أرقبهم/ن كثيرًا؛ كيف تتغير أصواتهم/ن، وكيف يبدأ الشعر في النمو أو الاختفاء، وكيف ينحني عظم الحوض، وكيف تُنحت ملامح الوجه ببطء.
أراهم/ن يتأملون أجسادهم/ن في مرآة العيادة حين يأتي وقت الكشف. نصف مترددين/ات، ونصف مندهشين/ات، كأنهم/ن يختبرون أجسادهم/ن للمرة الأولى ويسألون أنفسهم/ن: "هل أصبحتُ أنا؟ هل اقتربتُ؟". وأنا.. أكتفي بالمراقبة، وبالإجابة الطبية الجافة التي تخفي تحتها تفهمًا عميقًا لا أجرؤ على الإفصاح به.
"علمني أنتظرك يا رب، عرفني رؤيتك للدرب"
على صوت الترانيم تأرجحت ألسنة الشموع تطبع بظلالها على الجدران الطينية رسمًا يُشبه أرواحًا حبيسة في زوايا بيتنا القديم. اختلطت الأصوات في روحي؛ فلا أشعر سوى بالصمت يلكأ قلبي، يشدني أبي بصوته الثابت الذي لا يلين: "يا رب، احفظ أبناءنا من الضلال، ولا تدعهم يحيدون عن ناموسك؛ قوِّهم ليكونوا رجالًا كما أردت لهم، ونساءً كما خلقتهم.. باعد بينهم وبين ما يعكر صفاء طبيعتهم".
أردُ بنبرة خافتة خائفة: "آمين"..

في الليل، تلك البيوت يكسيها السكون، والشوارع هادئة إلا من خطوات العائدين بعد يومٍ شاق، كل إلى بيته، لا مكان للجدال أو النقاش، ولا مجال لطرح الأسئلة، كيف يُشكك أحدنا فيما ينبغي أن يكونه؛ فالرجال يُولدون ليصبحوا رجالًا كالصخور الثابتة، والنساء يُولدن ليكنّ فقط نساءً، يُحصَدنَ كما يُحصد القمح، ويُطحن تحت رحى الحياة.
أبي، رجلٌ شديد، ضخم البناء، غليظ الروح، يعود كل ليلة من الحقل، يسبقه صوت خطواته ورائحة عرقه الحادة، وملامح شقاءً التصقت بجسده وبملابسه. يجلس على عتبة المنزل ويشعل سيجارته الأولى بعد يوم طويل، ينفث دخانها كأنه يطرد كل شكوى لم يُسمح لها أن تُقال، وفي عينيه لمحات من هزائم ينقلها بنظراته إلينا.
في طفولتي كنت أخاف الوحوش واختبىء منها تحت سريري. أذكر ابن الحادية عشرة، وهو يشق طريقه ليختبئ من صورته المنعكسة على المرآة، التي تحاول ابتلاع صوته. لكن، كانت صلواتي تخرج وحدها من فمي، حتى كاد رأسي أن ينفجر: "يا رب، هل تسمعني؟". أردد النداء ولا استجابة سوى من هدير الرياح خارج نافذتي، كأنها تواسي وحدتي.

"لم أعد أحصي عددهم"..
في كل مرة يأتي أحدهم أظن أنها مصادفةً، حالة فردية وسط جدول مواعيدي المزدحم، لكنهم/ن يأتون، واحدًا تلو الآخر، بنفس التردد الحذر، يجلسون على الكرسي أمامي، كما لو أن الجلوس نفسه قرار يحتاج إلى تفكير طويل.
أراهم/ن يبتلعون ريقهم/ن قبل أن يتحدثوا/ن، ينظرون إليّ ويبحثون في وجهي عن إشارات تخبرهم/ن إن كنتُ مثل الآخرين، أم سأستمع إليهم/ن حقًا، وهل أراهم/ن خطأً يحتاج إلى التصحيح؟
في البداية، لا أعرف ماذا أقول؛ فأنا طبيب باطنة. لست مختصًا في التعامل النفسي مع مرضاي، ولا أعرف كيف أعالج هذا النوع من الألم. لا أجيد التعامل مع الخوف والصمت. لكنهم يأتون إليّ، إلى عيادتي؛ تلك الغرفة الصغيرة بلا نافذة، يطرحون أخيرًا الأسئلة التي يخافون التعبير عنها في أي مكان آخر.

