لم تكن الجروح في جسدها أكثر فتكًا من ذلك الألم الذي يسكن عينيها، حين تنظر إسراء جعابيص في المرآة، لا ترى فقط آثار الحروق، بل تشاهد تفاصيل الحادث، النار، والصراخ، ويدها وهي تذوب أمامها ولا تستطيع فعل شيء.
في صباح خريفي من أكتوبر 2015، كانت تقود سيارتها من أريحا إلى القدس، في السيارة أسطوانة غاز، ومقاعد مكدسة بالأغراض، وأمنية بسيطة بالوصول إلى منزلها الجديد. فجأة، تعطلت المركبة عند حاجز الزعيم، وفي لحظات لم تدرك كيف اشتعل كل شيء: "كنت أصرخ وأقول انفجار.. انفجار، بس ما في حد ساعدني. الجنود واقفين بعيد وبيشاهدوا جسمي بنحرق".
اشتعلت السيارة، واشتعل جسدها، احترقت يداها بالكامل، وجهها ورقبتها وظهرها، والتصقت أذناها برأسها، تساقط جلدها، وتقلصت عضلاتها. بينما كانت وحدها، تصرخ في العراء، والجنود يراقبون المشهد من بعيد.. دون تدخل.
لم تُنقل إسراء إلى المستشفى ضحية حادث، بل متهمة.
قيدوا يديها المتفحمتين، ووضعوها تحت الحراسة في سرير المستشفى، تركوها تنزف دون علاج أو عمليات طارئة، وظلت تصرخ من الألم بلا مسكنات حقيقية: "كان الألم لا يُطاق، وكنت أقول للممرضة: ساعديني، كنت أحس بجسمي بيتآكل".
ولم يقتصر الأمر على الإهمال الطبي. تقول إسراء لـ فكّر تاني: "تعرضت للسخرية من جنود الاحتلال، دخلت مجندة إلى غرفتي ثم رفعت يدها أمام وجهي وقالت بابتسامة ساخرة: ‘شايفة أصابعي؟ إنت ما عندك أصابع‘. ضحكت ثم خرجت. كانت أقسى لحظة مرت عليا. لحظة موت، بس وأنا عايشة".
حكم عليها الاحتلال بالسجن 11 عامًا، بتهمة محاولة تنفيذ عملية، لكنها في الحقيقة كانت تحترق.
داخل السجن، بدأت الأسيرة المُحررة رحلة جديدة من العذاب. كانت تُمنع من العلاج الجراحي، تحصل على مرهم للحروق كل ثلاثة أيام بكمية ضئيلة، لا تكفي طفلًا، فكيف بجسد محترق بنسبة تفوق 60%؟ تقول: "أول مرة طلبت فيها علاج، حكولي: لا عمليات، هذا مش فندق، هذا سجن".
خضعت فقط لثلاث عمليات طارئة طوال ثماني سنوات، رغم حاجتها لعشرات. أُصيبت أصابع يديها بموت الأنسجة -الغرغرينا، و تُركت حتى بترت أصابعها تباعا: "كنت بصحى ألاقي ضفري واقع، بعد فترة، أصبعي كله اختفى، كانوا بيحكولي: هذا طبيعي.
لكني عارفة إنه مش طبيعي".
السجن لم يكن ذا نوافذ، لكنهم وضعوا في زنزانتها مرآة، وهي تعلم أن وضع المرايا في الزنازين ممنوع: "بدهم يعذبوني أكثر يشوفوا وجهي كل يوم وأتذكر النار".
إسراء جعابيص كانت تعيش مع 30 أسيرة، لكن وضعها كان الأصعب، لا تستطيع استخدام الحمام وحدها، لا تقوى على حمل الماء أو الأكل: "في بنات كانوا يساعدوني.. بس في أوقات ما كانش في حدا.. كنت بآكل ودموعي بتنزل عالوجبة".
ابنها معتصم، الذي كان في الثامنة حين اعتقلت، لم تره سوى مرات محدودة طوال هذه المدة: "كنت أطلب صورته يقولو لي: لا الصورة سلاح؟"، وتضيف: "معتصم كبر وأنا مش شايفاه. كان طفل، هلأ صار شاب، وأنا كل اللي عندي صورته يوم الاعتقال".
وسط هذا الجحيم، وجدت في الكتابة طوق نجاة، كتبت كتابًا بعنوان "موجوعة"، سجلت فيه يومياتها وآلامها ورحلتها مع الوجع: "اخترت اسم موجوعة، لأنه أنا موجوعة فعلًا، مش بس بالجسد، موجوعة بالروح، بالحرمان، بالسجن، بضحكة ابني اللي ما سمعتهاش".
في إحدى جلسات المحكمة، طالبت بأن ترى ابنها، أن تُعالج، وأن يُسمح لها بجراحة في يدها. رفض القاضي، وقال: "أنتِ مجرمة"، لكن الأسيرات كن يُرددن: "هي رمز.. هي مش مجرمة".
ثماني سنوات مرت، وكان الجرح يكبر. تحكي: "ما بنام، النوم بيجي لما الجسم يتعب كتير، حتى بالحلم بشوف النار".
