المرأة والكنيسة.. أين الصوت النسائي في اتخاذ القرار؟

تحظر الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ترسيم النساء في السلك الكهنوتي، الذي يحتكر سلطة اتخاذ القرارات داخل المؤسسة الكنسية، ويمتد الجدل إلى دور المرأة في الكنيسة، حيث تُمارس سلطات المنح والمنع ضمن إطار تقليدي محافظ.

وبينما يسود مبدأ "الرجل رأس المرأة"، يؤكد الإكليروس أو أصحاب الرتب الكهنوتية، على مبدأ المساواة الروحية بقولهم إن "الجميع واحد في المسيح، الرجل كالمرأة".

غير أن هذه النية في المساواة المعلنة لا تنعكس بوضوح في صنع القرار الكنسي، فتبقى المرأة على الهامش، تراقب أكثر مما تشارك في الإدارة، فإلى أي مدى تحقق الكنيسة ما تروج له من مساواة؟ وأين يقع الصوت النسائي في هذا السياق؟

العمل الإداري والخدمي في الكنيسة

 تقول أليسا والتر في أطروحتها المعنونة بـ" أقلية الأقلية: تاريخ المرأة في الكنائس القبطية" أنه مع تراجع النخبة القبطية والمجلس الملي في خمسينيات القرن الماضي أصبح الإكليروس هم الطرف المسيطر بشكل كامل على المجتمع القبطي وبالتالي سيطر الاتجاه المحافظ حول دور المرأة الذي يرى أنه يتلخص في تربية الأطفال وإعداد جيل جديد للكنيسة، وفي غياب حركة قبطية علمانية موازية لم يعد متاحًا أن تنصف النساء بطريقة أكثر انفتاحًا، إلا من خلال انخراطها في الأنشطة الكنسية شيئًا فشيئًا، حتى أصبحت تقود أدوارًا إدارية في المجتمع الخدمي الذي شكلته الكنيسة "المدراس والمستشفيات والمكتبات" دون تواجد حقيقي في مجتمع صنع القرار.

ويعلق الكاتب الصحفي سليمان شفيق، في حديثه مع فكّر تاني، على وضع المرأة في الكنائس التقليدية: "تتبنى هذه الكنائس موقفًا سلبيًا تجاه النساء، إذ تقتصر مشاركتهن على الأعمال الخدمية دون منحهن أدوارًا إدارية حقيقية"، ويؤكد أن تمثيل المرأة في الكنيسة لا يزال شكليًا إلى حد كبير، مستدلًا على عدم وجود أي امرأة تترأس مجلس كنيسة حتى الآن، وهو ما يعكس -برأيه- إقصاءً ممنهجًا للنساء وتجاهلًا لدورهن القيادي وقدراتهن في صنع القرار.

الكاتب الصحفي سليمان شفيق 

ويُرجع شفيق تضييق مساحات الأدوار الإدارية للمرأة إلى عاملين رئيسيين: الأول هو هيمنة الإكليروس، الذين يتبنون مواقف متحفظة تجاه إشراك المرأة في الإدارة، خاصة في ظل الطابع الذكوري الواضح للكنائس التقليدية، أما العامل الثاني، فيكمن في التهميش العام لدور العلمانيين، وهو ما يتجلى في تجميد المجلس الملي حتى اليوم، مما أدى إلى تغييب آراءهم وتقليل مشاركتهم في شؤون الكنيسة.

ويصف شفيق هذه المواقف بأنها تستند إلى تفسيرات مغلوطة يغلب عليها الطابع الذكوري، ما يستدعي مراجعة جادة للنهج المتبع تجاه دور المرأة في الحياة الكنسية والإدارية.

 في سياق متصل كانت أبرز توصيات مؤتمر الآباء الكهنة في مطرانية المنيا  عام 2021 هو منع المرأة من تولي أي أعمال إدارية داخل الكنيسة، والمقصود بهذا إبعادها عن وظائف إدارة المكتبة أو الكانتين أو أي أعمال أخرى، غير أن هذه التوصية أثارت وقتها الآراء حول دور المرأة في الكنيسة من الناحية الإدارية في ظل الإقصاء الكامل في الناحية الليتورجية (الصلاة والعبادة) ومدى تمثيلها أيضًا في مجالس الكنائس.

وبهذا الصدد حاولنا التواصل مع المتحدث الرسمي للكنيسة القبطية الأرثوذوكسية لمعرفة نسبة تمثيل المرأة في مجالس الكنائس، ولم يرد. 

