في حوار شامل، فتح المستشار محمد ناجي دربالة نائب رئيس محكمة النقض الأسبق أحد أبرز قيادات تيار استقلال القضاء، ملفات قانونية وسياسية وقضائية عديدة، متحدثًا بضمير القاضي، ورؤية المحب لوطنه، وسيادة القانون والدستور، منتقدًا ما حدث في قانون الإجراءات الجنائية الجديد، وزيادة الرسوم القضائية.
دربالة، الذي يعد من أبرز شيوخ القضاء في مصر في العقدين الأخيرين، شدد على أهمية استقلال القضاء، موضحًا أن المسار الديمقراطي لا يمكن استعادته دون وجود ضمانات قضائية قوية ومستقلة، وبناء ديمقراطية حقيقية تحفظ الحقوق وتصون الحريات.
وفي تقييمه لملف حقوق الإنسان، أشار إلى أكثر من 800 ملاحظة أممية على وضع الحريات بمصر، محذرًا من أن الحبس الاحتياطي بات وسيلة للعقاب خارج القضاء. بينما في الشأن العربي، وصف جرائم الاحتلال في غزة بأنها “جريمة حرب مكتملة الأركان”، مشيدًا بالتحركات الدولية لملاحقة المسؤولين الإسرائيليين.

قانون السلطة القضائية
كيف تستحضر اللحظات التي سبقت تعديل قانون السلطة القضائية، والذي كان مقررًا أن تتولى بموجبه رئاسة المجلس الأعلى للقضاء؟ وما هي أبرز المحطات في مسيرتك القضائية التي تراها مرتبطة بهذا الأمر؟
دعني أوضح بدايةً أن مسألة تولي رئاسة المجلس الأعلى للقضاء لا ينبغي أن تُفهم على أنها شأن شخصي. فجوهر القضية يتمثل في الجهة التي تملك سلطة اختيار رئيس المجلس الأعلى للقضاء ورئيس محكمة النقض، وهذه مسألة جوهرية تمس صلب مبدأ استقلال السلطة القضائية.
لا يمكن الحديث عن استقلال فعلي للقضاء في ظل بقاء سلطة تعيين رئيس محكمة النقض، وبالتالي رئيس المجلس الأعلى للقضاء، بيد السلطة التنفيذية؛ سواء كان ذلك عبر رئيس الجمهورية أو وزير العدل أو أي جهة تنفيذية أخرى.
حين تتدخل السلطة التنفيذية في اختيار رئيس أعلى جهة قضائية، تُثار بالضرورة تساؤلات مشروعة حول مدى استقلالية هذا الاختيار، إذ من المرجح أن يأتي المرشح وفق توافق مع الجهة المقرِّرة، وهو أمر يناقض مبدأ استقلال القضاء والفصل بين السلطات. فالرئيس المفترض لمحكمة النقض ينبغي أن يكون بمنأى عن التأثيرات السياسية والتنفيذية، حتى لا يُفسَّر تعيينه على أنه امتداد للسلطة التنفيذية أو خاضع لاعتباراتها، وهو ما لا يجب أن يحدث حفاظًا على استقلال القضاء ومبدأ الفصل بين السلطات.
وبالتالي، فإن اختيار رئيس محكمة النقض هو جزء أساسي من استقلال القضاء، بمعنى أنه لابد أن يكون الاختيار من واقع محكمة النقض، وهو ما كان يجري العمل به طوال السنوات السابقة، بأن يتم اختيار الأقدم من بينهم ليتولى رئاسة محكمة النقض ورئاسة المجلس الأعلى للقضاء، ومن ثم لا يكون هناك مجال لهندسة اختيار معين لهذا المنصب، وبالتالي يكون حرًا ويتمتع بتمام الاستقلال في قراراته.
كثيرًا ما تتقاطع القضايا السياسية مع القضايا القضائية. على سبيل المثال، في الانتخابات والإشراف عليها من قبل القضاة، إذا كان رئيس محكمة النقض مختارًا من قبل رئيس الجمهورية، فإننا في هذه الحالة نثير الشكوك حوله بأنه سيضع قواعد الانتخابات أو يختار قضاة محددين لتحقيق الغايات التي يتبعها رئيس الجمهورية أو حزبه.
لا يمكن الحديث عن استقلال فعلي للقضاء في ظل بقاء سلطة تُعين رئيس المجلس الأعلى للقضاء

وبالتالي، كانت قاعدة الأقدمية المطلقة هي السارية إلى أن صدر القانون الذي أعطى رئيس الجمهورية الحق في اختيار رئيس محكمة النقض من بين أقدم خمسة نواب بالمحكمة، فـ”ضُربت” قاعدة الأقدمية.
رئيس الجمهورية لا يختار من واقع معرفته الشخصية بالمرشحين، وإنما يختار من خلال التقارير التي ترفع إليه من الجهات المختلفة التي تقيم هذه الشخصيات، وبالتالي أصبحت هذه الجهات لها اليد الطولى في تعيين رئيس محكمة النقض، فإذا كتبت مثلًا أن شخصًا غير متعاون أو من تيار استقلال القضاء مثلًا سيُستبعد.وهو ما حدث بالفعل خلال أول تطبيق للتعديلات في عام 2019، حيث كانت هناك تقارير تقييم شخصيات المرشحين، وصلت حتى التقييم العائلي والحياة الأسرية، وتم استبعاد بعض المرشحين بناءً على هذه التقارير.
وعلى سبيل المثال، عند أول تطبيق للقانون، كان من المفترض أن يتولى المستشار أنس عمارة، وهو قاضٍ مهني وكفء وعالم من الطراز الأول في القانون الجنائي ولا تشوبه شائبة، إلا أن الاختيار وقع على غيره، وكان السبب وراء استبعاده هو أنه سبق له الترشح ضمن قائمة المستشار يحيى الرفاعي في انتخابات نادي القضاة عام 1987. رغم أن مشاركته كانت فقط لاستكمال القائمة ولم يشارك في الحملة الانتخابية، وأعلن وقتها أنه لا شأن له بالانتخابات، لكنه لم يتخلف عن دعم أفكار تيار استقلال القضاء. وذاكرة الحكم لم تنس هذا الأمر، واستبعدته عند الاختيار، وتم اختيار القاضي مجدي أبو العلا، النائب التالي له في الأقدمية.
معارك الطعن على التعديلات
خضت معارك قضائية بشأن هذا التعديل. ما هي أبرز القضايا التي رفعتها وما النتائج التي توصلت إليها هذه القضايا حتى الآن؟ وما هو تقييمك الحالي لهذا المسار؟
في تلك المرحلة، ورغم صدور قرار بإحالتي إلى المعاش، قررت أن أخوض معركة قانونية ليس لأسباب شخصية، وإنما دفاعًا عن مبدأ استقلال القضاء. قمت برفع دعوى تطعن في دستورية القانون الجديد المتعلق باختيار رؤساء الهيئات القضائية.
