في منعطف حرج يترقبه الشرق الأوسط والعالم، تطفو على السطح مجددًا أنباء عن محادثات أمريكية إيرانية بشأن البرنامج النووي المثير للجدل. وبين تصريحات متضاربة ونوايا غامضة بين الطرفين، يبرز تساؤل محوري: هل تقف المنطقة على أعتاب تسوية دبلوماسية تنهي سنوات من التوتر والتحرش الأمريكي، أم أن هذه المفاوضات ليست سوى ستار دخان يخفي استعدادات لعمل عسكري وشيك قد يغير وجه المنطقة لعقود قادمة؟
الإشارات القادمة من واشنطن وطهران وتل أبيب، وتحليلات الخبراء، ربما تكون قادرة على تفاصيل هذه الصورة المعقدة.
بداية غامضة لمفاوضات محتملة
أشعل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فتيل التكهنات بإعلانه عن بدء محادثات مباشرة مع إيران، وتحديد موعد لجولة مقبلة بعد غدٍ السبت، محذرًا في الوقت ذاته من دخول الجانبين "منطقة خطيرة".
وقد جاء هذا الإعلان المفاجئ خلال اجتماع عُقد الإثنين الماضي بالمكتب البيضاوي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، دون أن تتضح طبيعة هذه المحادثات أو تفاصيلها، خاصة وأن الولايات المتحدة لم تعلن سابقًا عن أي مفاوضات رسمية، فيما ظلت القيادة الإيرانية ترفض فكرة المحادثات المباشرة.
في المقابل، قدمت طهران رواية مختلفة. أكدت المتحدثة باسم الحكومة الإيرانية، فاطمة مهاجراني، إيمان بلادها بالتفاوض، مشيرةً إلى إرسال اقتراح "سخي وحكيم" لإجراء محادثات غير مباشرة مع الولايات المتحدة عبر وسيط محتمل كسلطنة عمان.
وشددت مهاجراني، في مؤتمر صحفي، على أن الحوار يجب أن يتم "باحترام"، وأن "المصالح الوطنية هي معيارنا في المفاوضات"، مضيفةً أن الهدف هو "تحسين ظروف الشعب" عبر "تفاوض حكيم".
يعكس هذا التباين بين إعلان ترامب عن محادثات مباشرة وتأكيد إيران على مسار غير مباشر ظلال الشك حول حقيقة ما يجري خلف الكواليس.
صفقة حقيقية أم فخ عسكري؟
تتباين آراء المحللين والمسؤولين السابقين حول الدوافع الحقيقية وراء هذه التحركات الدبلوماسية المفاجئة. إذ يرى البعض أنها قد تكون مناورة تكتيكية أكثر منها سعيًا جادًا للتوصل إلى اتفاق.
ويقول إليوت أبرامز الذي شغل منصب مبعوث ترامب الخاص لإيران، لجريدة "جيروزاليم بوست"، بأن خوض المفاوضات قد يكون خطوة تمهيدية لتبرير عمل عسكري لاحق. ويضيف: "إذا كان ترامب جادًا بشأن إمكانية قصف إيران، فمن المفيد إجراء مفاوضات، والخوض فيها، ومشاهدتها تفشل، لتكون هذه هي تفسيرك لسبب اضطرارك لاستخدام القوة العسكرية".
ويقترح أبرامز تحديد مهلة زمنية ضيقة (30-60 يومًا) للإيرانيين للتوصل إلى اتفاق، معربًا عن قلقه من أن الإدارة قد تقبل بصفقة شكلية تشبه الاتفاق النووي الأصلي وتعلنها انتصارًا دون معالجة القضايا الجوهرية الأخرى كدعم إيران للجماعات المسلحة وبرنامجها الصاروخي. ويرجح أنه إذا تمسكت واشنطن بهذه المطالب، فإن إيران سترفض وستفشل المحادثات حتمًا.

هذا الرأي يتقاطع مع تحليل الدكتور رفعت سيد أحمد الكاتب والباحث والمدير العام والمؤسس لمركز يافا للدراسات والأبحاث بالقاهرة، الذي صرح لمنصة فكر تاني، بأن "المفاوضات هي تمويه أمريكي لتوجيه ضربة عسكرية لإيران وغطاء لاتفاق أمريكي إسرائيلي". وأعرب عن خشيته من أن "تقع إيران في هذا الفخ وتتعامل على أن هذا الاتفاق اتفاق جدي".
ويقارن الدكتور سيد أحمد بين الظروف الحالية واتفاق 2015، مشيرًا إلى أن الاتفاق السابق بُني على "مصالح متبادلة"، بينما الوضع الحالي يشهد "علوًا للشأن الإسرائيلي" ورغبة إسرائيلية في "استدراج إيران لتوجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية"، واصفًا مفاوضات عمان المحتملة بأنها "استدراج أكثر منه اتفاق وخوف أمريكي من إيران في هذه المرحلة".
مطلب إسرائيل الصارم ومفترق الطرق
الاجتماع بين ترامب ونتنياهو لم يخلُ من الإشارات إلى الرؤية الإسرائيلية للحل المنشود. ذكرت مصادر لجريدة "جيروزاليم بوست" أن نتنياهو أثار "النموذج الليبي" مرارًا خلال اللقاء.
يشير هذا النموذج إلى الاتفاق الذي أبرمته ليبيا في أوائل القرن الحادي والعشرين، والذي فككت بموجبه برنامجها النووي بالكامل، بما في ذلك المنشآت والهياكل المرتبطة به.
بعد اللقاء، أكد نتنياهو على أن إيران "يجب ألا تمتلك أسلحة نووية"، وأن تحقيق ذلك ممكن إما دبلوماسيًا أو عسكريًا. وشدد على أن الصفقة المقبولة يجب أن تكون على غرار النموذج الليبي: "ندخل، نفجر المنشآت، ونفكك جميع المعدات، تحت إشراف وتنفيذ أمريكي". واعتبر هذا هو "السيناريو المثالي".
أما "الخيار الثاني"، حسب نتنياهو، فهو المماطلة الإيرانية في المفاوضات، وعندها "يصبح الخيار العسكري هو الخيار الوحيد".

ورغم هذا التشدد، ألمح نتنياهو إلى إمكانية السماح لإيران بالحفاظ على برنامج نووي مدني بحت لتوليد الكهرباء، كمفاعل بوشهر، شريطة التفكيك الكامل لأي قدرات تخصيب ومنشآت مرتبطة بها.
هذه الرؤية الإسرائيلية المتشددة يرى الدكتور محمد سعيد إدريس، أستاذ العلوم السياسية ومستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية، أنها الأقرب للتطبيق. يقول في تصريحاته لـ فكر تاني، إن "إسرائيل لن تسمح بوجود قوى معادية لمشروعها وأن المفاوضات الأمريكية الإيرانية ذريعة لاستهداف إيران".
ويشبّه إدريس الموقف الإيراني الحالي بموقف مصر عام 1966 عندما رفضت المطالب الأمريكية (خفض الجيش، ووقف التصنيع العسكري، وفتح المنشآت النووية للتفتيش، والتخلي عن الدور القومي)، مما أدى، حسب رأيه، إلى عدوان 1967. ويرى أن الهدف النهائي هو "إسقاط النظام الإيراني المعادي لإسرائيل وخلق نظام إقليمي جديد بقيادة إسرائيل"، محذرًا من أنه "إذا سقطت إيران فلن يتبقى سوى مصر".
اقرأ أيضًا: لماذا تُفكر إسرائيل في ضرب إيران؟

طهران تفضل الدبلوماسية.. بشروط ومحاذير
في خضم هذه الضغوط والتحليلات المتشائمة، تؤكد إيران على تمسكها بالخيار الدبلوماسي، ولكن ليس بأي ثمن.
في مقال رأي نشرته صحيفة "واشنطن بوست"، أكد وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي أن بلاده "تفضل الدبلوماسية، لكنها تعلم جيدًا كيف تدافع عن نفسها". وقال عراقجي: "الكرة الآن في ملعب الولايات المتحدة، فإذا كانت تبحث عن حل دبلوماسي حقيقي، فقد أظهرنا لها المسار بالفعل. ولكن إذا كان هدفها فرض إرادتها من خلال الضغط، فيجب أن تعلم بأن الشعب الإيراني سيرد بشكل موحد وحاسم على لغة القوة والتهديد". وأضاف أن الفرصة متاحة أمام الرئيس الأمريكي ليكون "رئيس السلام"، وأن اغتنامها يعود لخياره.
هنا، تبرز معضلة الثقة والضمانات.
أحد أكبر التحديات التي واجهت إدارة بايدن في محاولات إحياء الاتفاق النووي كان مطلب إيران بضمانات موثوقة بعدم انسحاب إدارة أمريكية مستقبلية من الاتفاق، كما فعل ترامب. ومع عودته أو تبني رئيس مستقبلي لنفس النهج، يصبح هذا المطلب أكثر إلحاحًا وصعوبة.
وقد طالب المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، صاحب القرار النهائي في القضايا الاستراتيجية، مرارًا بهذه الضمانات التي يصعب صياغتها قانونيًا بشكل يمنع رئيسًا مستقبليًا من إلغاء الاتفاق، حتى لو تم التصديق عليه في الكونجرس (وهو ما لم يحدث لاتفاق 2015).