اقرأ أيضًا:علمانيون ورهبان: كيف أدار الأراخنة شؤون المسيحيين ما قبل سيطرة البطاركة؟ (2)

مجالس الكنيسة.. حضور محدود رغم الكفاءة 

"قبل ابتعادي كنت أشغل منصب أمينًا للخدمة الكنسية، وبحكم موقعي كنت على دراية بما يحدث داخل مجلس الكنيسة "مجلس كنسي شعبي يُشكّل بإشراف الكهنة لإدارة الشؤون الإدارية والمالية للكنيسة" وتحديدًا فيما يخص معايير اختيارهم للنساء، كان وقتها يجب أن يتم انتخاب سيدة واحدة في المجلس ليظهر أن هناك تمثيل حقيقي للنساء، لكن الواقع أنه لم تكن هناك مساحة مفتوحة للتقدم والترشح، وكان يتم تكليف إحدى السيدات اللاتي يخدمن في الكنيسة وكان الاختيار يقع دائمًا على السيدات ضعيفات الشخصية تمامًا".. يقول عماد رائف -اسم مستعار- أمين خدمة سابق لإحدى الكنائس في محافظة الجيزة لـ فكّر تاني.

 يضيف رائف: "ذات مرة أخبرتني إحدى الشابات في الكنيسة أنه تم اختيارها لتكون عضوة في المجلس، دعمتها وشجعت وجودها، لكن بعد عدة مرات من حضورها الاجتماعات الدورية التقينا مرة أخرى فحكت لي أنها تجلس صامتة تمامًا، حيث لا يُسمح لها بإبداء الرأي أو الحديث لدرجة أنها شعرت كما لو أنها غير موجودة معهم في نفس المكان، لذا قررت أن تترك هذه العضوية المٌهينة والصورية".

وفي السياق نفسه، يشير الكاتب سليمان شفيق إلى المجلس الملي  ويقول: "آخر مرة حظيت فيها المرأة بتمثيل في المجلس الملي كانت خلال عهد البابا شنودة". موضحًا أن مشاركة المرأة في مجالات الخدمة الكنسية واسعة وملحوظة، لكنها في المقابل تظل غائبة تمامًا عن مواقع التمثيل القيادي، خاصة في الأدوار المتعلقة بالإكليروس أو خدمة الهيكل.

ويختصر شفيق الموقف بقوله إن المرأة ما تزال محرومة من أي دور فعلي في صياغة القرارات داخل الكنيسة، كما يطالب  أن من مسؤولية رئيسات الأديرة المطالبة بحقوق المرأة ضمن جلسات المجمع المقدس، لضمان مشاركة أكثر فاعلية في صنع القرار الكنسي، ويرى أنه من الضروري أيضًا تحقيق تمثيل حقيقي للمرأة في مجالس الكنائس، وكذلك في المكتب الفني، الذي يعتبره البابا تواضروس بديلًا عن المجلس الملي. 

وبالحديث عن المجلس الملي العام للأقباط الأرثوذكس، فإنه لم تظهر به أي مشاركات نسائية إلا في المجلس الأخير المنتخب عام 2006، حيث بلغ عدد الأعضاء اثنا عشر، من بينهم امرأتان هما المستشارة إلهام نجيب والدكتورة جورجيت قليني، أما في انتخابات عام 1995، فقد اقتصرت المشاركة النسائية على سيدة واحدة فقط وهي أنجيل بطرس سمعان. وبين هذه الأرقام والواقع الفعلي، يبدو أن الطريق نحو تحقيق مشاركة أوسع للمرأة ما يزال طويلًا. 

 اقرأ أيضًا:صلّي وتحملي زوجكِ.. تجميل العبودية بالقداسة

اختيار البطريرك.. تمثيل محدود

في كتابها الشهير "قصة الكنيسة القبطية"، تحكي المؤرخة إيريس حبيب المصري أنه في عام 1959، قيدت اسمها مع 35 سيدة أخرى للاشتراك في انتخاب البطريرك، في خطوة تعكس رغبة نسائية في المشاركة بصنع القرار، لكن تلك المحاولة لم تكتمل؛ إذ قام وكيل المجلس الملي آنذاك بشطب أسمائهن على الفور، في إشارة واضحة لرفض تدخلهن كنساء علمانيات في اختيار رأس الكنيسة.

ورغم أن لائحة انتخاب البطريرك شهدت تعديلات فتحت الباب أمام مشاركة نسائية محدودة، فإنها لم تخلُ من مظاهر التمييز القائم على النوع، فنصت المادة 15 من الباب الرابع على حق جميع الآباء كهنة الأديرة وأعضاء الكرازة المرقسية داخل مصر وخارجها في تسجيل أسمائهم بجداول الانتخاب، في حين مُنح هذا الحق لرئيسات أديرة الراهبات و10% فقط من راهبات كل دير.