وأكدت أن النص محل الطعن يمس بشكل مباشر مبدأ استقلال السلطة القضائية، وينتهك الضمانات الدولية التي أرستها المواثيق الأممية، بما في ذلك الإعلان العالمي لاستقلال القضاء، والقواعد النموذجية المتعلقة بحقوق وواجبات القضاة وأعضاء النيابة.
كنت أول من بادر بالطعن على هذا القانون، قبل أن يلحق بي المستشار أنس عمارة ويقيم دعوى موازية. وحرصت على أن أؤكد في الدعوى أن لي مصلحة قانونية مباشرة، خشية أن تُرفض الدعوى لانتفاء الصفة، إذ كنت آنذاك أطعن على قرار إحالتي إلى التقاعد من مجلس التأديب، وفي حال قبول الدعوى وعودتي لمنصة القضاء، كان من المفترض أن أتولى رئاسة محكمة النقض ورئاسة المجلس الأعلى للقضاء استنادًا إلى قاعدة الأقدمية المطلقة خلال العام القضائي 2024/2025.
غير أن المحكمة رفضت الدعوى بحجة انتفاء الصفة، رغم أنني قدمت ما يثبتها تفصيلًا. ثم جاء التطور الأبرز، حين تم تحصين القانون المطعون عليه دستوريًا، عبر تضمينه ضمن التعديلات التي أُجري عليها استفتاء شعبي، وهو ما أغلق الباب أمام إمكانية الطعن عليه مستقبلًا.
بناءً عليه، رُفضت أيضًا دعوى المستشار أنس عمارة. السيناريو ذاته تكرر مع المستشار يحيى الدكروري، النائب الأول لرئيس مجلس الدولة وصاحب الحكم التاريخي ببطلان اتفاقية التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، حيث تم تجاوزه رغم أقدميته، وأقام دعوى طعن قوبلت بالرفض لنفس السبب: تحصين النص عبر الدستور.
المحكمة استندت في أحكامها إلى أن الاستفتاء الشعبي منح القانون المشكو منه صفة الدستورية، ومن ثم بات الدفع بعدم دستوريته غير ذي محل. وبهذا، أصبح القانون نافذًا، وصارت سلطة الاختيار في يد رئيس الجمهورية، الذي بدأ بالفعل في استخدام هذه الصلاحية.
مستقبل القانون
هل ترى أن هذا القانون باقٍ؟ وما هي المسارات التي يمكن اللجوء إليها؟
من الناحية القانونية، كل المسارات أُغلقت بعد إدراج القانون ضمن نصوص الدستور، وهو ما منحه حصانة تشريعية تحول دون الطعن عليه في الوقت الراهن.
ورغم ذلك، فإنني أؤمن يقينًا بأن هذا القانون إلى زوال، لأنه، برغم تحصينه، يفتقد للشرعية الدستورية من حيث احترامه لمبدأ استقلال القضاء، كما يتعارض مع الأعراف القضائية المستقرة، وعلى رأسها قاعدة الأقدمية المطلقة في تولي المناصب العليا.
وأعتقد أن الغالبية العظمى من القضاة، لا تقل نسبتهم عن 99%، يرفضون هذا التوجه، ويطمحون إلى عودة المسار التقليدي القائم على الأقدمية كضمانة حيادية ومجردة. وحين تُغلق المسارات القانونية، يصبح لزامًا على المؤمنين باستقلال القضاء أن يتحركوا في إطار المؤسسة ذاتها.

في هذا السياق، يتحمل نادي القضاة مسؤولية تاريخية. فقد سبق أن أُعلن عند صدور هذا القانون اعتزامه الدعوة إلى جمعية عمومية غير عادية لمناقشة الأمر، بل وصرّح رئيس النادي آنذاك، المستشار محمد عبد المحسن، باستعداده للاستقالة مع مجلسه في حال تمرير القانون. إلا أن الجمعية العمومية لم تنعقد دون إبداء أسباب واضحة، ولم تُقدّم الاستقالة.
من هنا، فإن عودة الجمعية العمومية للانعقاد باتت ضرورية لتُعبّر بوضوح عن الرفض الجماعي لهذا القانون، تمامًا كما يتعيّن على القضاة داخل محاكمهم التعبير عن موقفهم من تدخل السلطة التنفيذية في اختيار رؤساء الجهات القضائية.
أؤمن بأن قانون اختيار رؤساء الهيئات القضائية إلى زوال، لأنه، برغم تحصينه، يفتقد للشرعية الدستورية
ولا يغيب عن الذاكرة ما حدث عام 2002، حين أُسقط قانون المجلس الأعلى للهيئات القضائية بفعل الحراك الجماعي، ورفض واضح من نادي القضاة والجمعيات العمومية لمحاكم النقض والاستئناف والابتدائية.
اليوم، عاد هذا المجلس بصيغة موسّعة تحت مسمى المجلس الأعلى للهيئات والجهات القضائية، ومنح صلاحيات أوسع تُهدد استقلال القضاء، حيث أصبح رئيس الجمهورية على رأسه، ووزير العدل عضوًا فيه، وتوسعت اختصاصاته لتشمل التعيينات، والملفات الخدمية والاجتماعية.
ومع ذلك، أنا واثق أن هذا الوضع ليس دائمًا. مثلما تم تجاوز محطات مشابهة في الماضي، فإن قوة الموقف الداخلي داخل مؤسسة القضاء، والتفاف القضاة حول مبادئ الاستقلال والشفافية، كفيلان بإعادة تصحيح المسار، إذا ما توافر العزم والإرادة الجماعية.
بين حرية التعبير وهيبة القضاء
ترددت أنباء مؤخرًا بإحالة عدد من القضاة للتفتيش على خلفية حديثهم عن أزمات اقتصادية، ولم تصدر تعليقات رسمية بعد، لكن كيف ترى الأوضاع الاقتصادية للقضاة حاليًا وتداعياتها على استقلال القضاء وصورته؟

بالفعل، أبدى عدد من القضاة تذمرهم عبر مجموعات مغلقة من تدني الرواتب، وتراجع الإمكانات، وتجميد المخصصات المالية لفترات طويلة. غير أن قرار التحقيق معهم جرّاء هذه النقاشات الداخلية يمثل، في جوهره، تقييدًا لحقهم في التعبير، حتى في الأطر المهنية الخاصة، ما يُلقي بظلال سلبية على استقلال القضاء.
وأرى أن من حق القضاة التعبير عن معاناتهم ورفع أصواتهم في مثل هذه القضايا، لأن الأوضاع المعيشية ترتبط ارتباطًا مباشرًا باستقلالهم الوظيفي، ومطالبهم تُعدّ مشروعة، حتى إن طُرحت علنًا، إذ تسهم في تعزيز الاستقلال والحماية المؤسسية للقضاء.
ولنا أن نستحضر النموذج البريطاني، حيث يُمنح القاضي الحق في طلب موارد مالية دون الكشف عن دوافعه، إذ يُرسل له شيك “مفتوح” يحدد قيمته بنفسه، وهو ما يُعد ضمانة حقيقية لحمايته من أزمات قد تؤثر في أدائه واستقلاله. ومن هنا، تقع على عاتق نادي القضاة مسؤولية الدفاع عن هذه المطالب باعتبارها جزءًا من حرية التعبير وكفالة الاستقلال المهني.
