليوم طويل، لكن فيه من الطقوس ما يكفي لأن يشعرها بأن تعبها له ثمن: خبز وحياة وكرامة.
اقرأ أيضًا:”الفردوس” المفقود.. آلاف الأسر في بورسعيد تعيش “نكسة” جديدة
المشهد الثالث: حين تصرخ الماكينة ويصمت التعب
أرض الدريس –ظهر يوم الحصاد
في الساعة الثانية عشر ظهرًا، الجو خانق، والسماء بلا غيم. تصب الشمس نارها على الأرض منذ التاسعة صباحًا.
وصلت “ماكينة الدراس”، يجرها جرار زراعي أخضر، ومن خلفها تتبعها الأصوات والأنين. وامتلأ الحقل بالرجال والصبيان، يقفون على أطراف الماكينة، التي تصرخ بصوتها الميكانيكي العنيف، كأنها تُفرغ ما في جوفها من جهد العام كله.
إنه يوم الحصاد.. اليوم الذي انتظرته الحاجة أم حسن منذ شهور. ترى الغلة الآن وقد تمددت على الأرض في أكوام ذهبية، حبات قمح مخلوطة ببقايا عيدان ناشفة، تفوح منها رائحة الشمس والتراب والعرق.
في المنتصف، تقف “ماكينة الدراس”… كتلة من الحديد الرمادي، تعمل بلا توقف، تهز الأرض تحتها وتُطلق الغبار في الهواء كدوامة. تتقاطع الصيحات بين صوت المحرك وصراخ الأطفال والعمال الذين اعتادوا الصخب. بجانب الماكينة، يصطف أربعة رجال، كل منهم له وظيفة لا يخطئها: “واحدٌ يغذي فم الماكينة بالسبيب، وآخر يراقب مجرى الحبوب وهي تنفصل عن التبن، وثالث يحمل “الشكاير” بعد ملء الطشوت، ورابع يربطها بسرعة بعد امتلائها.
يمتزج الغبار الكثيف بالعرق ويتحول إلى طبقة على الوجوه. كل من في الحقل مغطى بوشاح أو قطعة قماش، لا لتجنب الشمس فقط، بل لتفادي شظايا القش المتطايرة.
في طرف الحقل، يقف العم محمود، صاحب الأرض، يراقب المشهد كقائد معركة. يُمسك عصاه، يضرب بها الأرض، ويقول بصوت جهوري: “الدنيا نار.. بس الجهد ما يروحش. الحبة دي لو طلعت نقية، السنة كلها تبقى بخير”.

كل ساعة، تتوقف الماكينة قليلًا لتستريح وتُفرَغ الحبوب في “الشكاير”، تقف فوقها النساء، يحملن الغربال، وينخلن ما خرج ليفصلن القمح عن الشوائب، وينادين على الأطفال لإحضار “القُلة” المليئة بالماء البارد.
“اشرب يا خالي.. البُق ناشف من الهوا والنار”، يقول ناصر وهو يُقدّم الكوب البلاستيكي لأحد العمال.
تصطف أكوام “الشكاير” في جانب من الحقل، كل كيس يُربط بعناية ويُرقم بقلم جاف، ويُدون عليه ما إذا كان يتم تخصيصه للمنزل أو توريده.
هنا لا مكان للخطأ، فكل شكارة تساوي أيامًا من العمل، وحسابًا مع الصومعة لاحقًا.
في زاويةٍ بعيدة، تجلس أم حسن التي بدأت الحكاية، تُراقب أولادها وهم يركضون بالشكاير وتبتسم, تمسح عرقها بطرف جلبابها، وتقول لجارتها: “النهاردة بنحس إننا لسه عايشين.. التعب باين، بس الرضا في القلب”.
ووقت العصر، تصل “صينية الغدا” الكبيرة. طواجن بطاطس بالفراخ معه الرز المعمر والسلطة، وأرغفة خرجت توًا من الفرن البلدي. يُفرش الغداء على “مفرش مشمع”، وتُغسل الأيدي تحت “جركن مُعلق” في غصن شجرة، ثم يأكل الجميع في صمت مهيب. هنا تتوقف الماكينة مؤقتًا كأنها تأخذ قسطًا من الراحة هي الأخرى.
بعد الأكل، يعود الضجيج.
تزمجر الماكينة والعمال يركضون هنا وهناك، وأكوام الغلة تذوب تدريجيًا في بطون الشكاير. ومع كل دفعة جديدة، ترتفع حرارة الحقل، وتضيق أنفاس الناس، لكن لا أحد يتراجع.
وقبل المغيب، يقف الريس محمد ، مشرف الدريس، ويرفع يده قائلًا: “خلاص يا رجالة.. خلصنا. ربنا يطرح البركة في الرزق”. ثم تبدأ مرحلة تحميل الشكاير على العربات، وتعود الوجوه المكسوة بالتراب إلى شكلها الحقيقي مع كل رشّة ماء. وفي الطريق إلى البيت، ينظر الحاج محمود إلى “الشكاير” المُحملة ويقول في سره: “دي مش بس غلة.. دي عُمري اللي رجعلي”.
اقرأ أيضًا:ماذا يريد الملاك والمستأجرون من مشروع قانون الإيجار القديم؟
المشهد الرابع: المُلقم.. اليد التي لا يمكن استبدالها بالآلة
“أحط عيني على الماكينة، وقلبي على رزقي.. وايديا على الغلة”، بهذه الكلمات يصف عم شعبان، مهنته التي لا يعرف لها اسمًا رسميًا، لكن أهل القرية يسمونه “مُلقم الماكينة”.
رجل في أواخر الأربعينات، نحيل الجسد، شديد السمرة، يرتدي قميصًا قطنيًا مفتوح الأزرار عند الرقبة، ويضع على رأسه طاقية باهتة من أثر الشمس. يقف عند مقدمة ماكينة الدراسة، وتحديدًا أمام “فُم الماكينة”، وهو المكان الذي يُدخل فيه حزم الغلة يدويًا. يُمسك كل ربطة من المنتصف، يلفها بخفة، ويُدخلها إلى ذلك الفم الحديدي الذي يلتهم السنابل بسرعة وقوة.
“الماكينة مابترحمش.. غلطة صغيرة ممكن تكلفك صباعك، أو إيدك كلها”، يقولها بنبرة صافية، بلا تهويل، فقد رأى بأم عينه أكثر من زميل فقد جزءًا من جسده بسبب لحظة شرود.
يعمل عم شعبان بالأجرة اليومية بـ”الفدان”، ويتقاضى أجره على حسب عدد الأفدنة التي يشرف على دراسها في اليوم. في موسم الغلة، يعمل من الصباح حتى غروب الشمس، وقد يشتغل في ثلاث أراضٍ في اليوم الواحد، وكل واحدة بفدانين أو أكثر .
لكنه يبتسم وهو يقول: “البركة في القمح.. شهر واحد الرزق فيه بيفيض، وبعد كده نرجع نسترزق على الخفيف”.

زمن تغيّر.. وأدوار تقلّصت
قبل عشرين سنة، كان عم شعبان، شابًا في العشرين، يعمل في الحصاد منذ طلوع الفجر. كانوا يجمعون السنابل يدويًا، يحشّونها بالمنجل، ثم يُكوّمونها، ويقومون بتربيطها بأنفسهم. كان لكل خطوة زمنها، ولكل حركة مجدها.
“كنا نشتغل على مدار أسبوع، نحوش الغلة ونربطها ونفردها للشمس.. دلوقتي كله في يوم واحد”. ومع دخول الماكينات انقلبت الموازين، لم تعد هناك حاجة إلى الحصّاد اليدوي، ولا من يربط السنابل بالحبال، تُجمع الغلة في أكوام ضخمة، ويأتي الجرار يجر الماكينة، ويبدأ العمل.
لكن رغم كل هذا، يبقى “المُلقّم” ضرورة لا غنى عنها. فالماكينة لا تستطيع تلقيم نفسها، والغلة إن لم تدخل بطريقة صحيحة قد تتلف أو تتعطل الآلة.
“وظيفة خطرة.. لكنها “رزق الناس” يقول عم شعبان: “في شغل بيعرقك.. لكن التلقيم بيعرقك ويخوفك. إيدك قريبة من الخطر، ورأسك قريبة من التراب”. يقف على لوح معدني أمام الماكينة، لا يبعد أكثر من 30 سم عن الفُم الدوّار، وأمامه كوم غلة بطول مترين. كل دقيقة تُرمى إليه ربطة، فيلتقطها، يُقلبها، يُدخلها، ثم التالية.
وعلى بعد خطوات، يجلس صاحب الأرض، يُتابع بعينه، ويحسب كم كيس خرج، وكم بقي. لكن العم شعبان لا ينشغل بالحسابات، فهو يعرف أن كل ربطة يُلقمها تُقربه من نهاية الفدان، ومن أجره المتفق عليه، “أنا مش شريك في الأرض، لكني شريك في تعبها”. يعمل أحيانًا بصمت، وأحيانًا يغني أغنية قديمة عن القمح والرزق، ويقول إن هذه الأغاني “بتنسي الخطر” ولو قليلًا.
“يا قمح طيب يا لاه/ حبه الحصيده يا لاه/ القمح اتساوه يا لاه/ طلب الكراوه يا لاه/ كراوه نقاوه يا لاه/ حصيده زين يا لاه/ هتسد الدين يا لاه”.
غبار في الرئة
وعند الغروب تتوقف الماكينة، يخفت الصوت وتخف الحركة، يرفع عم شعبان يديه ليُنفض الغبار عن ملابسه، يشرب من زجاجة مياه دافئة. وجهه مُغطى بطبقة ترابية، لكنه لا يُبالي، ينتظر أن ينهي صاحب الأرض الحساب، ثم يأخذ أجره نقدًا.
“بنسلم المكنة.. ونقول الحمد لله، فدان عدّى على خير”. ورغم أن العمل موسمي، لا يستمر سوى شهرين، إلا أنه يُعادل شهورًا من الرزق المتقطع.
هكذا هو عامل التلقيم.. حارس فم الماكينة وشاهد التطور، ضحية اختفاء المهن القديمة، لكنه ما زال يقف بشموخ وسط الغبار، يُمسك ربطة الغلة، ويضعها في الحديد، كمن يُطعم بيده حصانًا جائعًا، ثم ينتظر أن تخرج الحبوب وتبدأ حياة جديدة في الشوال.
اقرأ أيضًا:قراءة جديدة في “رأس الحكمة” وما بعدها من رؤوس
المشهد الخامس: المسرح الأخير لتعب الأرض
صومعة المركز –صباح توريد القمح
على أطراف القرى، لا يلوح من بعيد إلا مبانٍ إسمنتية ضخمة بلا نوافذ، تُحيط بها أسوار من حديد وأسلاك شائكة.
لكن من يقترب أكثر، يدرك أن خلف هذا الجمود حراكًا لا يتوقف. يسمع صوت موتور الشفط، وصراخ العمال، وهدير الجرارات التي تجر عربات مكدّسة بأكياس القمح.
هنا.. في “صومعة المركز”، تبدأ رحلة جديدة من عمر “الغلة”.. أكثر انتظامًا، لكنها أيضًا أكثر قسوة وانضباطًا.

ويبدو فناء صومعة القمح كأنه ساحة حرب منظمة، أمام البوابة، يقف غفراء الأمن والمفتشون الزراعيون، مثل حُراس معبر بين الريف والدولة. يبدأ الطابور من السابعة صباحًا، لكنه لا يتحرك قبل التاسعة. تصطف الجرارات والسيارات -نصف نقل- وأيضًا عربات حديدية يجرها الحمير كل يحمل محصول أرض كاملة، ويجلس سائقه فوق الكيس الأخير، ممسكًا بجركن ماء وأعواد سجائر.
رجال يتصببون عرقًا حتى قبل أن يبدأ العمل، يُنادون على بعضهم بأسماء الأراضي: “أرض الحاج محمود وصلت..؟!“
في الداخل، يقف موظف شاب خلف شباك حديدي صغير، يمسك دفترًا سميكًا وقلمًا جافًا، يُدوّن بيانات الموردين: أسماءهم، مساحة الأرض، عدد الشكاير، وعدد الأردِبة. وخلفه، موظف آخر يراقب شاشة جهاز الوزن الإلكتروني، في تتابع روتيني دقيق.
وفقًا للقرار الوزاري رقم 46 لسنة 2025، بدأ موسم توريد القمح المحلي يوم 15 أبريل، وتُحدَّد الأسعار كالآتي:
* 2200 جنيه للأردب زنة 150 كجم بدرجة نقاوة 23.5 قيراط
* 2150 جنيه للأردب زنة 150 كجم بدرجة نقاوة 23 قيراط
* 2100 جنيه للأردب زنة 150 كجم بدرجة نقاوة 22.5 قيراط
يقول الموظف بصرامة وهو يرفع كيسًا ثقيلًا: “كل شكارة لازم تتوزن لوحدها”.
في فناء الصومعة، يتحرك العمال بخفة ودقة. بعضهم يربطون رؤوسهم بقطع قماش مبللة، وبعضهم حفاة الأرجل من كثرة الركض. يحمل كل منهم شكارة على ظهره، تزن أكثر من خمسين كيلو جرام، يتحرك بها نحو المفرغة المعدنية، حيث يتم فتحها وتفريغ القمح داخل قادوس حديدي.
صوت الحبوب وهي تسقط كالمطر داخل القادوس لا يتوقف، يشبه سيلًا من الرمال، لكنه أثقل، وأغلى.
“هات كيس.. خلّي بالك من الحتة دي.. عدّي على الماكينة..” هكذا تملأ الصيحات المكان، ولا يكاد العامل يلتقط أنفاسه حتى يزحف نحو الشاحنة التالية. في زاوية الفناء، يجلس الحاج محمود، على كرسي خشبي مكسور، يراقب المشهد بنظرة رجل مرّ عليه أربعون موسم توريد.
“زمان كنا نفرغ الشكاير و ننضفها بإيدينا، دلوقتي كله على السريع.. بس لسه الغلة غالية في عيوننا”، يقول وهو يمسح العرق من جبينه. يستدعي أحد العمال المندوب المسؤول عن الفرز، فيفتح كيس وتفرد منه حفنة في طبق معدني صغير، تُفحص الحبة لونًا ورائحة، وتُفرك بين الأصابع، ثم يُحدد: “درجة أولى.. أو ثانية.. أو فيه شوائب محتاجة غربلة”.
في كل خطوة، هناك توازن دقيق بين الأرض والتاجر والدولة. كل مزارع جاء ليورد محصوله يراقب بقلق.
تبدأ إجراءات التوريد
يُوَزن الشوال، يُفتح عشوائيًا، تُفحص الحبوب بعين فاحصة: هل بها سوس؟ هل هي رطبة؟ ما درجة نقاوتها؟ أحد الفنيين يستخدم جهازًا رقميًا لفحص نسبة الرطوبة. “درجة أولى.. ووزن مظبوط”، يقولها الموظف، ويهز رأسه بارتياح.
بعد القبول، يُنقل الشوال إلى خط تفريغ، حيث يُسكب في “الهابطة” الحديدية، فتتساقط الحبوب كالسيل الذهبي، وتتجمع في باطن الصومعة. وفي نهاية الفناء، تقف الحاجة أم حسن، زوجة الحاج محمود ، تشد طرف طرحتها على وجهها لتحميه من الشمس، وتراقب الشكاير وهي تُفرغ. تقول بصوت نصفه فخر ونصفه حسرة: “القمح ده ما جاش بالساهل.. ده وراه ليالي، وتعب ما يعلم بيه إلا ربنا”.
قبل المغيب، تنخفض أصوات الماكينات تدريجيًا. تبدأ الجرارات في رحلة عودتها. كل شاحنة فارغة تتحرك ببطء، كأنها استنفدت كل قوتها. والعمال منهارون على الحافة الإسمنتية، يغسلون وجوههم من حنفية صغيرة، يضحكون رغم الإرهاق.
يخرج موظف الوزن بيده إيصالات التوريد، يمسكها الفلاحون كما يمسك الأطفال شهادات المدرسة: فيها حصاد عام كامل.
في هذا المكان، كل خطوة محسوبة، وكل حبة تُوزن، لكن المشاعر لا تُقاس بالكيلو. فالفلاح يعرف أن هذه الصومعة ليست مجرد مخزن.. إنها بوابة اعتراف موسمي بتعبه، وصراعه من أجل البقاء في قلب أرض ما زالت تمنح رغم الجفاف، وتُثمر رغم كل ما يُقال عن الزراعة “اللي بتموت”.

ايه الوصف الدقيق ده والجمال فى اختيار الكلمات ان هذ المقال ماهو الا فيلم تسجيلى بالرغم من انه مقروء الا انه مرئ كأن القارئ يراه رؤى العين واكاد اسمع الموسيقى التصوريه المصاحبة له
احسنتى يارنيا