"يا ربي إفتح لي عيني، يا رب أنر لي قلبي"
في قريتنا، لا أحد يراني، أراقبهم/ن جميعًا، أتابع حركاتهم/ن وتصرفاتهم/ن. أعرف لمَ لا أنتمي إلى هنا، وهنا ليس تلك القرية الصغيرة فقط، هنا أيضًا هو جسدي، لا أريد أن أكون رجلًا مثل أبي. بداخلي أنثى تائهةٌ بين عالمين لا أنتمي لأيٍّ منهما بالكامل.
في طفولتي، كان اسمي مينا، اعتدت الهروب من انعكاس وجهي في المرايا، كأنني أخاف أن يخرج هذا الوجه الغريب مني، أن يعاتبني، وأن يسألني لماذا لا أرتدي جلابيب الصبيان، ولماذا أحب اللعب بالعرائس؟ لماذا لا أحب النظر إلى وجهي، ولماذا أنكره؟
أحيانًا.. كان يأتيني هذا الصوت من أيقونة يسوع المسيح المُعلقة فوق سريري، وفي الأحيان الأخرى، أسمعه يأتي من ظل أبي كلما مر أمام باب غرفتي.
كنت أختبئ في ثياب أمي، في عطرها، وفي حنانها الذي لا يفهمني، ولكن يحتويني على كل حال. لكنها كانت، دون أي تردد، تبني لي زنزانتي بيديها، كلما اشترت لي ملابس لا تشبهني.
كانت تقول: "بُكرة تكبر وتصير رجلًا يرفع رأسي".
"لكنني لست كذلك يا أمي..".
أنا أكبر دون أن أكبر. أنمو في جسدٍ لا أحبه، وأشعر بأنني أنكمش داخله، وكأنني شجرة بجذور مريضة ممتدة في باطن الأرض، لا تزال تُخرج أغصانًا، لكنها ضعيفة، هزيلة لا تجد الهواء الكافي كي تتنفس. لأنني، رغم كل شيء، لم أُولد بعد.

ذاك الطبيب يعرف. يعلم أن مرضاه مختلفين. يأتون جميعهم بنفس الشكوى؛ ألم غامض والتهاب متكرر، وأسئلة عن تغيرات جسدية لا يجرؤون على طرحها في أماكن أخرى. يجلس المرضى أمامه بتوتر خفي، ويتجنبون النظر إلى عينيه طويلًا. وهو لا يطرح كثير من الأسئلة، يكتفي بتشخيص طبي دقيق ومحايد، كأنها حالة عادية أخرى. لكنه يعرف. يرى آثار الهرمونات على الأجساد التي تحاول أن تتشكل من جديد، ويرى التغيرات البطيئة التي يتابعها أصحابها بقلقٍ وشغف وخوف.
يسمع كلمات خجولة بين الحين والآخر، وقت أن يفقد أحدهم حذره للحظة، أو حين تنهار كلماته في منتصف الجملة.
"أنا لست وحدي"..

قرأت عمن حبستهم أجسادًا لا تشبههم، وعرفت عمن تجرأوا وعبّروا بصوتٍ عال، ومن فرّوا، ومن قُتلوا. وفي كل مرةٍ، تتزايد ضربات قلبي، وبينما تُربكني حكاياتهم/ن، أكتشف جزءًا جديدًا عن نفسي، بينما يظل السؤال: هل هذا أنا؟ هل هناك تعريف لما أمر به؟ هل أنا خطيئة كما يصفني والديّ.. أم، أخطأ الله عندما خلقني هكذا؟
بحثت عما أختبره وأمر به في حكايات كتبها غرباء، بصوتٍ لم أجرؤ على تبنيه، شيئًا فشيئًا فهمت أكثر، حتى أنني ذات يوم رأيت وجهي في المرآة بعينٍ جديدة. لكن لم يفارقني الخوف. في الصعيد، لا متسع للخوف.
يوم اكتشف أبي، لم تكن المواجهة عادلة، لم يلجأ للعقل، بل هز جدران بيتنا بزلزال قوي. كنت أعرف أنني لن أنكر، وأن الكذب مؤقت والهروب مستحيل.
كانت يداه أسرع من صوته، صفعتة الثقيلة ألقت بي أرضًا، تلتها ركلة، ثم أخرى، سمعت صرخات أمي التي لم تقترب. صرخت بدوري، ولم أحاول الدفاع عن نفسي. ربما، لأني أدركت حينها أني لم أتعلم الدفاع عن نفسي بعد.
قال: "لو الكنيسة سمعت عنك، لو عرف أهل البلد يقتلوننا، وأنا أولكم!".
في تلك الليلة.. لم تُفارقني فكرة أن يأخذوني إلى الدير. فهناك، ينتهي كل شيء. لذلك هربت.