تاريخ من التحفظ عن التعبير المباشر
هل يندرج التعبير عن مثل هذه المخاوف ضمن حرية التعبير للقضاة؟ وما هي الضوابط التي تراها ضرورية في هذا السياق كما ينادي البعض؟
تعبير القضاة عن آرائهم مسألة شديدة الدقة. فبالنظر إلى تاريخ القضاء، نجد أن القضاة اعتادوا التحفظ عن التعبير المباشر، ويفضّلون إيصال مواقفهم من خلال جمعياتهم العمومية بالمحاكم، أو عبر نادي القضاة، أو من خلال مذكرات وطلبات تُرفع إلى وزير العدل، دون اللجوء إلى العلن. وهذا لا يعني أن التعبير ليس من حقهم، بل هو حق أصيل، إلا أن تقاليد القضاء تميل إلى “التعفف عن بعض المباح” توقيرًا للسلطة القضائية وهيبتها.
لكن إذا اختار أحد القضاة الحديث علنًا، فهو لا يُمنع من ذلك، إنما يُستحسن التحفظ، خاصة في المسائل الشخصية أو ما يتعلق باستقلال القضاء. أما في القضايا العامة الكبرى التي تمس الوطن بأكمله، فيُنتظر من القضاة أن يعلنوا عن مواقفهم بوضوح.
وعلى سبيل المثال، في 14 فبراير 1951، خلال عهد الملك فاروق، خرجت مظاهرة كبرى للمطالبة بجلاء الاحتلال البريطاني عن معسكرات الإسماعيلية. شارك فيها رئيس الوزراء والوزراء، إلى جانب رئيس محكمة النقض، والنائب العام، ورئيس محكمة استئناف القاهرة، وأقدم نواب رئيس محكمة النقض، إضافة إلى شخصيات عامة وممثلين عن الأحزاب، وساروا من ميدان الإسماعيلية (ميدان التحرير حاليًا) إلى قصر عابدين، وهي واقعة موثقة تاريخيًا بالصور.
تقاليد القضاء تميل إلى “التعفف عن بعض المباح” توقيرًا للسلطة القضائية وهيبتها
مثال آخر يتجسد في بيان صدر عام 2013 عن عدد من القضاة، أكدوا فيه ضرورة الحفاظ على مكتسبات ثورة 25 يناير، والحريات العامة، والنظام الديمقراطي الذي أفرز رئيسًا منتخبًا ومجالس نيابية. حذّر البيان من غياب الحوار السياسي والمجتمعي، متوقعًا أن يؤدي ذلك إلى إما فوضى شاملة أو قبضة أمنية، وهو ما تحقق لاحقًا.
كذلك، عقب نكسة يونيو 1967، أصدر المستشار ممتاز نصار، رئيس نادي القضاة آنذاك، بيانًا بتاريخ 28 مارس 1969، حمّل فيه مسؤولية الهزيمة لإهدار سيادة القانون وغياب الحريات. وقد تبِع ذلك البيان ما عُرف بـ”مذبحة القضاة” في ذلك العام.
وفي عام 1931، طالب المستشار عبد العزيز باشا فهمي، رئيس محكمة النقض، بإنهاء القضاء المختلط خلال الاحتفال بالعيد الخمسين للمحاكم الأهلية، ما تسبب بأزمة سياسية، لكنها انتهت لاحقًا بإلغاء هذا النظام.
الخلاصة أن القضاة، في القضايا الوطنية الكبرى، ينبغي أن يعبّروا عن آرائهم بوضوح، حتى إن اصطدمت مواقفهم مع قوى سياسية. أما في القضايا الخاصة بالمؤسسة القضائية، فالأصل أن يتم التعبير داخل الأطر القضائية الرسمية. وحرية التعبير تظل حقًا مكفولًا للقضاة، تحميه قرارات الأمم المتحدة وتقره دساتير معظم دول العالم.
توحيد القضاء.. فكرة لا تموت
كنت من الداعين إلى طرح توحيد القضاء في دستور 2012.. ما الدوافع الرئيسية لهذا الطرح؟ وهل لا تزال فكرة توحيد القضاء قابلة للتطبيق وضرورية؟
فكرة توحيد القضاء تظل دائمًا فكرة صحيحة؛ فمهما تغيّرت الأوضاع، يبقى أن يكون القضاء في جميع فروعه موحّدًا، لما في ذلك من مزايا كبيرة. فبدلًا من تعدد الجهات القضائية — كالقضاء الدستوري، والإداري، ومجلس الدولة، وقضاء الجنايات، إضافة إلى القضاء الاستثنائي كمحاكم أمن الدولة — ومع امتلاك كل جهة أدواتها ومجالسها الخاصة، قد تصدر أحكام متضاربة في وقائع واحدة، كما حدث في مناسبات عديدة، ما يؤدي إلى أزمة تضارب الأحكام.
أما في حالة توحيد القضاء، فإن وحدة الدوائر القضائية تضمن صدور أحكام متسقة. ومع تعدد المجالس الخاصة بالهيئات والجهات القضائية، يمكن أن تصدر آراء متباينة حول قضية واحدة تمس القضاء عمومًا، ويُستغل هذا التباين لترجيح كفة رأي سياسي أو دعم موقف للسلطة الحاكمة. في المقابل، إذا كان القضاء موحدًا، فإن الرأي يكون موحدًا أيضًا.
كذلك، يتسبب تعدد المجالس في تفاوت قرارات النقل والترقية والإعارة، مما يُخل بمبدأ العدالة بين القضاة في الدفعة الواحدة، ويخلق فجوات في الدرجات الوظيفية. أما في ظل القضاء الموحّد، فتصبح المعايير موحدة وعادلة.
ومن الأمثلة أيضًا ما يحدث مع تعدد أندية القضاة؛ إذ تختلف المواقف من قضايا مهمة مثل الإشراف على الانتخابات. فبعض الأندية طالبت بالإشراف الكامل، بينما عارضته أخرى. ولو كان القضاء موحّدًا، لكان القرار موحّدًا.
فكرة توحيد القضاء تظل دائمًا فكرة صحيحة؛ فمهما تغيّرت الأوضاع، يبقى أن يكون القضاء في جميع فروعه موحّدًا
ومن الجدير بالذكر أن الأصل في مصر كان القضاء الموحد، منذ نشأته، قبل تأسيس مجلس الدولة في أواخر الأربعينيات، ثم إنشاء المحكمة العليا في عهد جمال عبد الناصر بعد أزمة القضاء الشهيرة.
لكن ثمة تحديات تواجه هذا التوحيد، أبرزها المصالح الشخصية. فلكل جهة قضائية امتيازاتها؛ فمجلس الدولة يمتلك مجلسه وقواعده، وهناك من يرفض الدمج خوفًا على مكاسبه أو تخوفًا من دخول قضاة أكثر أقدمية، وكذلك الحال بالنسبة للمحكمة الدستورية العليا، التي تحتفظ بميزانية مستقلة وقلة مختارة من القضاة.