عقبات على الطريق
وتضيف المواقف الدولية تعقيدًا آخر للمشهد. فروسيا، الشريك الاستراتيجي لإيران، أوضحت حدود التزاماتها. ونقلت وكالة أنباء "APA" عن أندريه رودينكو، نائب وزير الخارجية الروسي، قوله ردًا على سؤال حول عدوان أمريكي محتمل ضد إيران، إن روسيا "ليست ملزمة بتقديم المساعدة العسكرية بموجب اتفاق الشراكة الاستراتيجية الشاملة مع إيران".
هذا الموقف قد يقلل من الردع الذي كانت تأمل طهران في توفيره عبر علاقاتها مع موسكو. لكن العامل الأكثر حسمًا والذي يغير قواعد اللعبة مقارنة بعام 2015 هو التقدم الهائل الذي أحرزته إيران في برنامجها النووي.
ويجمع المسؤولون الغربيون والخبراء على أن إيران باتت أقرب من أي وقت مضى للقدرة على بناء سلاح نووي. أبرز التغييرات تشمل:
المعرفة والتصميم: تعتقد وكالات الاستخبارات الأمريكية أن طهران سدت الفجوات المعرفية اللازمة لبناء الأسلحة النووية، وأجرت تجارب محاكاة حاسوبية وتجارب في علم المعادن ذات صلة، رغم عدم وجود دليل على اتخاذ قرار سياسي ببناء قنبلة فعلية.
التخصيب عالي المستوى: منذ عام 2021، تنتج إيران اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، وهي درجة نقاء قريبة جداً من الدرجة العسكرية (90%). وتراكم هذه المادة بمعدل يكفي لصنع سلاح نووي واحد شهريًا تقريبًا.
زمن الاختراق القصير: الأهم من ذلك، أن تحويل مخزون اليورانيوم المخصب بنسبة 60% إلى يورانيوم بدرجة 90% اللازم لصنع قنبلة واحدة، لن يستغرق سوى أسبوع إلى أسبوعين، وفقًا للتقديرات. وهذا يقلص بشكل كبير ما يسمى بـ"زمن الاختراق" (Breakout Time).
القدرة على بناء سلاح أساسي: يقدر المسؤولون الأمريكيون أن إيران قد تحتاج لبضعة أشهر فقط لبناء سلاح نووي "أساسي"، قد يكون كبير الحجم بحيث يصعب حمله على صاروخ باليستي، ولكنه يمتلك قوة تدميرية كبيرة.

معضلة المعرفة: الخبرة الإيرانية التي لا يمكن محوها
أشار مقال في صحيفة "وول ستريت جورنال" إلى "معضلة المعرفة" التي تواجه المفاوضين. حتى لو وافقت إيران على تفكيك بعض المنشآت أو التخلص من بعض مخزونها كما فعلت في 2015 (وهو ما قد يتطلب تنازلات أكبر بكثير من جانب الغرب الآن)، فإن المعرفة والخبرة التي اكتسبتها لا يمكن محوها. طورت إيران مهارات متقدمة في:
أجهزة الطرد المركزي: إنتاج وتركيب أجهزة أسرع وأكثر كفاءة لتخصيب اليورانيوم.
معدن اليورانيوم: استئناف العمل على إنتاج معدن اليورانيوم، وهو خطوة أساسية في صنع قلب القنبلة.
تقنيات التخصيب: إتقان كيفية إنتاج اليورانيوم عالي التخصيب مباشرة من مواد منخفضة التخصيب، مما يسرّع عملية التراكم.
وسائل الإيصال: تطوير برامج صواريخ باليستية وفضائية متقدمة، ضرورية لحمل رأس نووي.
وهذه المعرفة المتراكمة تعني أن الهدف الرئيسي لاتفاق 2015 – إبقاء إيران على بعد 12 شهرًا من امتلاك ما يكفي من المواد الانشطارية لصنع قنبلة واحدة – أصبح من الصعب جدًا، إن لم يكن مستحيلًا، تحقيقه مرة أخرى دون تفكيك كامل وشامل لجميع منشآت التخصيب الإيرانية.
وحتى عندما حاولت إدارة بايدن إحياء الاتفاق قبل سنوات، أقر المسؤولون الأمريكيون بأن "زمن الاختراق" سيكون أقصر بكثير بموجب أي اتفاق مجدد بسبب التقدم المعرفي الإيراني.
مستقبل غامض ومخاطر عالية
تقف المفاوضات الأمريكية الإيرانية المحتملة، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، عند مفترق طرق محفوف بالمخاطر. فبين الرغبة المعلنة في الدبلوماسية والشكوك العميقة حول النوايا الحقيقية، وبين المطالب الإسرائيلية المتشددة والتقدم النووي الإيراني الذي لا يمكن التراجع عنه، تبدو فرص التوصل إلى اتفاق دائم ومستقر ضئيلة ومعقدة.
ويبقى السؤال: هل ستنجح الدبلوماسية في نزع فتيل الأزمة ومنع الانزلاق نحو مواجهة عسكرية كارثية؟ أم أن هذه التحركات مجرد فصل جديد في لعبة عض الأصابع قد تنتهي بصدام يهدد استقرار الشرق الأوسط برمته؟ بينما الإجابة تكمن في نوايا اللاعبين الرئيسيين وقدرتهم على تجاوز انعدام الثقة وتقديم تنازلات مؤلمة. وهو أمر يبدو بعيد المنال في ظل التوترات الحالية والتقدم التكنولوجي الإيراني الذي غيّر المشهد بشكل جذري.