حين نطرح السؤال: "ما النظام الانتخابي الأنسب لمصر؟"، لا ينبغي أن نراه سؤالًا تقنيًا فحسب، بل هو سؤال سياسي عميق، لأنه يتعلق بجوهر العلاقة بين المواطن والسلطة، وبكيفية بناء تمثيل سياسي حقيقي يعبر عن تنوع المجتمع ومطالبه.
في هذه السلسلة التي بدأناها بمقال عن أنواع النظم الانتخابية في العالم، نحاول الانتقال من العموم إلى خصوصية الحالة المصرية، بحثًا عن نظام انتخابي يساعد في بناء ثقة المواطن، ويخلق برلمانًا له وزن حقيقي في الحياة السياسية.
النظام الفردي
اعتمدت مصر في أغلب محطاتها الانتخابية على النظام الفردي، بما في ذلك الانتخابات النيابية المثيرة للجدل في عام 2010، والتي كانت فردية بالكامل، وشهدت إقصاءً شبه كامل لكل قوى المعارضة.

ورغم أنه يُفترض أن يقرّب النائب من دائرته ويعزز صلته بالناخبين، إلا أن الواقع يقول إن النظام الفردي غالبًا ما يُنتج برلمانات يغيب عنها التنوع والتوازن، ويعزز العصبيات العائلية والقبلية، ويفتح المجال لتأثير المال السياسي والوجاهة الاجتماعية على حساب الكفاءة والبرنامج. وفي مثل هذا النظام، يصبح النائب "نائب خدمات" لا تشريع ولا رقابة، وتختلط الوظائف، وتتراجع فكرة العمل البرامجي لصالح العلاقات الشخصية.
النظام المختلط
خاضت مصر بعد ثورة يناير ثلاث تجارب انتخابية كلها مع النظام المختلط، وكانت النتائج متفاوتة:
في 2011: جرت الانتخابات بنظام مختلط (50% فردي + 50% قائمة نسبية مغلقة)، وقد كانت دوائر القائمة صغيرة نسبيًا، حيث قسمت القاهرة مثلًا في انتخابات مجلس الشعب إلى 4 دوائر انتخابية. وساهمت نسبيًا في تمثيل أوسع للقوى السياسية، رغم ما شابها من اضطراب سياسي عام نتيجة حالة السيولة فيما بعد الثورة.
أما في 2015: اعتمدت مصر نظامًا مختلطًا يميل بشدة للفردي، حيث كان أكثر من 75% من المقاعد بالنظام الفردي، بينما خُصصت نسبة صغيرة جدًا للقوائم بنظام القائمة المطلقة بدوائر كبيرة جدًا، مما أفرغ التجربة من التعددية.

وفي 2020: جرت الانتخابات بنظام مختلط كسابقتها ولكن مناصفة (50% فردي + 50% قائمة مطلقة مغلقة)، مما أعاد إنتاج برلمان تُحسم فيه النتائج بشكل شبه كامل قبل التصويت، بسبب طبيعة القائمة المطلقة، حيث لا تنجح إلا القائمة التي تحصد الأغلبية الكاملة، ولا يُمنح أي تمثيل نسبي للقوائم الأخرى.
القائمة النسبية
يساعد نظام القائمة عامةً الفئات الخاصة من التمثيل النيابي كالنساء والشباب والمسيحيين... إلخ، ولكنه تمثيل فارغ من مضمونه حيث يعبرون في النهاية عن الجهة أو السطة التي اختارتهم وليس عن الفئات التي يمثلونها.
لكن القائمة النسبية - خاصة إن كانت مفتوحة - من أفضل النظم التي تضمن تمثيلًا حقيقيًا لقوى المجتمع المتنوعة، سواء كانت أحزابًا سياسية، أو مجموعات شبابية، أو نساءً، أو مستقلين.
من مزايا القائمة النسبية:
توزيع المقاعد بما يتناسب مع عدد الأصوات، مما يحد من الإقصاء.
تقليل دور المال السياسي في شراء الأصوات.
إتاحة الفرصة أمام قوى صغيرة لتشارك في الحياة النيابية.
تشجيع المواطنين على التفكير في البرامج والسياسات لا الأشخاص فقط.
لكن هذا النظام لا ينجح من تلقاء نفسه. بل يحتاج إلى بيئة انتخابية نزيهة، وتمويل عادل، وإعلام موضوعي، ورقابة فعالة على الدعاية والتمويل، وهو ما لا يتوفر بشكل كافٍ حتى اليوم في مصر.
وعي المواطن
لا يمكن لأي نظام انتخابي، مهما كان مثاليًا على الورق، أن يحقق نتائج مرضية في ظل ضعف الوعي السياسي لدى الناخبين. إذا لم يكن المواطن مدركًا لحقوقه وأهمية صوته، وإذا لم يميز بين النائب "الخدمي" والنائب "السياسي"، فإن أي نظام سيفرز في النهاية تمثيلًا شكليًا أو هشًا. ولذلك فإن تعزيز الوعي العام – من خلال التعليم، والإعلام، ومنظمات المجتمع المدني – هو ضرورة موازية لأي إصلاح في قوانين الانتخاب.

النظام الأفضل لمصر
استنادًا إلى التجارب التاريخية، وإلى متطلبات العدالة السياسية والاجتماعية، فإن نظام القائمة النسبية المفتوحة مع دوائر واسعة وتمثيل نسبي حقيقي، يبقى الخيار الأنسب لمصر في هذه المرحلة.
لكن هذا يحتاج إلى ضمانات، أبرزها:
ضبط الرقابة على الإنفاق والدعاية الانتخابية.
استقلال الجهة المنظمة للانتخابات.
إتاحة الفرص المتكافئة في الإعلام.
محاربة كل أشكال التزوير أو الضغط أو شراء الأصوات.
مجالس محلية منتخبة تتحمل عبء الخدمات والرقابة المحلية.
ولأننا سنناقش لاحقًا هذه القضايا بشكل تفصيلي، فإننا نكتفي هنا بالإشارة إلى أن نزاهة الانتخابات ليست فقط في القانون، بل في المناخ العام، وفي الإرادة السياسية لاحترام نتائج الصندوق.
في المقال القادم من هذه السلسلة، نناقش:
ما الذي تحتاجه العملية الانتخابية لتكون نزيهة وممثلة حقًا؟ من دور الهيئة المشرفة، إلى الضمانات الرقابية، ودور الأحزاب والإعلام والمجتمع المدني.
* الحلقة الثانية من سلسلة مقالات حول النظام الانتخابي في مصر