غير أن هذه المصالح لا تقارن بأهمية فكرة التوحيد، التي تتطلب إرادة سياسية حقيقية تؤمن باستقلال القضاء ووحدته. فإذا توفرت هذه الإرادة، يمكن تجاوز جميع العقبات، خصوصًا أن تجارب سابقة أثبتت إمكانية تمرير قرارات خاطئة رغم الاعتراض، فكيف إذا كانت الفكرة صائبة وجذرية ومتسقة مع الفطرة القضائية؟
كل العقبات قابلة للتجاوز، شريطة وجود إرادة سياسية واضحة، أو أن يتبنى الفكرة من يؤمنون بها، ويعملوا على توضيح مزاياها وجدواها حتى تتبناها الدولة وتنفذها.
المشهد القضائي العام
كيف تُقيّم المشهد العام في مصر حاليًا، خصوصًا فيما يتعلق بمنظومة العدالة وسيادة القانون؟ وما أبرز التحديات والفرص التي تراها؟
دعني أجيب بسؤال مضاد: هل يحظى القضاء في حالته الراهنة بنفس مستوى الثقة العامة لدى المواطنين كما كان في السابق، أم أن هذه الثقة تراجعت؟
وهل يشعر المواطن المصري، حين يلجأ إلى القضاء اليوم، بالطمأنينة إلى أنه سيحصل على حقه بعدالة وسرعة، وأن الأحكام ستُنفذ بفعالية، أم أن المواطن بات يتردد مرارًا قبل رفع دعوى، خوفًا من ألّا يُنصف، أو من أن تُصدر المحكمة حكمًا لصالحه دون أن يتمكن من تنفيذه؟
وهل الواقع الحالي للقضاء، من حيث الإدارة ونمط الأحكام، يُعزز ثقة الناس بأنه يجسد العدالة الحقيقية؟
لا نزال نسمع حتى اليوم عن ما يُعرف بـ”تدوير القضايا”، حيث يُعاد حبس بعض الأفراد في قضايا جديدة مشابهة لتلك التي سبق أن حُبسوا على ذمتها، وذلك عند اقتراب موعد إطلاق سراحهم. وهناك من يقبع في الحبس الاحتياطي لسنوات، ولو أُجريت لهم محاكمة عادلة، لربما حُكم لهم بالبراءة أو بعقوبات أقل مما قضوه بالفعل.
لا نزال نسمع حتى اليوم عن ما يُعرف بـ”تدوير القضايا”، حيث يُعاد حبس بعض الأفراد في قضايا جديدة مشابهة لتلك التي سبق أن حُبسوا على ذمتها. فهل يحظى القضاء في حالته الراهنة بنفس مستوى الثقة العامة لدى المواطنين كما كان سابقًا؟
كما يوجد أشخاص فقدوا الأمل في الخروج، لا يعرفون التهم الموجهة إليهم بدقة، ولا يُعرضون على القضاء ليقول كلمته. وهذه أمور يلاحظها عموم الناس، وتشكّل جزءًا من الصورة العامة لمنظومة العدالة اليوم.
وحين يُحال بعض القضاة إلى التفتيش أو التحقيق بسبب تعبيرهم عن آرائهم، فإن ذلك يخلق حاجزًا نفسيًا كبيرًا بينهم وبين إصدار أحكام تُعبّر عن ضمائرهم.
ولهذا تجد بعض القضاة يُفضّلون العمل في محاكم الأحوال الشخصية، أو الانتقال إلى الدوائر المدنية، لتجنّب القضايا ذات الطابع السياسي أو تلك التي تُثير حرجًا مهنيًا وأخلاقيًا.
الحوار الوطني.. غياب قضايا العدالة
نذهب إلى الشأن العام. كيف تُقيّم مخرجات الحوار الوطني حتى الآن؟ وما هي الملفات القضائية التي كنت تأمل أن تُحقق تقدمًا ملموسًا من خلاله؟
قبل انطلاق الحوار الوطني، كان من الضروري أن يشمل جميع التيارات والاتجاهات، لأنه لا حوار حقيقي دون الانفتاح على كافة الآراء، وليس باختيار أشخاص محددين لا تعنيهم قضايا أساسية.

وعلى سبيل المثال، فيما يتعلق بملف القضاء، لم أرَ أسماءً لها تاريخ نضالي في الدفاع عن استقلال القضاء وضماناته. فإذا كانت هناك نية صادقة لتناول هذا الملف، فهناك شخصيات بارزة يمكن الاستعانة بها، مثل المستشار زكريا عبد العزيز، رئيس نادي القضاة الأسبق وأحد رموز تيار استقلال القضاء، والمستشار هشام جنينة، أحد أبرز الوجوه القضائية المستقلة، وغيرهما من القضاة الذين يُمثلون توجهًا إصلاحيًا حقيقيًا داخل المؤسسة القضائية.
عندما يغيب هذا الصوت، فهل يُتوقع أن يُطرح ملف القضاء بجرأة؟ شخصيًا، لم أسمع خلال جلسات الحوار عن أي نقاش جاد يتعلق بمنظومة العدالة، ولم أرَ مشاركة لقامات قضائية مؤثرة، وحتى إن وُجد حضور، فلم تخرج عنهم توصيات تُذكر أو خطوات ملموسة تعالج أوضاع القضاء.
وأتذكر أنه في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، انعقد “مؤتمر العدالة” الذي نظّمه نادي القضاة بقيادة المستشار يحيى الرفاعي، وكانت جلساته علنية، وتعهد الرئيس حينها بتنفيذ التوصيات. وقد ظلت هذه التوصيات، حتى وقت قريب، تمثل المرجعية التي يسير عليها كثير من القضاة. لكن خلال السنوات الأخيرة، شهدنا تراجعًا عن معظم تلك المكتسبات.
والحقيقة أنني لا أعلم، حتى الآن، ما الذي أسفر عنه الحوار الوطني من مخرجات حقيقية. نسمع أنه سيصدر توصيات قابلة للتنفيذ، لكننا لم نرَ شيئًا ملموسًا يتعلق بعدالة القضايا أو باستقلال القضاء، رغم أن هذه الملفات تستحق أن تكون في صدارة النقاشات.
حتى الملف المحوري الأبرز، وهو الحبس الاحتياطي، ما زال يُمارَس لفترات طويلة تتجاوز العامين في العديد من القضايا، رغم أنه كان يفترض أن يُطرح كأحد أبرز أولويات هذا الحوار.
لا أعلم، حتى الآن، ما الذي أسفر عنه الحوار الوطني من مخرجات حقيقية
والواقع أن الحوار الوطني، رغم أنه فكرة إيجابية في جوهرها، لا يجوز أن يُعقد في غرف مغلقة معقّمة لا تتيح تنوع الآراء، أو تمنع الأصوات المخالفة لتوجهات القائمين عليه. وبتشكيلته الحالية، لا يُمثل الحوار الوطني كل التيارات داخل الوسط القضائي أو خارجه.
