تمثل عمليات تقسيم وهندسة الدوائر الانتخابية التي تقوم بها جهات تنظيم وإدارة العمليات الانتخابية، أحد أهم المكونات المتعلقة بصياغة الشكل النهائي المحدد لطبيعة النظام الانتخابي الوطني، وتحديد مدى قدرة هذا النظام على تحقيق الغايات والنتائج المرجوة من ورائه، سواء كان الهدف هو التعبير الحيادي والحر عن ارادات الناخبين أو كان الهدف هو ضمان استمرار الهيمنة على المشهد وإضفاء قوة مصطنعة لصالح تيار سياسي معين.
حيث تتجاوز قيمة عملية التقسيم، مجرد كونها تعكس التعبير العادل والمتساوي لحجم تلك الدوائر الانتخابية وعدد الناخبين المقيدين للتصويت بكل دائرة منها، لتصبح تلك المكونات والتركيبات السكانية والديموغرافية، عنصرًا بالغ الأهمية في تشكيل ثقافة التصويت وتحديد الفائز بالمقعد التنافسي.
تقسيم الدوائر الفردية لمجلس الشيوخ قد اعتمد نمطًا جغرافيًا يجعل من كل محافظة (دائرة) انتخابية واحدة بإجمالي عدد (27) دائرة انتخابية يختلف عدد الفائزين بمقاعدها مع ثبات مكوناتها
مشكلات وتحديات
وربما للأسباب والتحديات السابقة كان التوافق على طريقة التقسيم سببًا فى بطلان وإلغاء عدد من العمليات الانتخابية التي فشلت قواعدها التنظيمية والإدارية، في الاستجابة للمحددات المنصوص عليها في الدستور الوطني القائم وقت الدعوة لتلك الانتخابات.
بل وكانت مشكلات وتحديات الوفاء بالاشتراطات الدستورية المتعلقة بـ ( التقسيم العادل للسكان والمحافظات والتمثيل المتكافئ للناخبين) سببًا في إلغاء الدعوة لإجراء العمليات الانتخابية بأحكام دستورية في مناسبتين مختلفتين (مارس 2013 - مارس 2015)، والتي تضمنت أحكام الدستورية بشأنها العديد من الأمثلة الوقائعية لفساد وتناقض تقسيمات الدوائر مع معايير العدالة والتكافؤ ولتكون عملية حذف جملة ( التمثيل المتكافئ للناخبين) هي إحدى الغايات الكبرى، التي جرى الترويج بها وتحققت عبر التعديلات الدستورية 2019 ، لضمان القدرة على تطبيق نمط للتقسيم لا تحوم حوله شبهات العوار الدستوري.
تبقى للنمط الجغرافي لتقسيم الدوائر الانتخابية قيمته وتأثيراته على توجيه انحيازات وتفضيلات الناخبين تصويتيا لصالح مرشحين لم تكن لديهم فرص سابقة للفوز أو خصما من مرشحين كان المقعد في قبضتهم قبل تلاعبات الدمج والتفكيك الموجه
تقسيم الدوائر الانتخابية
الغريب في الحالة المصرية لتقسيم الدوائر الانتخابية المرتبطة بالمواسم الانتخابية، التي تمت في أعقاب الحراك الشعبي في 2011 والتي بلغت (5) عمليات تنافسية بينها (3) لمجلس (الشعب / النواب) و (2) لمجلس (الشورى / الشيوخ) كونها قد اتسمت بالفوضى وعدم الاستقرار في عمليات التقسيم وتحديد المكونات الجغرافية من عملية لأخرى، لتجري كل منها وفقًا لتقسيم جغرافي وإداري، لا يتكرر بعدها في أية عملية انتخابية وبما شكل تحديًا حقيقيًا أمام استقرار ثقافة الناخب وقدرته على تحديد نمط أو معايير مستقلة لقياس التفضيلات التصويتية التي تساعده على اختيار من يمثله.