في عيادته الصغيرة على ناصية شارع شعبي، يجلس خلف مكتبه، وينظر بعينيه بين الأوراق التي لا شك أنه لا يقرأها. جدران حجرته مطليًا باللون الأبيض الباهت المقشر، ومكتبه الخشبي المتين يواجه خزانة زجاجية في داخلها زجاجات العقاقير الطبية، وأدوات الفحص الدقيقة، وعلى الطرف الآخر سرير الكشف. يمنح المكان هدوءًا ورتابةً محايدة.
أنا طبيب. لا أسعى إلى تغيير المجتمع، ولا أرفع الشعارات ولا أخوض المعارك في العلن، فقط أكتب الوصفات الطبية حسب احتياجاتهم/ن، وأُوصي بالتحاليل الضرورية، وأشرح التأثيرات الجانبية التي لن يخبرهم/ن بها أحد.
"لذذني بحبك الغني، وقُدني لنورك السني"..
هربتُ.. لا أعرف كيف أو إلى أين، لكنني شعرت، للمرة الأولى، أنني على قيد الحياة. ورغم أن القاهرة لم تعد حلمًا أو ملاذًا، وليست أكثر من كابوس بطيء، يبتلع كل وافدٍ إليها، لتهرسه بين أسنانها وتبصقه على الأرصفة، إلا أنها منحتني الحرية من قيود القرية.
وصلتُ إليها بلا مأوى وبلا خطط، وبقلب يرتجف، ولم أكن حتى أعرف حينها، هل هروبي هذا يُعد نصرًا أم هزيمة مؤجلة. لم يكن معي سوى مائتي جنيه، ثمن الذهاب بلا عودة، وبعض ملابس لم تعد تشبهني.
مشيت أبحث عن مكان ألقي فيه جسدي، عن جدار استند إليه دون أن يسألني أحد عن أصلي أو وجهتي.. ومع أذان الفجر، وجدت مسجدًا صغيرًا في حيٍ شعبي، جلست بعيدًا محنيةً، متظاهرةً بأنني مصلٍّ تأخر عليه النوم، نظر إليّ الحارس بريبة، تمتمت بكلمات عن ضياع بطاقتي وسرقة حقيبتي، فتركني أستكين وأبيت ليلتي.
خرجت مرة أخرى إلى الشارع، شعرت بالجوع والتعب والإرهاق، دخلت أحد محال الأكل بحثًا عن عمل، وقفت أمامه: "أنا ممكن أشتغل أي حاجة". نظر إليّ صاحب المطعم بكسل، وقال لأحد العاملين: "خذه يغسل الأطباق، وإذا سرق.. اضربه".

في المطبخ، تراكمت الصحون أمامي كحائطٍ كبير يفصلني عن العالم. تضررت بشرتي كثيرًا من المنظفات الرخيصة، تشقق الجلد فوق يدي، وتلقيت الشتائم والماء القذر في صمت. ابتلعت الإهانات حتى تمر، لكنها لم تمر. لم ينقذني الصمت، بل كان سببًا في مزيد من الإهانة.
كنت أجمع القمامة في الحوش الخلفي ذات ليلة جاء فيها أحد العمال الأكبر سنًا إليّ، كان قوي البنية، وفي عينيه مزيجًا بين نظرات القسوة والملل، وقف أمامي وأشعل سيجارته ببطء ونفث دخانها في وجهي، قائلًا: "أنت مش طبيعي، صح؟"، واقترب أكثر: "أنا عارف العينة دي، شوفت زيك قبل كده". تراجعت خطوة، فمد يده مُهددًا: "محدش هيحس بيك لو اختفيت، فاهم؟"، فتركت عملي في المطعم دون أن أطلب أجرتي، ومشيت في الشوارع مرة أخرى كالطفلة الضائعة، لكني أعرف أن لا أحدًا يبحث عني.
قضيتُ الليالي أنام على الأرصفة، أضم جسدي بين يديّ وأحاول ألا أفكر في شيء، ففي القاهرة، لا أحد يراك حقًا، وفي الليالي الباردة، أتعلم كيف أصبح شبحًا كي أبقى على قيد الحياة.
أعمل الآن في ورشة سيارات بشارع جانبي. أرتدي كوفيّة كي أخفي وجهي. وأتأقلم، فلا سبيل آخر لديّ، ولا أمل في الرجوع إلى البيت، ففي الغالب ماتت أمي بحسرتها، وتبرأ أبي من ابنًا لم يعد له وجود.