وإذا استمرّ هذا الإغلاق في ملف القضاء ضمن جلسات الحوار، فلن تخرج بنتائج حقيقية أو توصيات مُرضية للمواطنين. ويمكن القول إن ما يحدث في هذا الملف تحديدًا، يعكس الحال في باقي محاور الحوار الوطني: نتائج محدودة، وتوصيات غير ملموسة.
انتكاسة لحقوق الدفاع
خضع قانون الإجراءات الجنائية للتعديل مؤخرًا. كيف ترى هذه التعديلات وتأثيرها المحتمل على سير العدالة وحقوق المتهمين؟ وهل لديكم تحفظات أو ملاحظات بشأنها؟
التعديلات الأخيرة مست جوهر قانون الإجراءات الجنائية، وبدأت بإهدار حق أصيل للمتهم، وهو الحق الدستوري في وجود محامٍ يتولى الدفاع عنه. فإذا غاب المحامي، تبطل المحاكمة، لأن كفالة حق الدفاع شرط أساسي لصحة المحاكمة. أما إذا أُهدر هذا الحق، فإن مسار المحاكمة يصبح معيبًا.
من بين التعديلات المثيرة للقلق، تقليص ضمانة مثول الشاهد أمام المحكمة. فالمحكمة بات يمكنها الاكتفاء بأقوال الشاهد في التحقيقات، في حين أن محكمة النقض شددت مرارًا على أهمية مثول الشاهد شخصيًا أمام القاضي، حتى يتمكن من تقييم سلوكه ومنطقه ومدى تطابق شهادته مع روايات أخرى. الحضور المباشر للشاهد يُعد من ركائز المحاكمة العادلة، وهو ما تم تجاهله في التعديلات.
كما شملت التعديلات مساسًا خطيرًا بحق المتهم في المثول المادي أمام قاضيه، حيث أصبح يُكتفى بمشاركته عبر تقنية الفيديو. هذا الإجراء يضعف سلطة القاضي، ويخلق فجوة معرفية تمنع القاضي من الإحاطة التامة بظروف المتهم، بما فيها احتمال تعرضه لضغوط غير مرئية على الشاشة، أو منعه من الإدلاء بدفاعه بحرية.

والأخطر أن المتهم يُصبح فعليًا تحت السيطرة الكاملة للجهة التي تحتجزه، وليس تحت سلطة القضاء، سواء في القضايا الجنائية أو السياسية. وهذا انتقاص واضح من ضمانات المحاكمة المنصفة، بل ويُعد مخالفة دستورية.
أما التعديل المتعلق بهوية الشاهد، والذي يجيز إخفاء هويته أو استخدام رمز بدلاً من اسمه، فهو أيضًا مقلق للغاية. فشهادة مجهولة لا تُمكّن المتهم من ممارسة حقه في الطعن على مصداقية الشاهد، خاصة إذا وُجدت خصومات سابقة بينهما. لا يمكن القبول بالحكم على شخص، وربما إعدامه، استنادًا إلى شهادة طرف لا تُعرف هويته.
كل هذه التعديلات تُخلّ بالمبادئ المستقرة في القانون الجنائي، وتُضعف مركز المتهم مقابل سلطات التحقيق والاتهام. كما أن الاتجاه نحو إنشاء محاكم داخل السجون يُعد خرقًا جديدًا لعلانية الجلسات، ويقيد من سيطرة القاضي على سيرها.
الخلاصة أن هذه التعديلات تعكس فلسفة قانونية تنحاز إلى الأجهزة الاتهامية على حساب مبدأ العدالة. فهي تُكرّس لانتهاك حقوق الدفاع، وتُضعف مبدأ المساواة بين طرفي الدعوى، في حين أن محكمة النقض أقرّت بأن حق الدفاع مقدم على أي حق آخر، لأن الدولة بكل مؤسساتها تقف في مواجهة المتهم، ويجب تمكينه من الوسائل التي تكفل توازن هذه المعادلة.
تعديلات قانون الإجراءات الجنائية تعكس فلسفة قانونية تنحاز إلى الأجهزة الاتهامية على حساب مبدأ العدالة
زيادة الرسوم القضائية.. إقصاء الفقراء عن العدالة
شهدنا مؤخرًا تحركات واعتراضات من نقابة المحامين والقضاء الجالس بشأن بعض القرارات وزيادة الرسوم القضائية.. كيف ترى هذه الأوضاع وتأثيرها على أداء المنظومة القضائية وحق التقاضي للمواطنين؟ وما هو دورك أو رؤيتك لحل هذه الإشكاليات؟
من الناحية الدستورية، يُعد اللجوء إلى القضاء وتيسيره، بالإضافة إلى ضمان حق التقاضي أمام القاضي الطبيعي وتقريب جهات التقاضي، من الحقوق الأساسية التي كفلتها الدساتير المتعاقبة، وليس الدستور الحالي فقط. فإذا أراد المواطن اللجوء إلى القضاء، فإن على الدولة أن توفر له ذلك بسهولة ويسر، دون تحميله تكاليف باهظة، لأن هذا من ضمانات استقرار الدول.

إذا تم رفع الرسوم القضائية بشكل يجعل من الصعب على المواطن الوصول إلى القضاء أو يثقل كاهله ماليًا، فإن ذلك يُعد مخالفًا لنصوص الدستور. وعندما تقوم الدولة بذلك، فإنها ترتكب كارثة أكبر، حيث يصبح حق اللجوء إلى القضاء مقتصرًا على من يملكون المال فقط، مما يُحول القضاء إلى وسيلة متاحة للأغنياء وحدهم، بينما يعجز الفقراء عن ممارسة هذا الحق، وهو ما يشكل إخلالًا كبيرًا بأحد الضمانات الأساسية في المجتمع.
وفقًا للدستور، لا يجوز فرض رسوم إلا بقانون، وإذا صدر قرار بفرض رسوم من أي جهة، فإن ذلك يُعد قرارًا باطلاً. وهناك العديد من الأحكام القضائية من مجلس الدولة والقضاء العادي والمحكمة الدستورية العليا التي أكدت بطلان أي فرض مالي غير مستند إلى قانون، وبالتالي فإن الرسوم التي تفرضها الجهات المختصة دون قانون تُعد باطلة دستوريًا وغير قانونية.
ومن المهم الإشارة إلى أن مصدر قرار زيادة الرسوم هو “مجلس رؤساء محاكم الاستئناف”، وهو مجلس سبق أن تم القضاء ببطلانه وانعدامه بموجب حكم نهائي صادر من دائرة طلبات رجال القضاء بمحكمة النقض، في دعوى رفعها تيار استقلال القضاء خلال فترة تولينا إدارة نادي القضاة، وقادها المستشار زكريا عبد العزيز. وقد نص الحكم على أن هذا المجلس ليس له أي أساس قانوني، وبالتالي فإن قراراته، سواء كانت تتعلق بزيادة الرسوم القضائية أو غيرها، تُعد منعدمة قانونيًا.