كما سُمح لجميع المكرسين الرسميين في الأبرشيات بالمشاركة دون تحديد عددي، بينما اقتصر تمثيل النساء على اللجنة العامة للمكرسات ومكرسات القاهرة والإسكندرية وأمينة المكرسات في كل إيبارشية.

هذا التفاوت في المعايير أظهر بوضوح الانتقائية في تمثيل المرأة داخل العملية الانتخابية لبطريرك الكنيسة؛ ففي الوقت الذي أُتيحت فيه المشاركة للرجال دون قيود عددية، ظل حضور المرأة محدودًا ومحصورًا في مناصب بعينها.

يطرح الباحث إسحق إبراهيم في دراسته "ديمقراطية الإكليروس!" تساؤلات حول مدى عدالة لائحة انتخاب بابا الإسكندرية، معتبرًا أن التمييز القائم على النوع لا يتماشى مع مبادئ المساواة، وبالتالي، يرى أن المشاركة النسائية في انتخاب البطريرك ما تزال شكلية ومحدودة، وتُظهر انتقائية واضحة في تمثيل المرأة داخل الكنيسة، ما يستدعي مراجعة شاملة لضمان تمثيل عادل يواكب تطورات المجتمع ويحقق مبدأ الشراكة الحقيقية بين الرجال والنساء في اتخاذ القرار.

هيمنة صارمة

يرى القمص اليشع سعد، كاهن كنيسة مارجرجس بمحافظة بني سويف، أن هناك عوامل متعددة تؤثر على النظرة تجاه المرأة داخل الكنيسة، أبرزها التأثير اليهودي على الإكليروس، والذي ما زال حاضرًا حتى اليوم.

ويوضح القمص لـ فكّر تاني، أن تلك النظرة تظهر في بعض الممارسات مثل عدم تعميد المولودة الأنثى إلا بعد 80 يومًا مقارنة بـ 40 يومًا للذكر، والاعتقاد بعدم طهارة المرأة خلال فترة الحيض. كما أن بعض الطقوس، مثل "تحليل المرأة الوالدة"، تعزز من الصورة السلبية، إذ توحي بأن الولادة خطيئة تستوجب التطهير، مما يعكس تأثيرًا عميقًا على صناع القرار الكنسي، خاصة الأجيال الحالية.

"هناك عامل آخر تتسبب فيه البيئة المجتمعية المتشددة، حيث الخطابات الإعلامية التي تقلل من شأن المرأة، مما يخلق جرعة زائدة من الطرح الديني حولها، وهو أمر يتناقض مع نهج المسيح نفسه".. موضحًا أن الثقافة العامة ومستويات التمدين تلعب دورًا رئيسيًا، حيث يرى أننا نعيش حاليًا في مرحلة متدنية من التحضر.

أما العامل الثالث، -بحسب القمص- فيكمن في هيمنة الفكر الرهباني على الكنيسة، حيث إن جميع الأساقفة هم رهبان، وهم من يتخذون القرارات، مما قد ينعكس على نظرتهم للمرأة، خاصة في ظل تأثرهم بالعوامل الأخرى المذكورة.

ويفسر القمص اليشع أن عديد من المسيحيين يعتمدون على كلمات بولس الرسول بشأن المرأة دون الأخذ في الاعتبار خلفيته اليهودية وسياق عصره، مما يؤدي إلى الإبقاء على وصايا زمنية لا تصلح للتطبيق في العصر الحالي. ويلفت إلى أن بعض الكهنة يفتخرون بفرض تغطية الشعر على النساء، وينشغلون بالوعظ في هذا الأمر على حساب قضايا أكثر أهمية، بل يصل الأمر إلى منع النساء من دخول الهيكل، رغم أنهن يتناولن سر الإفخارستيا، الذي يعد أقدس من الهيكل كمكان.

وفيما يرى القمص اليشع سعد ضرورة التأكيد على تحقيق مساواة أكبر بين الرجل والمرأة داخل الكنيسة، وتمكين المرأة من المشاركة في مواقع صنع القرار، بدلًا من الاستمرار في إعادة تدوير الأفكار القديمة خلال السنوات القادمة.

بينما يرى الكاتب سليمان شفيق في المقابل أن الأساس في هذه القضية يكمن في إحداث تغيير جوهري في النظرة اللاهوتية التقليدية للمرأة، وهو ما يمكن أن يشكل نقطة تحول في معالجة هذه المسألة، ويعتقد أن البابا تواضروس يمتلك القدرة على لعب دور محوري في هذا التغيير، سواء على مستوى الفكر اللاهوتي أو في آليات الإدارة الكنسية.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة