في غزة.. لا أحد ينام آمنًا. كانت تسهر الليالي في المستشفى، تنقذ طفلًا مصابًا بشظايا قذيفة، أو تضع كمّادة على جبين أم مفجوعة. بين يديها كانت الحياة تعود لرضيع تاهت أنفاسه تحت الركام، وتنبض من جديد في قلب توقّف لحظة من الرعب.
لم تكن الدكتورة آلاء تعلم أن حياتها، هي ذاتها، على وشك أن تُختصر في صورةٍ مكسورة، وأن أسماء أطفالها التسعة ستُكتب على شواهد قبور تحمل من الحزن آخره ومن الموت قسوته.
كانت آلاء النجار أستاذة الطب في جامعة الأقصى، ليست فقط مداويةً لجراح الناس، بل أمًا تسابق الزمن لتعد لهم الطعام وتراجع معهم دروسهم، قبل أن تنطلق إلى قاعة المحاضرات أو تعود إلى مناوبة طارئة. جسدها واحد، لكن روحها موزّعة، مقسمة، بين طلابها وأطفالها والمرضى الذين يئنون خلف جدران المستشفيات المحاصرة.
بخان يونس جنوبي قطاع غزة، كان بيت الدكتورة آلاء النجار يعجّ بالحياة. عشرة أطفال، تتعالى ضحكاتهم من زوايا الغرف، يمتزج صراخهم البريء بأصوات الملاعق في المطبخ، بأغاني الرسوم المتحركة التي لا تنقطع عن التلفاز.. حتى بدأت الحرب.
في مساء دامٍ، سقطت قذيفة إسرائيلية على منزلها. لم تكن هناك صفارات إنذار. لا وقت للهروب. عشرة من أبنائها كانوا في المنزل، تسعة أرواح انطفأت دفعةً واحدة. بقي عاشرهم، جريحًا يتنفس بالكاد، فيما تلقت هي جثامين صغارها بيدين مرتجفتين هذه المرة، لم تقوى على الاستيعاب والتعاطي مع الألم.
رُج البيت. دخل الرعب دخول البشر. إنه صاروخ لم ينفجر. رفع الجد رايته البيضاء كي يحمي عائلته لتمر بسلام. لكن صاروخ آخر في غمضة عين!.
كانت آلاء في المستشفى، حين وصلها الخبر. هرعت كمن يركض بأنفاس أخيرة وقلب مزّقه الصاروخ الساقط على المنزل. لم تكن طبيبة في هذه اللحظة، بل أمًّا تحمل بقايا لعب، تبحث عن فردة حذاء صغيرة، عن دمية مشقوقة، عن كفٍّ صغير ممدود تحت الأنقاض.
دكتورة بطب الطوارئ، تعرف كيف تُغلق جرحًا مفتوحًا، كيف تُنعش قلبًا توقف، كيف تُقدّم الأكسجين في لحظة حرجة.. لكنها لا تعرف كيف تنقذ قلبها حين يتمزق أشلاءً.
تحاول.. عبثًا تحاول أن تُعيد الحياة إلى صغارها، فلا أحد يرد.
تحاول.. جهدًا تحاول إنعاشهم، وهي خير من يعرف أن ما مات لن يعود.
“هم أحياءٌ عند ربهم يُرزقون”؛ تقولها بصوت عالِ عله يُسكت نحيب يكوي جوفها.
وجدت أبناءها التسعة.. صامتين. بعضهم مات وهو يحتضن الآخر. أحدهم كان ما يزال دافئًا. ضغطت على صدره الصغير، نفخت في فمه، بكت، ثم صرخت، وانهارت: “هم تسعة: يحيى، ركان، رسلان، جبران، إيف، ريفان، سيدين، لقمان، سيدرا، هم عندك يا رب”.
بقي لها طفل واحد، نجا بجراح بالغة. تقول: “أنظر إليه، فأراهم جميعًا في وجهه”.
“استشهاد أبنائكِ يا آلاء في قصفٍ غادر جريمة لا تُنسى، لكنها شهادة نرجو الله أن ترفعهم عنده مقاماتٍ عالية، ويُلبسكِ بهم تاج الصبر في الدنيا والآخرة”؛ نعتهم إدارة مستشفى التحرير بقطاع غزة.. نعاهم أطباء غربيين في مقاطع فيديو لم تتوقف.. نعاهم كل صاحب قلب ينبض، رأى آلة الإبادة تقصف وجودنا البشري في منزل آلاء.. في خان يونس.. في غزة.. في عالم أردناه إنسانيًا.