زيادة رسوم التقاضي بهذا الشكل ستدفع المواطنين للبحث عن حلول بديلة، مثل اللجوء إلى المجالس العرفية أو الحلول الودية بعيدًا عن المحاكم الرسمية، بسبب التكاليف المرتفعة وطول أمد التقاضي، بالإضافة إلى صعوبة تنفيذ الأحكام حتى بعد صدورها. هذا الاتجاه سيزيد من تفشي الظواهر غير القانونية، ويشكل تهديدًا خطيرًا لمنظومة العدالة.
مسؤولية الخروج من هذه الأزمة تقع على عاتق الدولة، إذ أن سلطة العدل يجب أن تكون ضمن مسؤوليات الدولة وليست عبئًا على المواطنين. من حق الدولة أن تضمن استقلال السلطة القضائية وقوتها وقدرتها على حماية الحقوق، وردها إلى أصحابها، كما يجب عليها أن تتخذ الإجراءات اللازمة للأخذ على يد الظالمين والمغتصبين. وهذا يشكل ضمانة استقرار الحكم.
وعندما يتعلق الأمر بضمان العدل واستقرار الدولة، يجب على الدولة أن تتحمل هذه الرسوم من ميزانيتها، فهو أمر أولى بكثير من أي نفقات أخرى، وبالتالي تضمن أمن المجتمع وتؤكد التزامها بتوفير العدالة لجميع المواطنين.
زيادة رسوم التقاضي بهذا الشكل ستدفع المواطنين للبحث عن حلول بديلة، مثل اللجوء إلى المجالس العرفية أو الحلول الودية بعيدًا عن المحاكم الرسمية
حقوق الإنسان في مصر
كيف تقيم أوضاع حقوق الإنسان في مصر في ظل الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان؟ وما هي المجالات التي ترى أنها بحاجة إلى مزيد من الاهتمام والجهد؟
في هذا السياق، أشير إلى الملاحظات التي قدمها مجلس حقوق الإنسان وكتاب الأمم المتحدة في المراجعة الأخيرة لحقوق الإنسان في مصر، والتي تم توجيهها من الدول المشاركة في مجلس حقوق الإنسان بشأن الملف المصري.
وقد وصل عدد هذه الملاحظات إلى أكثر من 800 ملاحظة تتعلق بحقوق الإنسان في مصر، وأبرزها ما يتعلق بطرق المحاكمة، وقضايا التدوير، والحبس الاحتياطي، وتقييد حرية الرأي، وتقييد الحياة السياسية والحزبية، وتقييد الصحافة والإعلام والرقابة والسيطرة عليهم.

ورغم أن الوفد المصري الذي شارك في هذه المراجعة كان وفدًا كبيرًا، ورغم الإفراج عن عدد من المحبوسين، إلا أن العدد الكبير للملاحظات يبقى رقمًا ضخمًا. لا يمكننا أن نغفل أن ملف حقوق الإنسان في مصر ما يزال نقطة ضغط على الدولة، والتصدي لهذا الضغط يتطلب العمل على إصلاح هذا الملف بشكل جذري.
يجب أن نسعى لأن يكون لدينا 8 ملاحظات فقط، وليس 800 ملاحظة. وعندما نصل إلى ذلك، ستجد مصر دعمًا داخليًا قبل أن يأتي الدعم الخارجي. من هنا، يجب أن نولي أهمية كبيرة للعمل على معالجة هذه الملاحظات.
وأبرز الملاحظات التي يجب البدء بها تتعلق بالحريات. فلا يمكن لمجتمع حي قابل للتقدم أن يزدهر إذا لم يكن فيه قضاء حر ومستقل. كما لا يمكن أن يكون هناك تقدم في ظل غياب حرية إعلامية حقيقية، وعدم السماح بممارسة السياسة عبر الأحزاب، وتقييد حرية الرأي. من غير المقبول أيضًا أن توجد قوانين تسمح بالحبس الاحتياطي لمدد طويلة أو بمصادرة الأموال بقرار إداري. في هذا السياق، يجب أن يكون القضاء المستقل هو الأولوية، لأنه هو القادر على إصلاح بقية الملفات الأخرى.
يجب أن نسعى لأن يكون لدينا 8 ملاحظات فقط تتعلق بحقوق الإنسان، وليس 800 ملاحظة
الحبس الاحتياطي
تظل أزمة الحبس الاحتياطي من الملفات الشائكة. ما هي رؤيتك القانونية والقضائية لهذه الأزمة؟ وما هي الضمانات التي تراها ضرورية للحد من اللجوء إليه وتفعيل بدائله؟
الدولة المصرية ليست في حالة حرب، والمجتمعات التي لا تعيش في حالات استثنائية أو حرب لا يجوز أن تطبق عليها الأحكام الاستثنائية التي لا تكون ضرورية إلا في زمن الحرب.
نحن في مجتمع يُقال يوميًا إنه مجتمع آمن ومستقر، وقد ابتعد عنه شبح الإرهاب والانقسام. ومن ثم، طالما أن الوضع طبيعي وعادي، يجب أن تحكمنا القوانين الطبيعية. الحبس الاحتياطي في جوهره إجراء استثنائي طارئ لا يجوز اللجوء إليه إلا بشروط دقيقة.
إذا كان المتهم مكان إقامته معروفًا ولا يُخشى عليه من الهروب، وكان لديه ضمانات كافية مثل دفع كفالة مالية أو وجود ضامن شخصي له، فلا يجوز حبسه احتياطيًا.
ويجب أن يكون الحبس الاحتياطي لمدة محدودة.
في لجنة إعداد دستور 2012، اقترحت أن ينص الدستور صراحة على ألا تتجاوز مدة الحبس الاحتياطي 60 يومًا. وكان في ذلك الوقت الحبس الاحتياطي يُمدد حتى 6 أشهر، ورغم ذلك كنت أعتبر هذا طويلًا وأردت وضع قاعدة دستورية غير قابلة للتجاوز. لكن بعض الأعضاء رأوا أن المسألة تخص قانون الإجراءات الجنائية باعتباره قانونًا مكملًا للدستور، وليست مادة دستورية مباشرة. ولذلك تم تأجيل الأمر إلى مجلس الشعب ليعدّل القانون لاحقًا، لكن لم يسعفنا الوقت بعد صدور حكم بحل المجلس.
كما كان لدي مقترح آخر وقتها بأن ينص الدستور على أن الشخص الذي يُحكم ببراءته بعد حبسه احتياطيًا يجب أن يحصل على تعويض من الدولة عن مدة حبسه. وتم تضمين هذا النص لاحقًا في دستور 2014.
الحبس الاحتياطي يُعد أداة تحفظية لضمان عدم التأثير على سير العدالة، ولا يجوز أن تطول مدته أو أن تساوي مدة العقوبة. بل إن هناك جرائم يتجاوز فيها المتهمون الحبس الاحتياطي لفترات أطول من المدة التي كانوا سيعاقبون بها لو أُدينوا. ولا يُعقل أن تكون مدة الحبس الاحتياطي أطول من مدة العقوبة في الجريمة التي حُبس بسببها الشخص.