ويكفي للتعرف على مخاطر الملمح السابق بخصوص تقسيم الدوائر الانتخابية أن نعود لآخر تلك العمليات الانتخابية ذات الطابع النيابي (النواب - الشيوخ 2020) لنجد أن كلا منهما قد ذهبت في اتجاه يخالف الأخرى، واعتمدت على قواعد تتغير من تصويت لأخر رغم أن المجلسين قد جرت انتخاباتيهما خلال (5) شهور متصلة ومتتالية، لنرى أن تقسيم الدوائر الفردية لمجلس الشيوخ قد اعتمد نمطًا جغرافيًا يجعل من كل محافظة (دائرة) انتخابية واحدة بإجمالي عدد (27) دائرة انتخابية يختلف عدد الفائزين بمقاعدها مع ثبات مكوناتها، بينما عند الذهاب لانتخابات مجلس النواب نجد أنه تم تقسيم البلاد إلى (143) دائرة انتخابية وفقًا لقاعدة التقسيم على أساس المركز أو القسم الإداري، لنجد أنفسنا أمام دوائر من قسم إداري واحد ودوائر من قسمين ودوائر من ثلاثة أقسام.
توزيع المقاعد
اما فيما يتعلق بتوزيع المقاعد بين الدوائر المختلفة، فقد غابت عنه أنماط التماثل والتكرار الذي يعزز معايير الاختيار والتصويت، لنجد شتات ولوغاريتمات عديدة تظهر عند تحليل أعداد المقاعد المطلوب انتخابها، فنجد في مجلس الشيوخ (8) محافظات تنتخب كل منها نائب (واحد) بينما محافظة القاهرة تنتخب بمفردها (10) نواب وبينهما تتوزع باقي المحافظات بأرقام مختلفة.
أما في مجلس النواب نجد اننا أمام (44) دائرة تنتخب كل منها نائب وحيد وعدد (62) دائرة تنتخب كل منها نائبين وعدد (32) دائرة تنتخب كل منها ثلاث نواب لتبقى (5) دوائر تنتخب كل منها أربعة نواب وهي عمليات تقسيم يستحيل على خبير متخصص فهم تفصيلاتها وتفهم محدداتها فكيف بمواطن بسيط؟!!!
القوائم المغلقة المطلقة
وبالذهاب للنظام الانتخابي الثاني (القوائم المغلقة المطلقة) نجد أن التقسيم الجغرافي يزيد المشهد إرباكًا بين دائرة قوامها (3) محافظات تقابلها دائرة أخرى تضم (11) محافظة وبين عملية يتم التصويت فيها لاختيار (15) عضو لعملية يرتفع فيها العدد إلى (42) عضو مع ثبات المكونات الجغرافية.
عند الذهاب لانتخابات مجلس النواب نجد أنه تم تقسيم البلاد إلى (143) دائرة انتخابية وفقًا لقاعدة التقسيم على أساس المركز أو القسم الإداري، لنجد أنفسنا أمام دوائر من قسم إداري واحد ودوائر من قسمين ودوائر من ثلاثة أقسام.
وبالرغم من تأثيرات فوضى القواعد وغياب النسق الحيادي لتقسيم التي تتبدي من الرصد السابق، إلا أن الأخطر بشأن عدم استقرار القواعد التنظيمية يتمثل في تأثيراتها المرتبطة بعدم القدرة على ضمان موضوعية التمثيل وكفاءة الاختيار التصويتي للناخبين، في ظل أجواء تعلي وتعزز من الاختيار على أسس تمثل بذاتها خطرًا على الدولة الوطنية أو ممكنات الأداء النيابي العادل، ومنها التصويت على أساس العشائريات القبلية، أو الإنفاق الترفي، أو الاستنفار على أساس عقائدي، باعتبار أن القادرين على استخدام تلك الأدوات يصبحون في تلك المناخات المختلة هم المرشحين الأوفر حظًا.
في النهاية تبقى للنمط الجغرافي لتقسيم الدوائر الانتخابية قيمته وتأثيراته على توجيه انحيازات وتفضيلات الناخبين تصويتيا لصالح مرشحين لم تكن لديهم فرص سابقة للفوز أو خصمًا من مرشحين كان المقعد في قبضتهم قبل تلاعبات الدمج والتفكيك الموجه.