وفي نوفمبر 2023، تم الإفراج عنها ضمن صفقة لتبادل الأسرى، استقبلها ابنها معتصم. صار شابًا، حضنها بصمت طويل، لم يتحدث، لكنه، بكى كثيرًا: "كنت خايفة يشوف وجهي ويتفاجأ.. بس لما حضني، حسيت إني رجعت أم".
اليوم، تعيش إسراء في القدس، تواصل العلاج وتزور مستشفيات في الخارج لمحاولة ترميم جسدها، تحلم بأن تفتح مؤسسة لدعم الأسيرات المحررات، وتكتب كتابًا ثانيا.
"أنا موجوعة.. بس مش مكسورة"، تقول وهي تمسح دموعها، وتستكمل: "اللي صار معي صار مع كل أسيرة، أنا بس كنت واجهة لنار بتاكل فينا كلنا".
لم تكن مجرد ضحية حريق أو رقمًا في قائمة الأسرى، كانت تحمل في عينيها هوية واضحة، وموقفًا منحازًا، وانتماءً لوطنها.

جاءت كلماتها دائمًا ثابتة، وكأنها تُقال من فوق منصة. رغم آثار الجراح في صوتها، لم تكف عن النضال، حين كانت تتألم بصمت، كان يُسأل عنها ليس فقط باعتبارها أسيرة، بل مناضلة وصوتًا ما يزال يقاوم حتى من داخل زنزانة.
"لست نادمة على دفاعي ولن أغير قناعاتي بسبب الألم، الاحتلال ظن أن النار تغير الأفكار، لكنها فقط زادتني إيمانًا بأننا لا نملك إلا أن نقاوم". كانوا يضعون لها المرايا كي تنهار من مظهرها، يتركونها تنزف دون علاج، لكن ما أوجعهم حقا لم يكن جسدها المشوه، بل أن روحها ظلت واقفة.
خرجت من السجن وفي يدها مسودة كتاب اختارت له اسمًا لا يحمل مواربة: "موجوعة"، ليس لأنه يشكو فقط، بل لأنه يوثق، يصرخ، ويشهد.
"هذا الكتاب هو صوتي، وحق كل أسيرة، وكل أم، وكل بنت فلسطينية دفعت من جسدها ثمن الحرية، أردت أن يعرف العالم أن وجعي لم يكن شخصيًا، بل وطنيًا."
الاحتلال بيخاف منا لما بنحكي عن الوجع
قبل الحريق، لم تكن إسراء تبحث فقط عن لقمة عيش وبيت دافئ، بل اهتمت بـ "الوطن"، كانت تكتب منشورات عن الوطن وعن الأسرى، عن الشهداء، فصفحتها على فيسبوك كانت مليئة بصور القدس، بالاقتباسات الثورية، والتضامن مع غزة، كانت تعرف جيدًا أن الاحتلال لا يحب الكلمات.
لكنهم لم يعتقلوها بسبب منشور، لم يعتقلوها وهي توزع بيانًا. اعتقلوها وهي مشتعلة، محترقة، وفي طريقها لتغيير سكنها، بأسطوانة غاز في السيارة، قالوا إنها "قنبلة متحركة".
"أنا ما كنتش بعمل عملية، ما كنتش شايلة سلاح، كانوا بدهم حدا يحطوا عليه تهمة، وكنت أنا المناسبة، جسمي المحروق كان هو التهمة".
داخل جلسات المحكمة، لم يسمحوا لها بالكلام، وضعوا صورها المحترقة كدليل. قالوا: "حاولت تفجير الجنود"، لكن الأدلة كانت خاوية، لا مواد متفجرة، لا شاهد، فقط جسد مشوه وروح تقاوم.
في السجن، لم تضعف. كتبت وقرأت، ودعمت الأسيرات، كانت تقول لهن: "الوجع بيعلمنا، ما بيوجعنا بس"، علمت الأسيرات كيف يتحملن التحقيق، كيف يُخفين الدموع، وكيف يحفظن الأغاني.
ورغم الجراح، كانت تشارك في كل احتجاج داخل السجن، كانت ترفع صوتها حين تسمع صوت تعذيب أسيرة أخرى وكانت ترفض الانصياع لأوامر الإدارة، رغم أنها لا تستطيع حتى رفع يدها "المقاومة مش بس بالبندقية، أوقات تكون بكلمة، أوقات تكون بسكوتك وأنت موجوع".
وفي صفقة تبادل الأسرى نوفمبر 2023، طالبت بها الفصائل بالإسم، لم تكن مجرد اسم في القائمة، بل كانت مطلبًا إنسانيًا. وبعد الإفراج عنها، هتف لها الناس: "يا رمز العزة.. يا نار ما بتنكسر".
ظن الاحتلال أن الحريق سوف يُطفئها والمرآة لتكسرها، وأن الجُرح يُنهي حياتها. لكنها أقوى، تحمل قضيتها على جسدها، وتقول للعالم: "أنا مش ضحية.. أنا شاهدة".