أُصبت بالمرض نتيجة عملي الشاق في الورشة، لم تُسعفني يوميتي البسيطة إلا للذهاب إلى مستشفى حكومي. داخل هذا المكان، تختلط رائحة الرطوبة العطنة برائحة المطهرات، ويمتزج كلاهما مع رائحة العرق والعفن الإنساني، كما لو كانت معزوفة طويلة من الانهيار الصامت.
الجدران، التي كانت في السابق بيضاء نقية، تقشرت حتى باتت تشبه جلدًا ميتًا يتساقط بلا اكتراث، كأنها تعكس مصائر من يمرون من هنا، بأرواح متآكلة تحت وطأة الحاجة، وأيامهم تُحسب بأنفاسهم الثقيلة التي تملأ هذا الفراغ المعتم.
أما الطابور أمام العيادة، فهو امتداد حيّ لحالة الهجر. أجساد بشرية فقدت ملامحها الأصلية، فلم يبقَ منها سوى التعب. الجميع لا أحد يهتم بشفائه. فقط جاءوا إلى هنا كي يتوقف الألم، ولم أكن مختلفةً عنهم. ربما كنتُ واحدةً منهم منذ البداية، لكنني لم أدرك ذلك إلا الآن.

داخل غرفة الكشف، الهواء بارد بطريقة مزعجة، كأنه قد تعمد أن يكون غير مُرحِب بنا. يجلس الطبيب خلف مكتبه، محاطًا بأوراقه كحصن منيع، لا ينظر إلى مرضاه، يبدو كمن يتحاشى التواصل معهم. لا علاقة إنسانية بيننا وبين طبيبنا. هو أيضًا يهتم بأن يُوقف الألم فقط، دونما اكتراث بالعلاج، فلا يعنيه شفاءنا.
"فحبك أعظم طوق للنجاة"..
مددت يديّ في الهواء حتى أشرح ما بها؛ فجلد يداي الملتهب هو شهادتي على ما مررتُ به. نظر إلي الطبيب وفي عينيه احتمالات وتفسيرات كثيرةٍ تُلقى كالسهام بلا اكتراث. لم يسأل عن ألمي، ولم يحاول أن يفهمه، بل كان يبحث عن شيء آخر، عن تفسير أسهل وحكم مسبق يسد الفراغ الذي تملؤه إنسانية لم يعد قادرًا عليها. أبقى بيننا مسافةً مدروسة، مسافةً شكلتها سنوات من الاعتياد على اختزال البشر في ملفات طبية وأرقام تأمين، وأجسادٍ تمر بسرعة دون إنقاذ.
شعرت أنني وصمةً لم يُعلن عنها بعد. الكلمات تخرج مترددةً في البداية، ثم تصبح واثقةً، أسئلة جميعها بعيدة عن شكواي.. من أين أتيتُ بهذا؟ أين كنتُ؟ ومن لمستُ؟
كتب وصفته سريعًا وبلا اهتمام، يجب أن أُفسح مجالًا لمن بعدي، لدورةٍ أخرى من التجاهل، لعمليةٍ أخرى من اختزال الإنسان في "شيءٍ" لا يستحق الرحمة. كان الطبيب مثل قاضٍ منهك من كثرة الأحكام دون محاكمة، لأننا جميعًا قد أذنبنا سلفًا.
ذات يوم، عرفت طبيبًا "لم يكن في وسعه فعل الكثير، لكنه يفعل ما يستطيع"، جلست أمامه ولم يخترقني بنظرات الاشتباه والمحاصرة، سأل عن شكواي وبدا متفهمًا، بل بدا عارفًا بكل ما مررت به ومُقدرًا للتجربة.