الدولة المصرية ليست في حالة حرب، والمجتمعات التي لا تعيش في حالات استثنائية أو حرب لا يجوز أن تطبق عليها الأحكام الاستثنائية
هل هناك بديل لتصحيح هذا الأمر؟
هناك طريقان؛ إما أن تدرك السلطة من تلقاء نفسها أن استمرار هذا الوضع هو خطأ جسيم يُضر بالمجتمع ولا يخدم التقدم أو العدالة، أو أن يبدأ المواطنون والمؤسسات الحقوقية والقضاة أنفسهم في الحديث العلني عنه، وتشكيل رأي عام ضاغط يطالب بتغييره.
القضاء المصري، عبر تاريخه، كان دائمًا يصدر مواقف واضحة ضد القوانين الجائرة. على سبيل المثال، عند وجود المدعي العام الاشتراكي، خرج نادي القضاة وأعلن أن هذا القانون ظالم ويؤدي إلى محاكمات سياسية، ونجح في إلغائه. وكذلك فعلوا مع بعض قوانين الانتخابات.
وبناءً عليه، يجب أن يُرفض علنًا من قبل القضاة أي قانون يمس الحريات والحقوق.
وهذا ما يجب أن يحدث حاليًا بالنسبة لقانون الحبس الاحتياطي. ينبغي أن تتشكل حركة قضائية وشعبية للضغط من أجل تغييره، والمناسب والأقوم هو أن لا تتجاوز مدة الحبس الاحتياطي 60 يومًا في جميع الأحوال. وهذه مدة كافية جدًا لإنهاء التحقيقات وجمع الأدلة، وبعدها يجب الإفراج عن المتهم فورًا.
نزاهة الانتخابات
مع اقتراب الانتخابات البرلمانية، ما هي الضمانات التي تراها ضرورية لضمان نزاهة وشفافية هذه الانتخابات وتمثيل الإرادة الحقيقية للناخبين؟ وما هو دور القضاء في هذا الإطار؟
أول ضمانة وأهمها، كما ثبت بالتجربة العملية، هي أن الشعب المصري لا يثق في الانتخابات إلا إذا كانت تحت إشراف قضائي كامل من بدايتها إلى نهايتها. فإذا لم تكن الانتخابات تحت إشراف قضائي حقيقي وبضمانات كاملة، فلن يثق أحد في نتائجها.
على سبيل المثال، انتخابات مجلسي الشعب والشورى عام 2010 لم تحظَ بثقة المواطنين، كما لم تحظَ بالثقة جميع الانتخابات والاستفتاءات منذ عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وحتى عصر الرئيس حسني مبارك، التي كان يفوز فيها المرشحون بنسبة 99%. أما الانتخابات التي شهدت إشرافًا قضائيًا كاملًا، مثل استفتاء مارس 2011 أو انتخابات البرلمان والرئاسة بعد الثورة، فهي التي حازت ثقة الناس.

المسألة لا تقتصر على يوم الانتخابات فقط، بل تشمل مراحل سابقة مهمة جدًا، وهي أن تكون هناك حرية حقيقية لتكوين الأحزاب، وأن تكون هناك حرية دعائية متساوية بين جميع القوى السياسية، وأن تتمتع جميع التيارات السياسية بحق التعبير دون تغول السلطة عليها. كما يجب أن تضمن القوى السياسية حياد الإعلام وعدم انحيازه لجهة على حساب أخرى.
خلال الفترة الليبرالية بين عامي 1919 و1952، كان تكوين الحزب السياسي يتم فقط بالإخطار دون الحاجة إلى إذن أو تصريح، وكانت هذه الحقبة مليئة بالحياة السياسية النشطة. وفي دستور 2012، كان تكوين الأحزاب السياسية يتم بالإخطار أيضًا.
بالتالي، لكي نضمن انتخابات حقيقية نزيهة، يجب أن يُفتح المجال السياسي بالكامل أمام جميع القوى والتيارات. كذلك، يجب أن يكون الإعلام حرًا، قادرًا على إيصال أصوات الجميع دون رقابة أو توجيه. ومن الضروري أيضًا وجود رقابة شعبية حقيقية عبر وكلاء المرشحين ومندوبي الأحزاب داخل اللجان.
ولا بأس من وجود رقابة دولية على الانتخابات كضمانة إضافية. كما أن مصر نفسها شاركت عدة مرات بمراقبين في انتخابات دول أخرى. والقول بأن الرقابة الدولية تدخل في السيادة الوطنية هو قول غير صحيح؛ فهي فقط ضمانة إضافية تعزز مصداقية العملية الانتخابية أمام المجتمع الدولي وأمام الشعب.
الشعب المصري لا يثق في الانتخابات إلا إذا كانت تحت إشراف قضائي كامل من بدايتها إلى نهايتها
استعادة المسار الديمقراطي
في هذا الإطار، ما سُبل استعادة المسار الديمقراطي من وجهة نظرك؟
الطريق الديمقراطي واضح ولا يخفى على السلطة أو القائمين على حكم مصر، ولكن هناك من يبالغون في تصوير مخاطر الديمقراطية ويزينون للحاكم أن السير في عكس اتجاه الحريات التي هي الطريق الآمن للحكم.
على سبيل المثال، في أحداث تمرد قوات الأمن المركزي في عهد الرئيس مبارك عام 1986، خرج الرئيس مبارك في خطاب تليفزيوني وأمر بإحالة المتمردين إلى المحاكمات العسكرية، وسحب القضايا من النيابة العامة التي كانت قد بدأت تحقيقاتها.
وفي اليوم التالي، التقى المستشار يحيى الرفاعي مع الرئيس مبارك بصفته رئيس نادي القضاة، للتحضير لمؤتمر العدالة. في هذا اللقاء، قال له المستشار يحيى الرفاعي نصًا: “يا ريس، إنت عايز تخلي بينك وبين المواطنين دم ليه؟” فتعجب مبارك، وقال له: “دم ليه؟” فرد عليه الرفاعي قائلًا: “عندما تحيل يا سيادة الرئيس العساكر الغلابة في الأمن المركزي إلى المحاكم العسكرية، فالمحاكم العسكرية ستحكم بإعدام 200 أو 300 فرد منهم رميا بالرصاص، مما سيخلق بينك وبين المواطنين دمًا لا يمحى، بينما النيابة العامة قد تبرئهم أو تحكم بما يناسب وقائعهم”. وأضاف المستشار الرفاعي: “هل أنت زعلان من القضاء؟ نحن لا نحكم بالأهواء، بل بما يُعرض أمامنا من أوراق وأدلة”.
فأدرك مبارك خطورة الموقف، واقتنع بوجهة النظر القضائية، وطلب من المستشار يحيى الرفاعي أن يخرج من القصر الرئاسي ليعلن للصحفيين أن الرئيس عدل عن قرار إحالة القضايا للمحاكم العسكرية، وأعادها للنيابة العامة. وبالفعل، خرج المستشار الرفاعي وأدلى بالتصريح، وأرسله لوزارة الإعلام لإذاعته على التليفزيون المصري. وعندما رفض وزير الإعلام صفوت الشريف إذاعته دون الرجوع للرئيس، أكد مبارك بنفسه صحة التصريح، فأُذيع.
وهذه الواقعة تؤكد أن وجود مخلصين يقدمون النصيحة بإخلاص قد يجدون أذنًا صاغية، حتى من رأس السلطة. لكن، للأسف، هناك من يزينون للحاكم أن الاستمرار في غلق المجال العام هو الوسيلة المثلى للبقاء في الحكم، وهذه النظرة الأمنية الضيقة خطيرة جدًا.
لأن الحكم لا يستقيم بالنظرة الأمنية وحدها، بل يحتاج إلى سياسة عقلانية رشيدة. حتى في إسرائيل، رغم كونها دولة احتلال، فإن الشاباك ورئيس الأركان يؤكدون أن المستوى السياسي هو من يتخذ القرار النهائي، لا أن يُحكم بالاعتبارات الأمنية وحدها.
لذلك، النظرة الأمنية يجب أن تكون محل اعتبار، ولكن لا يجوز أن تكون المتحكمة الوحيدة. والمسار الديمقراطي الحالي يواجه أزمة عميقة، ولو سألت أي شخص في مصر الآن عن قدرته على ممارسة النشاط السياسي أو تأسيس حزب أو خوض الانتخابات، فستجده مترددًا أو ممتنعًا خوفًا من العواقب. ولنا مثال حي، حيث كان هناك مرشح رئاسي انتهى به الأمر إلى السجن في قضية يعلم الله تفاصيلها.
الطريق الديمقراطي واضح ولا يخفى على السلطة أو القائمين على حكم مصر، ولكن هناك من يبالغون في تصوير مخاطر الديمقراطية ويزينون للحاكم أن السير في عكس اتجاه الحريات التي هي الطريق الآمن للحكم
هل يمكن وضع “روشتة علاجية” لتصحيح المسار الديمقراطي في مصر؟ ومن أين نبدأ؟
عندما خلف الرئيس الراحل أنور السادات الرئيس جمال عبد الناصر، وجد أمامه حياة سياسية مغلقة، وجيشًا منهكًا، وحالة اقتصادية خانقة. فأول قرار اتخذته القيادة في تلك الفترة كان إعادة الاعتبار للسلطة القضائية. أصدر السادات قرارين بقانون بعودة جميع القضاة الذين تم عزلهم في “مذبحة القضاء” عام 1969، ما أعاد الثقة للمواطنين في القضاء الذي عاد إليه رجاله الشرفاء أصحاب الرأي والموقف.
كما قدم هذا القرار إشارة إيجابية للمجتمع الدولي أن مصر تسير في طريق استعادة حكم القانون والحريات. وبالتالي، أول وأهم خطوة للإصلاح الديمقراطي الحقيقي تكمن في استعادة الاستقلال الكامل للقضاء. فالقضاء هو صمام الأمان لكل حقوق الإنسان والحريات. كما قال الشيخ الغزالي: “أعطني قانونًا ظالمًا وقاضيًا عادلًا، فأنا مطمئن.”
إن وجود قضاء عادل ومستقل بشكل كامل يُعدّ المفتاح لاستعادة جميع الحقوق والحريات الأخرى. ويجب أن يتم الإصلاح بشكل متدرج ورزين، بحيث يعود المجتمع إلى حالته الطبيعية من الحرية وحماية الحقوق دون مخاوف.
قضية غزة.. جرائم حرب وصمت دولي
أخيرًا، كيف ترى موقف القانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان والقضاء الدولي في قضية غزة الراهنة؟ وما هي الآليات القانونية التي يمكن تفعيلها لمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات وضمان حقوق الضحايا؟
ما يحدث في غزة، كما تُجمع عليه جميع منظمات العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، وقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتقارير وكالة غوث اللاجئين (الأونروا)، وتقارير منظمات حقوق الإنسان، وحتى آراء الحكام والشعوب الحرة، هو جرائم حرب وإبادة وتهجير قسري في أبشع صورها.
تندرج هذه الجرائم تحت القانون الجنائي الدولي، وهي ليست محل خلاف، ولا ينكرها سوى الولايات المتحدة وإسرائيل اللتين تحاولان التخفيف من الوصف القانوني للجرائم، بالقول إنها لا ترتقي إلى مستوى جرائم الحرب.
لكن الحقيقة أن منطقة الشرق الأوسط لم تشهد إلا حكامًا يعسفون مع شعوبهم ويذيقونهم الآلام، كما أن الأعداء مثل الصهاينة تحت مظلة الولايات المتحدة يذيقونهم الويلات أيضًا.
في الحالتين، المواطنون العرب والفلسطينيون في غزة هم الضحايا، في مواجهة حكام مستبدين أو قوى احتلال غاشمة.
منطقة الشرق الأوسط لم تشهد إلا حكامًا يعسفون مع شعوبهم ويذيقونهم الآلام، كما أن الأعداء مثل الصهاينة تحت مظلة الولايات المتحدة يذيقونهم الويلات أيضًا
الوضع القائم في الشرق الأوسط جعل المنطقة خارجة عن السياق الطبيعي لبقية دول العالم المستقرة، حيث تُرتكب أبشع الجرائم، ويُصوَّر الضحية في صورة الجلاد، ويُتهم المقاوم بأنه المعتدي. بل هناك من بني جلدتنا من الفلسطينيين أو العرب من يتهمون أهل غزة باتهامات لا يجرؤ عليها أعداؤهم.

ورغم كل هذا، هناك وسائل قانونية دولية يمكن اللجوء إليها، وقد بدأت المحكمة الجنائية الدولية بالفعل في تحركات جدية من خلال الدعوى التي أقامتها دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، وانضمت إليها عدة دول أخرى. ومن نتائج هذه الجهود، صدرت مذكرات اعتقال بحق رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت.
ورغم أن هذه الإجراءات تستغرق وقتًا طويلًا وجهدًا ضخمًا، إلا أنه سيأتي يوم يُحاسب فيه هؤلاء، كما حوكم قادة صرب البوسنة مثل راتكو ملاديتش الذي أُدين بارتكاب جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية وسُجن.
أما بالنسبة لموقف مصر من القضية، فهي في وضع دقيق للغاية، حيث تقدم نفسها كوسيط ولا ترغب في أن تُخرج القضية الفلسطينية من مظلتها. فمعركة غزة تمس الأمن القومي المصري مباشرة، سواء فيما يتعلق بمحاولات التهجير أو بفتح جبهات صراع على حدودها، ولذلك تتعامل مصر بحذر بالغ وتوازن دقيق.
وعندما صرحت مصر بانضمامها لدعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، اعترضت إسرائيل، وقالت إن مصر أصبحت خصمًا ولا يمكنها التوسط.