لا أحد يعلم.. لا زملائي في المستشفى، ولا أصدقائي، ولا حتى أسرتي. في هذا البلد، لا يمكن أن تصبح طبيبًا للعابرين دون أن يعتبرونك عابرًا معهم، دون أن تُعامل كخائن لقواعد اللعبة، فأنت يد تساعدهم على العبور إلى الضفة الأخرى.
أحيانًا، أشعر بقلة حيلتي. حين تأتي إلي فتاة في العشرين بنظرة خائفة، تسألني عن عملية لا أستطيع إجراؤها هنا، وعن مستقبل لا أملك أن أعدها به، أو يأتي شابًا بنظرة منهكة يروي لي كيف يرفض الأطباء الآخرون لمس جسده، وكيف يعامله الجميع مثل الكائن الغريب، لا يعتبرونه بشرًا، ويحكي كيف لم يعد يطيق النظر إلى نفسه في المرآة.
في تلك اللحظات فقط، أكره كوني طبيبًا؛ فالطب، رغم كل قدرته، لا يملك علاجًا لهذا النوع من الألم. ومع ذلك، لا أستطيع التوقف. أستمع إليهم، وأكتب الوصفات، وأمنحهم/ن غرفةً صغيرة في هذا العالم، غرفةً لا يضطرون فيها إلى الاختباء.

"فليس لي سواك أنت سندي"..
حين جلست أمامي كانت كمن أنهكته الرحلة قبل أن تبدأ، لم يكن جسدها ضعيفًا، لكنه مشدودًا كوتر لم يعزف النغمات منذ زمن، مثل حبلٍ مشدود بين هاويتين لا هو سقط ولا هو تحرر.
في عينيها ظلال حكايات لم تُحكَ، وتاريخ من التخفي والانكماش، ومحاولات تقليص الذات حتى تصبح غير مرئية.
كانت كائنًا يختبر هشاشة الوجود ذاته، في كل انحناءة من كتفيها، في كل حركة محسوبة بدقة، كانت هناك معادلة بقاء معقدة، كأنها تسير في حقل ألغام لا يعرف عنه أحدًا سواها.
حين مددتُ يدي إلى موضع الالتهاب، شعرتُ ببرودة جلدها تحت القفاز، بارتجافةٍ خفيفة تكاد تكون غير مرئية، لكنها محسوسة، كنبض خافت في ليل طويل. لم تكن ترتعش خوفًا مني بقدر ما كانت ترتعش خوفًا من لحظة الاعتراف، من مواجهة انعكاسها في عيني طبيب لا تعرف كيف سيحكم عليها.
كنت أعرف هذا الشعور، رأيته من قبل في وجوه أخرى، في عيون حملت ذات السؤال الصامت: "هل تراني كما يراني الآخرون؟ هل تعتقد أنني خطأ يجب تصحيحه؟".
حين شرحتُ لها حالتها، لم تكن تستمع فقط، بل كانت تقيس كلماتي على ميزان حساس. لم تكن تسأل عن المرض، بل كانت تسأل عن حقها في أن تكون، عن فرصتها في ألا تكون موضع استجواب دائم.
رأيت في ملامحها شبح الاستسلام الحذر، ذلك النوع من الهدنة المؤقتة التي يعقدها الإنسان مع الحياة حين يدرك أن المقاومة المستمرة تستنزفه أكثر مما تحميه، لم يكن ارتياحًا، ولم تكن ثقة، كان شيئًا أقرب إلى السماح للحظة أن تكون طبيعية، بلا دراما وبلا دفاع، وبلا خوف.
غادرت ولم تترك وراءها غير مقعدٍ فارغٍ. تركت أسئلةً لم أعرف إجابتها يومًا. لطالما تساءلتُ.. كم من المرات يواجهن/ون مثل هذه اللحظة؟ وكم من الأبواب أُغلقت في وجههن/وجوههم؟ وكم من العيون نظرت إليهن/هم ريبة؟ لكنني، في تلك اللحظة العابرة على الأقل، فتحت لها بابًا صغيرًا، لا يعد بشيء، لكنه على الأقل لا يهدد بسلبها ما تبقى منها.
راقبتُها وهي تختفي خلف الباب، خطوة بعد خطوة، كأنها تختبر خفتها الجديدة، كأنها تحاول أن تقنع نفسها أن العالم، ولو للحظة، لم يكن سيفًا مسلطًا على رقبتها.

تستوحي هذه القصة إلهامها من سلسلة لقاءات ضمن مبادرة "فكّر تاني"، شاركت فيها عابرات وأطباء وطبيبات ممن عاشوا/عشن تجارب مشابهة.
*الترنيمة: عَلِّمْنِي أنتظرُك يا ربْ